جلال الهجرة

إذا كانت الأَهِلَّةُ مواقيتَ للناس يقيسون بها أوقاتهم، ويؤرّخون حوادثهم، فإن في هلال المحرَّم للقلوب صقلاً وجلاءً، وللنفوس زكاة ونماءً؛ إذ ينبِّه الأذهان إلى ما يلاقي الداعون في سبيل دعوتهم، وما يكابدون من أجل فكرتهم، فإن كل داعٍ إذا أتى قومه بجديد، قالوا: هذا إفكٌ وضلال بعيدٌ، وإن جاءهم بصادق من القول لم يألفوه، وضعوا أصابعهم في آذانهم، وأصرُّوا واستكبروا استكبارًا، وكأنهم يخشون على سلطانهم أن يسلب، ويحرصون على كبريائهم أن تقهر وتغلب؛ وإن منهم لَمَن طبع على قلوبهم، وكابروا في الحق، فلا ينفذُ إليهم سناؤه، ولا يهديهم ضياؤه، وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون؛ ومنهم مَن تأخذُه العزة بالإثم؛ فلا يستجيب للداعي؛ لأنه في قومه أقلُّ شأنًا أو أضعف نفرًا؛ يريدون أن يمنعوا فضل الله، ولكن الفضل بيدِ الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.




 

إن تاريخ الأنبياء والرسل شاهدٌ على ما نقول؛ فما من نبي أتى قومه برسالة إلا قاوموه وناصبوه العداء، وفي المقاومة حياة الرسالة وقوَّتها، وفي الكفاح غذاؤها وثورتها؛ فالدعوة الكبيرة تحتاج إلى مقاومة وإلى اضطهاد، وتفتقر إلى تضحيةٍ وجِلاَد؛ لترسخ في النفوس وتبهر، وتقوى في الآفاق وتنشر؛ كالشجرة تشذب أغصانها فيمتد ساقها ويُثمِر، أو كالأرض تُخرِج خيراتها للناس كلما أمعنوا في جوانبها حفرًا وشقًّا، وكذلك ينصر الله الحق بأعدائه، ويسخِّر له جندًا من حسَّاده؛ يريدون أن يبلغوا منه منالاً فيزيدوه قوة وبأسًا، ويمنحوه عزة وسلطانًا، وقديمًا امتحن الله خيار الناس بأشرارهم، وسلَّط على إخلاص المخلصين نفاق المنافقين؛ يطهِّر بهذه المحنة قلوبَ أهل الإخلاص، ويزكِّي دعوتهم، ويبلو بذلك استعدادهم للتضحية في سبيل ما يؤمنون به من عقيدة، وما يسعون إليه من خير ومن إصلاح؛ وفي هذا البلاء نجاح الدعاة والمصلحين، وفيه خِذلان الطُّغاة والمتجبِّرين.

لقد هاجر كثير من الأنبياء فرارًا بدينهم، وحرصًا على عقيدتهم؛ ففي النفوس نَبْوَةٌ عن المواطنين، ولها نُفرة من نُصح الأقربين؛ فإذا تداعتْ للحرب والجلاد وأغراها الصلابة والعناد، فليس لصاحب الدعوة إلا أن يطلب أرضًا بأرض وأوطانًا بأوطان؛ وكذلك وقع، وصدقت تلكم الحكمة التي أودعها أبو العلاء بيته المعروف:
أُولُو الفَضلِ في أَوطَانِهم غُرَباءُ
تَشُذُّ وتَنأَى عنهُمُ القُرَبَاءُ

وكانت العاقبة دائمًا للمجاهدين الصابرين، والنكال والخزي للجاحدين المعاندين.

