حقيقة الجن وسبيل التحصن من الشياطين

 

الجن اسم جنس لعالم آخر , والجني واحد الجان والجن . وإذا كان الجن ممن يساكن الناس , قالوا : عامر , جمع عمار، وإذا كان مما يعرض للصبيان ، قالوا : أرواح . والخبيث من الجن هو الشيطان , والأشد خبثاً مارد . ومن اشتد أمره من المردة : عفريت , وجمعه عفاريت [1].


 


 

والجن ثلاثة أصناف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صنف يطير في الهواء , وصنف حيات وكلاب , وصنف يحلون ويظعنون ) [1].

 

    وردت آيات قرآنية كثيرة في الجن ، وسميت السورة الثانية والسبعون من كتاب الله تعالى باسمهم : " سورة الجن ". وأجمعت الأمة على أن عالم الجن موجود , كما أجمعوا على الاستعاذة بالله العظيم من شرورهم , ومن يعرف عجائب خلق الله عز وجل وعظمته وقدرته  لن يستغرب وجود عالم الجن غير المرئي , ووجود عالم الإنس المرئي , فكلاهما من مخلوقات الله تعالى العقلاء . وكان لبعض القدامى اعتقادات عجيبة في الجن ؛ حتى إن بعضهم جعل الجن شركاء لله عز وجل , فأبطل القرآن هذا كله ؛ فقال عز من قائل : وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجن إنهم لمحضرون . سبحان الله عما يصفون [2] . والجن مخلوقون من نار , قال الله عز وجل : وخلق الجان من مارج من نار [3] , وقال سبحانه : ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون . والجان خلقناه من قبل من نار السموم [4] . فأصل خلق الجان من نار لا دخان لها , كما أن أصل خلق الانسان من طين .

 

    والجان يتناكحون ويتناسلون , قال عز من قائل : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو . بئس للظالمين بدلاً [5], والجان عقلاء ؛ لذلك كلفهم رب العالمين في قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [6], ومنهم المؤمنون الصالحون ، ومنهم العصاة , قال تعالى : وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً [7].

 

     ولا يملك الجن للبشر ضراً ولا نفعاً , ولا يعلمون الغيب , قال تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً . الا من ارتضى من رسول [8], وفي سورة الجن بيّن سبحانه كيف أن بعض القدامى كانوا :يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً [9], وأنهم كانوا يحاولون استراق السمع للاطلاع على الغيب , فحال الله بينهم وبين ذلك فقال : فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً [10], وقد حسمت قصة سليمان مع الجن هذا الموضوع كما قال سبحانه وتعالى :     فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض كانت تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [11].

 

    وهم أجسام غير مرئية لا نراهم ؛ سواء كان ذلك لضعف في أبصار البشر , أم لكونهم أجساماً رقيقة , ولم يرد نص في هذا ؛ لذا يقول الإمام الشافعي: [ من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته ؛ لقول الله تعالى: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم , إلا أن يكون نبياً ] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر ) [12],وقد ثبت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى بالجن وأرى أصحابه آثارهم,وكانوا من جن الجزيرة)[13].

 

كما التقى بجن نصيبين وأثنى عليهم قال: نعم الجن ) [14], فإذا كان الإنسان لا يراهم لسبب ما  فإن بعض المخلوقات تراهم , فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله : ( إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله تعالى من فضله , فانها رأت ملكاً , وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً ) [15]. ولا غرابة في هذا ؛ فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية , والبوم يرى الفأر في ظلمة الليل .

 

    ويرى بعض أهل العلم أن الشياطين قادرة على التمثيل والتصور وفعل ما يتوهم انتقالها من حال لحال أو من صورة إلى صورة , فيظن الراؤون أن ذلك شيطان من باب التخيل لا الحقيقة . والأصل أنه لا يستطيع أحد أن يتغير عن صورته التي خلقه الله عليها , وقد ورد الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم , أن من رأى مثل هذا فليؤذن .

 

     وهناك خلاف في دخول الجن بدن المصروع , وعدم دخوله , ولم يرد في هذا خبر صحيح . والمصروع يتكلم , ويعتقد بعضهم أنه كلام الجن ويضيفونه إليه , وليس هناك دليل قاطع على أن ما سمع من المصروع كلام له أو للشيطان , ولا يمكن أن نقطع بأحدهما إلا بدليل . وأميل إلى أن الشيطان يؤثر على من مسه , فيوجهه إلى قول أو فعل ؛ لأن أكثر من يصرعون يكونون في غيبوبة , وبعد أن يصحوا أحدهم لا يذكر شيئاً مما حصل له .

