تفسير وشرح الحكم العطائيّة (الجزء الأول)

الحكم العطائيّة هي مجموعة من الحكم عددها 264 حكمة، كتبها ابن عطاء الله السكندري، وهو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عيسى بن عطاء الله السكندري، أحد أركَان الطريقة الشاذلية الصوفية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، فيما يلي سنسلط الضوء على تفسير وشرح بعض من هذه الحكم المهمة.



الحكمة الرابعة والعشرون: لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار فإنّها ما أبرزت إلّا ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها

أي لا تعد وقوع الأكدار أمراً غريباً مدة كونك في هذه الدار الدنيوية فإنّها ما أبرزت أي أظهرت إلا ما هو مستحق وصفها أي وصفها المستحق لها.

وواجب نعتها أي نعتها الواجب أي اللازم لها، فمن ضرورياتها وجود المكاره فيها مع الانهماك عليها.

ومن كلام جعفر الصادق: من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق قيل له وما ذاك؟ قال: الراحة في الدنيا، وأخذ بعضهم هذا المعنى فقال: تطلب الراحة في دار العنا خاب من يطلب شيئا لا يكون.

وقال آخر: ومن رام في الدنيا حياة سليمة من الهم والأكدار رام محالا فينبغي للمريد أن يوطن نفسه على المحن فإنه لا يتحرك من قلبه عند نزولها به ما سكن.

كما قال بعض واصفيها: طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأقذار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار.

الحكمة السادسة والعشرون: من علامة النجُح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات

أي من العلامات الدالة على النُجح بضم النون الرجوع إلى الله تعالى بالتوكل عليه والاستعانة به في بدايته، فمن صحح بدايته بالرجوع إلى الله والتوكل عليه في جميع أموره عليه نجح في نهايته التي هي حال وصوله إلى مطلوبه وفاز بما يقربه لديه. وأمّا من لم يصحح بدايته بما ذكر انقطع عن الوصول ولم يبلغ في نهاية أمره المأمول.

ومن المعانى الكامنة فى الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى الاستخارة، أى الرجوع إلى الله فى كل شىء حتى يطمئن قلبه، على أنه يسير فى الطريق السليم، وأنّ الله العزيز العليم راض عنه.

ومن المعاني الأخرى الدعاء حتى يزيد إحساسه بالقرب من ربه، كما أنه يجد سعادة فى المناجاة، ثم تصبح عاده سلوكية قلبية، ومع الصدق وغياب التردد، باطن العبد ينير.

الحكمة السابعة والعشرون: من أشرقت بدايته أشرقت نهايته

أي من عمر أوقاته في حال سلوكه بأنواع الطاعة وملازمة الأوراد أشرقت نهايته بإفاضة الأنوار والمعارف حتى يظفر بالمراد، وأما من كان قليل الاجتهاد في البداية فإنه لا ينال مزيد الإشراق في النهاية.

والإقبال على الله يجب أن يكون باعتدال، فسيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: توغلوا فيه برفق حتى يأخذ كل ذي حق حقه من الزوجة والأولاد والأهل والمجتمع، وقد قال رب العزة (ما تقرب إليّ عبد بشىء أحب إلى مما افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتّى أحبه)، رغم ذلك فلا يجب التهوين من المعصية صغيرة أو كبيرة، لكن على العبد أيضاً ألّا يعظم الذنب بحيث يشعر باليأس وأنّ الله سبحان وتعالى لن يغفر له، لكن الله سبحانه وتعالى يغفر كل الذنوب إلّا أن يشرك به، وعلى المسلم أن يحسن الظن بالله وهذه من الصفات الحسنة فقد قال الله: (أنا عند حسن ظن العبد بى).

الحكمة الرابعة: أرِح نفسك من التدبير، فما قام بهِ غيرك عنك، لا تقم بهِ لنفسك

وهنا يدعو الإمام الى عدم الشغل في التفكير فى أمور الدنيا وما فيها من مشاكل وغيرهِ ويدعو إلى عدم حسابها وعدم التفكير في الأمور المستقبلية التي هي من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله عزّ وجل.

وذلك لأنّ هناك بعض الناس يأتون بورقة وقلم ويحسبون لمستقبل بعيد جداً ويفكر كثيراً في هذا ويحسب لها كثيراً حتّى وإن وجد أنه لن يستطيع أن يصل إلى بغيته أصيب بتعقيد وهم وغم لا يعلم مداه إلّا الله عز وجل، وبهذا يصاب الإنسان بعدم اليقين في الله ومعونته لعبادة الصالحين بل والطالحين منهم.

يقول الإمام أرح نفسك وهنا هي دعوة للتوكل وليست للتواكل كما يظن البعض أن الإمام يدعو للتواكل وعدم التفكير وعدم إعمال العقل، أرح نفسك أيها الإنسان ولا تحسب لهذهِ الأمور فإنّ الله سبحانه قد ضمن لك رزقك ومعيشتك على هذه الأرض فلماذا تهلك نفسك في كثرة التفكير في هذه الأمور التي تعتبر من المضمون لك.

أرح نفسك من كثرة التفكير في المهدي المنتظر الذى سوف يأتي فى آخر الزمان كي ينقذ البشرية من الهلاك الذي سوف يجلبه المسيح الدجال، أرح نفسك من التفكير في أن الله لماذا يخذل المسلمين وهو قد توعد النصر لهم من قديم الأزل، أرح نفسك من كل هذا.

أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك، إن الله عز وجل الخالق المقتدر قادر على أن ينصر عبادهُ المؤمنين، قادر على أن يهلك الظالمين، قادر على أن يهلك الكافرين، وكذلك قادر على أن يرزق عباده من جميع أنواع الرزق.      

الحكمة الخامسة والعشرون: ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك

إذا عرضت لك حاجة من حوائج الدنيا والآخرة وأردت أن تقضي لك سريعاً فاطلبها بالله ولا تطلبها بنفسك فإنك إذا طلبتها بالله تيسر أمرها وسهل قضاؤها، وإن طلبتها بنفسك صعب قضاؤها وتعسر أمرها، ولا يتوقف ويحبس أمر طلبته بربك ولا يتيسر ويسهل أمر طلبته بنفسك، قال تعالى حاكياً عن سيدنا موسى عليه السلام: وقال موسى لقومه أستعينوا بالله وأصبروا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

فكل من أستعان بالله وصبر في طلب حاجته كانت العاقبة له وكان من المتقين.

عندما خاض المسلمون معركة بدر كانوا يحسون أن القتال فرض عليهم دون أن يأخذوا له أهبته الواجبة، فكان اعتمادهم على الله شديداً، والتماسهم عونه بالغاً، وتضاءل شعورهم بأنفسهم حتى استخفى، وتضاعف ذكرهم لله حتى لكأن الله هو الذى يدير المعركة، وكأن خيلهم ورجلهم أدوات المشيئة العليا.

من أجل ذلك جاءت نتيجة المعركة نصراً باهراً للذين خاضوها باسم الله، وجاء فى وصف أدوارها (فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).

والحق أن المرء يكون قوة غالبة عندما يعمل، وهو يستمد من الله العزم والجهد والتوفيق والنجاح، وقد كان رسول الله يلقي الأعداء بهذا الروح المستظهر ببأس الله وحده، فكان يقول: اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقاتل، اللهم إنا نجعلك فى نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.




مقالات مرتبطة