تفسير وشرح الحكم العطائيّة (الجزء الثاني)

سنتابع في هذا الجزء من المقالة تفسير بعض الحكم العطائيّة الرائعة التي كتبها ابن عطاء الله السكندري، وهو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عيسى، بن عطاء الله السكندري، الذي يُعتبر أحد أركان الطريقة الشاذلية الصوفيّة.



الحكمة الرابعة والثلاثون: اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك، لتكون لنداء الحق مجيباً، ومن حضرته قريباً

إنّ الشريعة الإسلامية لم تترك الإنسان يسير على غير هدى باحثاً عن هذه الاحتياجات، بل جاءت بما يُشبع هذه القوى الماديّة والروحية على السواء، فشرّعت أركان الدين الإسلامي الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان.

إنّ الإسلام يتضمن أحكام ظاهر الإنسان بما في ذلك من ماديات، و الإيمان يتضمن أحكام باطن الإنسان القلبي بما في ذلك من ملكوت، و الإحسان يتضمن أحكام باطن الإنسان الروحي بما في ذلك من جبروت.

والإنسان المسلم إذا التزم الدين الإسلامي بأركانه الثلاثة سالفة الذكر الإسلام و الإيمان و الإحسان، يكون بذلك خارجا عن أوصاف بشريته المناقضة لعبوديته للّه تعالى، ويكون لنداء الحق مجيبا و من حضرته قريبا، و تفصيل شرح ذلك أن نقول:

إنّ الإنسان مطالب بأن يكون عبداً خالصاً للّه تعالى، بأن يمتثل أوامره و يجتنب نواهيه، و النفس و الشيطان و شهوات الدنيا يعملون على منع الإنسان من الخضوع للّه تعالى، فيجعلونه يتخلّق بالأوصاف البشرية المناقضة لعبوديته للّه تعالى، فبالنسبة لظاهره و جوارحه، يرتكب المخالفات الشرعية لجهله بفقه الحلال و الحرام، فلا يطيع اللّه تعالى بل يعصيه، فلا يؤدي الفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج، ويشبع شهوتي بطنه وفرجه من الحرام. وبذلك يكون مخالفاً لأوصاف عبوديته المتعلقة بمقام الإسلام.

وبالنسبة لنفسه وقلبه يتركهما دون تربية فيتخلّق بالأوصاف الذميمة وهي أخلاق الشياطين كالكبر والحسد والحقد والغضب والبطر والغِلظة والبخل والشح والرياء والعجب والكذب وغير ذلك من أوصاف مناقضة لعبوديته في مقام الإيمان.

و بالنسبة لروحه يترك الإخلاص والصبر والتوكل والتواضع والزهد والحياء والقناعة، وصدق التوجه إلى اللّه تعالى والاعتماد عليه، ويترك الخشوع ومراقبة اللّه سبحانه وتعالى في السر والعلن، وغير ذلك من صفات مناقضة لعبوديته في مقام الإحسان، وهو مقام: أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. 

أيها الإنسان المسلم إذا أردت أن تخرج من أوصاف بشريتك المناقضة لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيباً ومن حضرته قريباً، عليك أن تتفقه في الدين فتؤدي الفرائض و تجتنب النواهي وتأخذ من الدنيا وشهواتها قدر ما سمح لك الحق تعالى بأخذه من الحلال.

وأن تزكّي نفسك وتطهّرها من الرذائل وتُحلّي قلبك بمكارم الأخلاق المحمديّة التي بعث بها إلينا، وأن تستغني باللّه تعالى عن كل ما سواه وتعلم بأن اللّه تعالى يراك في كل أحوالك وشؤونك فتراقبه على الدوام لتشعر بقربه تعالى منك فتأنس وتطمئن به تعالى.

الحكمة الثامنة والأربعون: من علامات موت القلب، عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات، وترك الندم على مافعله من وجود الزلات

القلب هو المضغة في الإنسان التي إن صلحت صلح الإنسان كله، وإن فسدت فسد الإنسان كله مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبينهما متشابهاتٌ لا يعلمُها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشُبهات استبرأ لعرضهِ ودينهِ، ومن وقع في الشُبهات، وقعَ في الحرام، كالرَّاعي يَرعَى حول الحمى يُوشِكُ أَنْ يُواقعهُ، ثمّ إنّ لكلِ ملكٍ حمى أَلا وإنّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلا إنّ فِي الجسدِ مُضْغَةً إِذَا صلحت صَلُحَ الجسدُ كُلُّهُ، وَإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلهُ، أَلا وهي القلب.

وفي هذه الحكمة المباركة يجلي الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله ثلاثة أبعاد في ارتباطها بحياة القلب وموته:

البعد الأول البعد الشعوري:

فحديث الشيخ رضي الله عنه عن الحزن والندم في هذه الحكمة فيه إشارة إلى اثنين من أهم مناشط القلوب الحية والسليمة، والحزن المذكور هنا هو الحزن المحمود وليس ذاك المذموم المنهي عنه في قوله تعالى: (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)، وفي قوله تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)، وهذا الحزن المحمود هو الذي ورد ذكره في قوله عز وجل: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون).

هذا الحزن الذي تنبثق عنه القلوب الحية، يترك فيها من الألم من جرّاء الموبقات ما يَفرق ويخاف المؤمنون منه، فيجعلهم يتجانفون عن المعصية، إذ هو حزن على التفريط في جنب الله، وتضييع حقوقه سبحانه، وهو الذي أحاط بإحسانه إيجادا وإنعاما وتفضلا، كما أن الندم المذكور في هذه الحكمة ليس هو الندم المحبط والمثبط، وإنما المقصود هو الندم الذي يشكل الجذر المشاعري الذي تندهق منه آهات الاستغفار نورانية عارجة إلى السماء، في ظلال قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)، وهو الندم الذي اعتبره علماؤنا ركنا من أركان التوبة النصوح لا تتم إلا به.   

البعد الثاني وهو البعد الزمني:

الذي يبرز من خلال قول الشيخ بن عطاء الله رحمه الله (مافتك) فتمثل الزمان المنصرم في اعتبار من أهم المؤشرات على حياة القلوب، فحين يغيب هذا التمثل يفقد الإنسان القدرة على الوصل الراشد لما يأتي من حياته بما فات منها، ويفضي إلى الانقطاع المذموم، وقد أثنى الله على أصحاب هذه القدرة وسماهم أولي الألباب في قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).

فحين ينضاف هذا البعد الزمني إلى البعد الشعوري يستصحب ذوي القلوب السليمة الشعور بما فات من موبقات حزنا وندما عليها، معتبرين اعتبارا يحول دون تكرارها فيما يأتي.

البعد الثالث وهو البعد العملي:

وهو البعد العملي، الذي يبرز من خلال قول الشيخ رضي الله عنه (فعلته من الزلات)، والصلة بين القلب السليم وبين ما يوقعه الإنسان صاحبه من أفعال هي ما جلاّه التابعي الجليل، والسالك المُسلِّك الحسن البصري رضي الله عنه حين قال: (الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)، ممّا يجلي مسؤولية الإنسان عن أفعاله ومركزية القلب في كلّ ذلك، فالقلب الحي السليم، بخلاف القلب الميت أو السقيم، لا تصدر عن صاحبه إلا الأعمال المرتضاة.

 

لقد جاءت هذه الحكمة خَميلة اعتبارية، مظفورة بظفائر ثلاث، شعورية، وزمانية، وعملية، وثلاثتها من أهم مؤشرات حياة القلوب. 




مقالات مرتبطة