فمنذ نيِّف وثلاثين قرنًا كان شعبٌ أعزل مضطهَد يجاهد في سبيل حريته، وقد جهر قائدُه موسى - عليه السلام - بدعوته؛ فقام طاغية من قومه يصدُّ عن سبيل الله، ويفتن الناسَ عن دينهم، ويصلِّبهم في جذوع النخل؛ ولكن القائد وجد جنودًا فتحوا للحق أفئدتهم، وقال قائل منهم يكتم إيمانه: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28]، والتفوا حول موسى وآمنوا، فعبر بهم البحر الأحمر، وبذلك كتب الله - تعالى - له السلامة، وأهلك عدوَّه، وأسَّس مجد الأمة الإسرائيلية في أرضها، وهكذا تتشابه حوادث التاريخ، ووقائع الأيام.

ومنذ ثلاثة عشر قرنًا أو يزيد، كان يعيش في بطاح بلاد العرب قومٌ من البدو طغاة عابثون، ينحتون الأصنام ويعبدونها، ويصنعون الأوثان ويقدِّسونها؛ قد محا الشرُّ عقائدَهم إلا قليلاً، وطمست الجاهليةُ بصائرهم إلا أثرًا ضئيلاً؛ وكثير منهم كان قانعًا بعقيدته، راضيًا بضلاله، وقليل منهم كان يستجيب لداعي الفطرة السليمة، فتأخذه الحسرة ويُسَائِل نفسه: لماذا نعبد الأوثان، ونهيم في ذلك الضلال المبين؟!

اجتمع قوم منهم لإحياء عيدٍ للعُزَّى، فقال رجل منهم لصاحب له هامسًا في أذنه: "والله ما أنتم على شيء، وإنكم لفي ضلال"! فما حجر نُطِيف به لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقِه يجري دم النحور! يا قوم، التمسوا لكم غيرَ هذا.. . "، هذا القليل ينكر الباطل، لكنه لا يعرف الحق، ويزدري الخطأ ولا يهتدي إلى الصواب؛ تطلعوا بقلوبهم إلى السماء: أين الهداية؟ أين الرشاد؟ وفي فينة من الزمان وجدوا رجلاً اعتزل عبادتهم في فتوته، وهجر ناديهم في صبوته، واتجه بنفسه إلى نوعٍ آخر من العبادة لم يعرفوه، وضَرْبٍ من ضروب التديُّن لَم يألَفُوه، فلما بلغ أَشُدَّه واستوى فاجأهم منه صوت هادئ: يا قوم، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنما الأمر كله لله؛ فاعبدوه، واشكروا له؛ إليه ترجعون.

راعَ ذلك الصوت أفئدةَ العرب، وهالهم أن يقوم رجلٌ منهم يأتيهم ببِدْعٍ من الدين جديد، يسفِّه أحلامهم، ويضلِّل آباءهم.

واجتمع قومٌ منهم في ناديهم، فتلا أحدهم قولَ الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]؛ فقال كابر منهم: صدق - والله - محمد وبرَّ! وأقسم ما جاء قومه إلا بخير! ماذا تنكرون من هذا؟! وهل فينا مَن لا يحب العدل والإحسان؟! وهل فينا مَن يكره إيتاء ذي القربى؟! وهل فينا مَن يحب الفحشاء والبغي؟! أَمَا والله لو جاء محمد قومه بمثل هذا دائمًا؛ لكان أحنَى قومه عليهم، وأرأفهم، بهم، وأهداهم إلى طريق مستقيم!

ويُطرِق القوم مليًّا، فإذا متكلِّم يقول: لقد قام محمد يغيِّر ما عَرَفنا من دين، ويُنكِر ما ورِثنا من سنَّة، ويؤلِّب الفقراءَ على الأغنياء، ويُغرِي الضعفاء بالأقوياء، ويُلقِي في رُوع الأذلَّة من الناس أنهم خيرٌ من سادتِهم، وأنهم أوفر عند الله حظًّا وأرفع مكانًا، ثم لا يكفيه أن يقلب أمرنا ويفسد علينا نظم الدنيا، حتى يمتدَّ فسادُه إلى الآلهة؛ فيجعلها إلهًا واحدًا، إن هذا لشيء يراد، وغلب السفهاءُ من قريش عقلاءَهم، ورجح لديهم حب السلطان على حب العدل والإحسان، وهي عادة في الخَلق لا تتخلف، وغريزة فيهم لا تتحول؛ لأن حب السلطان مستمدٌّ من فطرتهم، وهم لهذه الفطرة مطيعون، إلا مَن رحم ربك.