 

    ولكل إنسان قرين من الجن , فقد أخرج الإمام مسلم وأحمد وغيرهما ,( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عند عائشة ليلاً , قالت : فغرت عليه , فقال : مالك يا عائشة أغرت ؟ فقلت : ومالي لا يغار مثلي على مثلك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفأخذك شيطانك ؟ قالت : فقلت يا رسول الله:أو معي شيطان ؟ قال : نعم ومع كل إنسان, قلت : ومعك يا رسول الله؟ قال : نعم ولكن ربي عز وجل أعانني عليه حتى أسلم ) .

 

     والجن يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتناسلون , قال عز من قائل : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [16]. وأما هل يكون زواج بين الجن والإنس ؟ فالمسألة خلافية , ولا يفيد الخوض فيها . وقد يقع عدوان من شيطان على إنسية , وأما الزواج فالراجح أنه لا يمكن بدلالة قوله تعالى :     ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [17], والجن يموتون , قال عزمن قائل : كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام [18].

 

     والشيطان يمثل في الأرض الشروالفساد , فإبليس أبو الشياطين وأصلهم , والشياطين مردة الجن , وقد أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى , قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا  إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً [19].

 

     ونرى في عدم سجود إبليس وعداوته لبني آدم , تحذيراً للإنسان من سلوك سبيله , واتباع وسوسته وأوامره , وقد حذر الله تعالى بني آدم منه فقال سبحانه : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [20], ويقول عز وجل : ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين . إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون [21] , إن ما يزينه الشيطان لابن آدم أو يدعوه إليه مفتاح باب الضلال والهلاك , الذي يفضي به إلى معصية الله تعالى , والخروج من طاعته , وإن تحذير الله عباده من اتباعه ,من أوسع أبواب الخير الذي يجنب ابن آدم الضياع والهلاك , وما من شك أن معرفة العدو , تجنب المرء الوقوع في شراك مكره وخداعه , وتقيه من أن يقع فريسة أو غنيمة باردة له . وما أبعد دلالات سورة الناس التي ختم الله تعالى بها كتابه الكريم ,وما أعظم ما يحصن المرء بها نفسه، إذا أدرك بعد مراميها وأسرارها .

 

فالصراع قائم بين الانسان والشيطان , وقد بيّن العلامة المحدث الشبلي , من علماء الحنفية , مهمة الشيطان ورسالته , أو المراتب التي يدعو إليها الشيطان , وهي ست :

 

1-    مرتبة الكفر ومعاداة الله ورسوله , إذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه.

2-    مرتبة البدعة ، وهي أحب إليه من المعاصي والفسوق .

3-    الكبائر .

4-    الصغائر، وهي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها .

5-    انشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها .

6-    أن يشغله بالعمل المفضول عمل هو أفضل منه .

 

      وهذه مسالك أنواع الصراع بين الحق والباطل , والخير والشر , الشر الذي دعا إليه إبليس ومن بعده , من شياطين الإنس والجن , ومع كل هذا فان سلاح الشيطان ضعيف , وسيوفه مفلولة مدقومة النصال , أمام قوة الإيمان وسيوفه المسلولة .قال تعالى: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً [22].

 

فلا سلطان له على المؤمنين , قال عز من قائل : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [23] , وقال سبحانه وتعالى مخاطباً إبليس : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [24] , وقال عز من قائل : ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها،أولئك كالأنعام بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون [25] . لذا لابد للمؤمن من الثبات على إيمانه , بمزيد الصلة برب العالمين , والتقرب إليه ودوام مراقبته وذكره .

 

ونلخص المنهج الإسلامي للوقاية من شرور الشيطان فيما يلي :

1-    الإكثار من الاستعاذة بالله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم ؛ امتثالاً لقوله تعالى :   وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم [26], وعملاً بما جاء في السنة الطاهرة .

2-    قراءة المعوذتين .

3-    قراءة آية الكرسي .

4-    قراءة سورة البقرة , فقد ثبت عن الرسول الكريم أنه قال : ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً , وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يقربه شيطان ).

