تعليم التفكير

تحرص المؤسسات التربوية الواعية والملتزمة على تحديد أسس علمية تمكنها من تحقيق أهدافها، وهذه الأسس تتمثل في إعداد برامج دراسية مؤثرة وتأهيل المعلمين لتنفيذ هذه المناهج بكفاءة عالية، وذلك بتوفير مختلف البرامج والتقنيات وورش العمل، لإكسابهم مهارات تمكنهم من تأدية رسالتهم والقيام بواجباتهم المتمثلة في تحقيق عدد من الأهداف المحورية والتي من أبرزها: إحداث تغييرات مرغوبة في سلوك تلاميذهم، وتنمية مهارات وطرائق تفكيرهم، وصولاً إلى بناء شخصياتهم بناءً سوياً متوازناً لكي تسير في دروب الحياة وهي واثقة وآمنة، وقادرة على مواكبة التفجر المعرفي الهائل الذي يميّز القرن الحادي والعشرين، وقد اعتمدت التربية الملتزمة من أجل تحقيق أهدافها النبيلة على عدد من الاستراتيجيات الفاعلة والمؤثرة من أبرزها:



1- تأهيل المعلمين تأهيلاً حقيقياً نظرياً وعملياً، وتنمية كفاياتهم أثناء الخدمة باستمرار.

2-تخطيط وبناء مناهج دراسية عصرية تلائم ظروف الحياة المتجددة، وتتضمن تدريبات مدروسة شاملة تنفذ في مواقف صفية ولا صفية متكاملة تربي التفكير وتنمي الإبداع .

3- تخطيط وتنفيذ دورات علمية عملية لتعزيز آثار المناهج الدراسية، ولتنفيذ أسلوب حل المشكلات لتنمية مهارات التفكير عند الطلبة العاديين ووصولاً إلى الإبداع عند المتفوقين سعياً حثيثاً نحو تربية العقل ليصبح قادراً على التفكير الخلاّق وعلى التمييز الدقيق بين النافع والضار.

4- تثقيف أولياء الأمور لتمكينهم من المساهمة في رعاية أبنائهم لتحقيق أهداف المدرسة.

وتعد مهارة التفكير من أبرز الأهداف التي تسعى المؤسسات التربوية المستقلة لتحقيقها، لذلك فهي تسخّر كل طاقاتها ليصبح الطلاب المنتسبين إليها قادرين على التعامل الواعي مع الظروف المتغيّرة التي تحيط بهم. غير أن كثيراً من المدارس فيما يسمى ببلدان العالم الثالث لا تتوقف كثيراً عند هذه الحقيقة الناصعة وتقصر جل اهتمامها على تلقين الطلاب كمّاً من المعارف التي لا يقوى الطالب في كثير من الأحيان على توظيفها في حياته العملية ، ولا يلبث أن ينساها بعد أن يجتاز اختبارات تقيس مدى حفظه لها من أجل أن يحصل على الشهادة التي يصبو إليها.

ورغم أن القائمين على التربية في العالم العربي يكثرون من الحديث عن التطوير وعن تعليم مهارات التفكير إلا أنهم لا يعنون ما يقولون أو يكتبون، ويختبرون طلابهم في معظم المواد الدراسية بأسئلة تقيس المعلومات المختزنة وليس القدرة على التفكير. لذلك نجد أن المعلم الذي يريد أن ينجح في عمله ،  ويحافظ على مورد رزقه ، هو الذي يحتفظ بجميع أوراق الموقف الصفي في يده، فلا يسمح لطالب بحركة ولا بإبداء رأيه ، وما عليه إلا أن يحفظ ما يملى عليه دون التطرق في معظم الأحيان إلى القيم التي يترتب عليها تغيّر في السلوك.

إن هدف التربية الأول الذي تسعى لتحقيقه هو تربية قدرات الطلاب على التفكير How to think ، وبناء عليه فإنه ينبغي تطوير أدوات الاختبارات لتقيس التغيّر الحاصل في السلوك، وليس فقط المعارف المختزنة. لذلك فإن:

1- القدرة على التفكير السوي حق مشروع ومطلب ملح لكل طفل يحيا فوق هذه الأرض.

2- القدرة على التفكير تتطلب وجود:

أ- معلمين مؤهلين تأهيلاً نظرياً وعملياً كاملاً وقادرين على تربية الطلاب على الإبداع.

ب- مناهج دراسية مؤثرة ووسائل تعليمية حديثة ملائمة لكل مرحلة من مراحل نمو هذا الطفل، وقادرة على تفعيل عملية التفكير.

ج- أسرة مثقفة واعية متفهمة لمتطلبات العصر.

3- مهمة المدرسة الرئيسة هي توفير كل هذه الظروف لأطفالها ليصبحوا قادرين على التفكير السليم والتفاعل مع مشكلات الحياة بوعيي .

والمعلم المبدع هو الذي يتمكن من التخطيط لموقف صفي قائم على مجموعة من الأهداف السلوكية المنظمة والمتكاملة، ويعمل على تحقيقها من خلال تفاعل نشط متعدد الأطراف يبرز من خلال:

- الحوار الهادئ الجاد بين جميع المتحاورين.