أجمعتْ قريشٌ أمرَها، وأمضت عزمها، وقالوا: إنه - والله - الهول! فإن لم نغلب محمدًا غلبنا! والله لنأخذنَّ عليه الطريق، ولنسدَّن عليه المسالك، ولنحمين منه قريشًا وسلطانها، ولنمعَنَّ منه دينها وآلهتها! ثم أغروا به فتيانهم يؤذونه، وشعراءهم يَهجُونه، واندفعوا يفتنون أصحابه عن دينهم الذي اعتنقوه، ويصرفونهم عن ربهم الذي عبدوه، فلا يمنع ذلك كلمة الله أن تظهر، ولا دينه أن ينشر.

ويفكر القوم في أمرٍ يخمد ذلك الصوت، ويبطل تلك الدعوة، فيعرضون على صاحب الدعوة المال والسلطان؛ فيردّ عليهم مالَهم، ويرفض سلطانهم؛ ثم يَعرِضُون عليه الطبَّ؛ فيقول: ما أنا بمريضٍ، وينصرفون عنه وفي قلوبهم من الخوف والفَرَقِ ما لا يحتملون، وينصرف عنهم وفي قلبه من الثقة بربه ما يملؤه إيمانًا وتثبيتًا.

ويقول أبو جهل - عمرو بن هشام -: "والله ما بَلَغْنَا من ابن عبدالمطلب وأصحابه شيئًا! نفتنُهم في أنفسهم وفي أموالهم، فلا تزداد دعوتهم إلا انتشارًا، ولا يزداد أمرُهم إلا ظهورًا، إن أتباع محمد ليَكْثُرون بين أظهُرْنا، وهذا دينهم قد خرج من مكة فاستقرَّ في أرض الحبشة، ووجد أصحاب محمد هناك عزًّا ومَنَعة وجوارًا.. . "، وأسرفت قريش في العنت، وأمعنت في الجهالة حتى بلغت الفتنة مَدَاها، وانتهت المحنة إلى غايتها، وعَرَف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ليس بمكة أمنٌ، ولا في ربوع قومِه راحة، وقبله أُوذِي المصلحون في ديارهم، وأُخرِجوا من أوطانهم؛ ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88].

ولقد أخبره وَرَقة بن نَوْفَل بقصتِه مع قريش يومَ بدأ الوحي، قال له: "ما جاء أحدٌ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي وأخرجه قومه"، فلا بد أن يتخذ محمد لهذا الخروج أُهْبَته، ويُعِدَّ لهذا الأمر عُدَّته؛ فاعتزم أن يخرج من مكة، وأن يترك فيها كل عزيز لديه من أهل وعشيرة، إلى وطن آخر أبر به وأحفى، وإلى عشيرة يصير بها أكبر قوة وأكثر عددًا.

ولقد فكَّر أبو بكر في هذه الرحلة؛ لأنها الحيلة للخلاص، بل هي السبيل إلى بثِّ الدعوة واستقرارها، فهمس في أذن صديقه الأكبر: إننا في هذه الديار مغلوبون، وفي سَعة الخافقين مضطرب، وفي الأرضِ عن دار القِلَى متحوَّل، يعبر بذلك عن أن الاحتمال قد نفِد، ولم يبقَ في قوس الصبر منزع، ولكن للصبر درجات بعضها فوق بعض، والتجلد على قدر الطاقة، وما ظنك بطاقة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي اضطلع بالعبء وحده؛ ليخلص الدنيا بأسرها من جهالتها، ويردها إلى رشدها وهدايتها! قال: ((يا أبا بكر، لم يؤذنْ لي بعدُ))، وفي هزيع ليلة من الليالي قال صاحب الرسالة لصديقه الوفي: ((قد أُذِن لي الليلةَ في الهجرة يا أبا بكر))؛ فلم تتطلع نفس نقية أبية - كالتي يحملها أبو بكر - إلى مال ولا نسب، ولا جاه ولا سلطان، ولا أهل ولا جيران، ولكن له كلمة واحدة هي: الصحبة يا رسول الله! واستقرَّ رأي الصديقينِ على أن تكون الهجرة، ولكنَّ قريشًا أحست بما دبَّره النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ومن حوله الأبطال العظام، فضربتْ حولهم سورًا من السيوف المُصلَتة، والرماح المشرعة، ما أضعف حيلة الإنسان، وما أعجزه أمام بأس الله وقوته! والله أشد بأسًا وأشد تنكيلاً، لقد أعمى القوم عن فريستهم، واستطاع محمد أن يخترق - في حماية الله - هذا السورَ، وأن يُفلِتَ من الرَّصَد، وأن ينفُذَ إلى بيت صاحبه أبي بكر، ثم يقصدا معًا غارَ ثَوْر.