5-    قراءة خاتمة سورة البقرة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) , وفي رواية : ( ...  فلا يُقرَأْنَ في بيت ثلاثَ ليال فيقر به شيطان ) .

6-    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من قرأ "حم " المؤمن , إلى قوله :إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح  حفظ بهما حتى يمسي , ومن قرأها حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح  .

7-    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قال :لا اله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب , وكتب له مائة حسنة , ومحيت عنه مائة سيئة , وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ) .

8-    الإكثار من ذكر الله عز وجل , ففي حديث طويل صحيح أخرجه الترمذي : ( إن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل ) , قال أبو بكر رضي الله عنه : [ ذهب الذاكرون بالخير كله ] . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : [ الشيطان جاثم على قلب ابن آدم , فإذا سها وغفل وسوس , فإذا ذكر الله تعالى خنس ] . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : [ لكل شيء جلاء وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل ] , وبهذا لا يغفل القلب ولا يدع للشيطان سبيل الوسوسة إليه , وعلى هذا يحمل قول ابن تيمية رحمه الله : [الذكر للقلب مثل الماء للسمك , فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ] , وصدق ابن قيم الجوزية إذ قال : [ الذكر باب المحبة وشارعها الأعظم , وصراطها الأقوم ] وبهذا يصير العبد من أولياء الله تعالى , الذين قال فيهم رب العالمين : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون , وينضوون تحت قول الله سبحانه : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب .

 

      وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل قال : ( بسم الله وضعت جنبي ، اللهم اغفر لي ذنبي , وأخسئ شيطاني وفك رهاني , واجعلني في الندي الأعلى ) [27],

      كما كان يعوذ الحسن والحسين ويقول : ( إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق : (أعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامَّة ) .

 

      وكان يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتعوذ من الشيطان , ففي حديث طويل قال :  ( يا أبا ذر تعوذ من شر شياطين الجن والإنس, قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين؟قال: نعم، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )[28] . فالذكر والدعاء والاستعاذة وقراءة بعض آيات من كتاب الله يتغلب بها المؤمن على الشيطان , فلا يجد إليه سبيلاً . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمن لينضي شياطينه  - أي بذكر الله – كما ينضي أحدكم بعيره في السفر ) [29]. وفي الحديث أن الشيطان يحب أن يلبس على المسلم أمر دينه , فإذا سمع النداء هرب وولى , فإذا دخل المسلم في صلاته عاد ليلبس عليه أمر دينه .

 

       وأخرج ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ان للوضوء شيطاناً يقال له  ولهان فاتقوا وسواس الماء ) [30]. لذا على المسلم أن يستعيذ بالله قبل البسملة , ثم يتوضأ . أو يشرع في عبادته .

 

فاتباع المنهج الإسلامي في التحصن من الشياطين, وفي رقية من مسه شيطان هو الأصل , ولا يجوز بحال من الأحوال الاستعانة على الشياطين ، أو رقية من أصيب بمس بما يقال أو يكتب مما لم يرد في قرآن أو سنة أو مأثور مما فيه شرك , ففيما شرعه الله تعالى ورسوله ما يغني عن ذلك كله , وقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في الرقى بما لم يكن شركاً , وقال : ( من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ) . فكتابة الطلاسم والأعداد والأرقام الحسابية , وتعليقها في ثياب الصغار , لم يثبت عن أحد من السلف , وقد لا يكون فيها شرك , ولكنها قد تفضي إليه , فالأورع والأتقى للشبهات ألا يقرأ إلا ما يفهم ويعرف .

 

وبعضهم يناشد المصروع في حال صرعه  ليصحو ويبعد عنه من مسَّه , ولعل هذا مأخوذ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (سئل عن حيات البيوت ، فقال : إذا رأيتم منها شيئاً في مساكنكم فقولوا أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح , أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لا تؤذونا . فإن عُدن فاقتلوهن ) [31].

 

ولا بد من التوكيد على أنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن في خدمته , أو خدمة غيره , فإن الله تعالى لم يسخر الجن لأحد بعد نبيه سليمان عليه السلام . وقد يسول لبعض شياطين الإنس السوء , ويتطوع بعض المردة من شياطين الجن بفعل ذلك ؛ إفساداً في الأرض لا ائتماراً بأمر ذلك الإنسي .