وهنا تقف الدنيا تنظر واجفة، وتتأمَّل خاشعةً عاقبةَ هذا الصراع بين الباطل في طغيانه والحق في سلطانه، ويتساءل ضمير الكون: أينتصر الحق على الباطل، فتحل عبادة الله وحدَه محل عبادة الأوثان، وتقوم الحرية والعدل مقام العبودية والطغيان، أم تكون الأخرى؛ فيظل الضمير الإنساني تزعجه آلامه، وتثقله آثامه؟!

ولقد كانت الأشراط جميعها تدلُّ على النجاح، والدلائل تبشر بالفوز؛ فقد وفَّق الله للخير رجالاً أعانوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأيَّدوه، وقدَّموا أنفسهم فداءً، وأموالهم هبة وعطاءً.

فذلك الفتى "علي" - رضي الله عنه - يجازف ويخدع المشركين من شباب قريش المتربِّصين، فينام مكان محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتسجَّى ببردِه الحضرمي، إيهامًا لهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نائم في مخدعِه، وتضليلاً بأن طَلِبَتَهم لا تزال في قبضة أيديهم، وهو يعلم أنه قد عرَّض بهذه الخدعة حياته للهلاك؛ فها هو الموت يلمع في أسنَّة السيوف بباب مرقدِه، والهلاك يتربَّص في كل ناحية من داره؛ فإن قريشًا لم تكن لتغفرَ له أنه سخِر منها سخرية مُرَّة، واحتقرها احتقارًا أليمًا.

وذلك أبو بكر يُنكِر نفسه ويضرب في التضحية أروع الأمثال، ويقصُّ على مسمع الأجيال كيف تهون الحياة في سبيل ما هو أعزُّ وأكرم من الحياة - في سبيل دين الله القويم، وصراطه المستقيم - ففي الطريق إلى الغار كان يقدِّم نفسه حارسًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمشي خلفه حينًا، وأمامه حينًا؛ وسأله الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: أخشى الطلب يا رسول الله؛ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.

كان الصدِّيق قد انتَضَى للأمر عزائمه، وتقلل في نفسه روح الوفاء، فأبَى أن يكون هيَّابًا نكسًا يسلِّم صاحبه للخطر، أو يتركه هدف الأحداث.

ولقد اقتفى المشركون الأثر، وأخذوا وراءهما الطريق، فأخذ شبح الموت يدنو من الغار حتى التصق أبو بكر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا!"؛ فيرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ردَّ المطمئِن الواثق: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وهو ردُّ الذي يُوقِن أن الله يَحمِيه، ويحفظه ويَقِيه، بل هو رد الرجل الذي نهض بأعظم رسالة، وتحمَّل أفدح أمانة، واعتزم أن يقوم بها ولو قف دونه أهل الأرض، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا.

وكم لله من آيات؛ فقد قال القائف للمشركين: هنا وقف الأثر! ولكن الله يسخِّر الحمام والعنكبوت لمحاربة البغي والجبروت، فيرجعون في حيرتِهم، ويرتدُّون على عمايتهم، ويأمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، ويتابعانِ السفر، يتحملان وَعْثَاءه في رضا واطمئنان، وقوة نفس وشجاعة جنان.

ألم أُخبِرك أن الأشراط جميعها كانت تدل على الفوز؟!

قام سُرَاقة بن مالكٍ يتبع البطلينِ ليردَّهما؛ طمعًا في المال وحسن المآل، واستقسم بالأزلام، فخرج الذي يكره فكذَّبها، ومضى خلفها، فسار بكلمة محمد، ووقف بكلمة محمد، ونجا بدعاءِ محمد، ولم يكن أحدٌ من الجاهلية يكذِّب الأزلام، ولكن الله أراد لسُرَاقة أن يعقد عزمه ويخالفها ليريَه الآية الكبرى، فيرجع ويرد المشركين عن عبادِه المخلصين، فيسيروا، وكلما مرُّوا بثنيَّة كسبوا أعوانًا، وجمعوا أهلاً وإخوانًا؛ فقد انطلق مع الصاحبينِ دليلهم عامر بن فُهَيرة، وساروا على طريق السواحل، ونزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقديد على أمِّ مَعْبَد عاتكة بنت خالد.

ويقول علماء السِّير: إنه مسح ضرع شاة مجهودة، وشَرِب من لبنها، وسقى أصحابه، فلما جاء زوجها سألها، فشهدتْ للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه خيرُ قائد يملك القلوب، ويأمر فيطاع، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، حسَن الخلق، له رفقاءُ يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر يبادرون إلى أمره.. . ثم أسلمت هي وزوجها، ولما مرَّت قريش سألوها عنه ووصفوه، فقالت: ما أدري ما تقولون، فقد ضافني حالب الحائل، فقالوا: ذاك الذي نريد! ولكن لله أمرًا هو بالغه، فلم يبلغوا ما يريدون، ولم ينالوا ما يبتغون، ودخل المهاجرون المدينةَ وهم أكرم الناس، وتلقَّاهم الأنصار بالبِشر والإيناس، واستجاب اللهُ دعاء نبيّه: ((اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي، فأسكنِّي أحب البلاد إليك))!

وهنا يقف التاريخ ليروي عن أولئك الأبطال أنفع دروس العظمة، وأبلغ آيات الحكمة؛ لقد أظهروا الإنسانية من أوضارِها، وأطلقوها من عِقالِها، وقضَوا على الوثنية التي أذلَّت البَشر واستعبدتْهم، وأضعفتهم وامتهنتهم، وقرّروا حرية الاعتقاد والوجدان، ونبذوا قيود الأصنام والأوثان، وشرعوا الاجتهاد الاستقلالي في العقائد والأصول، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطلوا امتيازات الأنساب والأجناس، التي كان يستعلي بها الناس بعضهم على بعض، بغير علم نافع ولا عمل رافع، وجعلوا دستور الإنسان: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

وامتدّت أيديهم إلى بَغْضاء القلوب فشفتْها، وإلى شحناء النفوس فمحتْها، وقد كان الناس قبلهم في شقاقٍ بعيد، وخصام شديد، فنزلتْ آيات الله عليهم جميعًا بردًا وسلامًا، وأصبحوا بنعمته إخوانًا، وانطلقوا جميعًا ينظمون مشاعر الإنسان تدوِّي في الآفاق، وتشعل نارًا لا تحرق ولا تدمر، ولكنها تنشئ صروحًا عالية، وترفع منارات باسقة، وينشرون مدنيَّتهم الفاضلة، لا تستغل ولا تذل، ولكنها تثمر وتعز، ويبسطون رحمة الله على الإنسان، ويحوطون مَن انضوى إلى رايتهم بالأمان، ولا يبقى فجٌّ من فِجاج الأرض إلا سرى فيه ذلك الروح؛ فأصاب حظًّا من نور، ولا ركن من أركانها إلا تلقف مبادئهم؛ فنال قبسًا من ضياء، وتتفتح لهم قلوب الناس فيدركون بهم أرفع كرامة يدركها الإنسان في هذه الحياة، وتخفق راية الإسلام على الدنيا بأسرها، وتدخل هدايته جميع أقطارها، وتصبح كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.