- فهم حاجات الأطفال والعمل على إشباعها وتلبيتها.

- علاقات إنسانية قائمة على المودة وعلى الاحترام المتبادل.

- تعزيز ثقة الطفل بنفسه ليغدو قادراً على القيام بدوره دون اضطراب.

- تزويد الطفل بالمعارف التي تفيده في البحث عن الحقائق والحلول والتعامل مع قضايا الحياة بنجاح.

- مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال المتواجدين على مقاعد الدراسة.

- تطويع الأساليب والوسائل لتلائم عقل الطفل وقدرته على التفكير.

- التدرج في تناول الأهداف من السهل البسيط إلى السامي المتشابك.

- التكامل بين الأهداف المعرفية والمهارية والوجدانية والاجتماعية.

مفهوم التفكير .

حث القرآن الكريم الناس على التفكر في ملكوت الله ، وجعل التفكر من السمات المميزة لأصحاب العقول الراجحة ، ووصفهم بانهم دائما ( يتفكرون في خلق السموات والأرض ) ( آل عمران 191 ) . ويعد التفكير من أبرز الصفات التي تسمو ببني البشر عن غيرهم من مخلوقات الله، وهو من الحاجات المهمة التي لا تستقيم حياته بدونها، ولا يتخلى عنه إلا في حالة غياب الذهن، وحيث إن الإنسان يحتاج إلى التفكير في جميع مراحل عمره لتدبير شؤون حياته فإنّ المؤسسات التربوية الجادّة والملتزمة تهدف إلى تنمية التفكير وتتعهده بالعناية والرعاية.

والتفكير إما أن يكون عارضاً أو مقصوداً؛ والتفكير العارض سهل لا يتطلب عناءً كبيراً، ولا يحتاج إلى خطوات منظمة وإنما يعرض لصاحبه بطريقة آلية بسيطة كأن يجيب على سؤال سهل فيذكر اسمه أو عمره إذا سئل عنه. وأما التفكير المقصود فهو الذي يقود إلى الإبداع وفق خطوات مسلسلة ومنظمة، ويتطلب عناءً كبيراً وخبرات ونظريات وقوانين مختزنة يُستفاد منها في التوصل إلى الحل المنشود، وهو عملية معقدة تكشف عن ممارسات الناس المتباينة، وتتبوأ مستوىً عالمياً بين مستويات النشاط العقلي والتي يترتب عليها سلوك متطور كالقدرة على التعامل مع المشكلات أو اتخاذ قرارات أو محاولة فهم قضايا معدة، فيجعل لحياة الإنسان القادر على التفكير السليم معنى وقيم.

وقد استمد الباحثون المعاصرون معلوماتهم عن التفكير من ثلاثة مصادر رئيسة هي : الفلسفة وعلم النفس وعلم جراحة الأعصاب آخذين بعين الاعتبار أن تعليم التفكير لا يتم بمعزل عن البيئة الاجتماعية المحيطة بالطفل، لذلك فإنه ينبغي مراعاتها أثناء تدريب الطفل على ممارسة هذه العملية ذات العناصر المتشابكة.

وقد تبانيت آراء الباحثين التربويين وعلماء النفس حول مفهوم التفكير، وذلك لأن هذه الظاهرة تتضح من خلال ملاحظة سلوك الإنسان في المواقف الحياتية المتباينة ، لذلك يعد التفكير من أكثر أنماط السلوك البشري تعقيدأ. ومن أبرز التعريفات التي أشار إليها هؤلاء الدارسين ما يأتي:

يرى عصام عبد الحليم (1996م) أن التفكير "مفهوم افتراضي يشير إلى عملية داخلية تُعزى إلى نشاط ذهني معرفي تفاعلي انتقائي قصدي موجّه نحو مسألة ما، أو اتخاذ قرار معين، أو إشباع رغبة في العلم، أو إيجاد معنى أو إجابة عن سؤال ما ويتطور التفكير لدى الفرد تبعاً لظروفه البيئية المحيطة.

ويعرفه مجدي حبيب 1995م بأنه: " عملية عقلية معرفية وجدانية عليا تُبنى وتؤسس على محصلة العمليات النفسية الأخرى كالإدراك والإحساس والتخيل، وكذلك العلميات العقلية كالتذكر والتجريد والتعميم والتمييز والمقارنة والاستدلال، وكلما اتجهنا من المحسوس إلى المجرد كلما كان التفكير أكثر تعقيداً.

ويعرفه فتحي جروان 2002م بأنه: " عملية كلية نقوم عن طريقها بمعالجة عقلية للمدخلات الحسيّة والمعلومات المسترجعة لتكوين الأفكار أو استدلالها أو الحكم عليها، وهي عملية غير مفهومة تماماً، وتتضمن الإدراك والخبرة السابقة والمعالجة الواعية والاحتضان والحدس، وعن طريقها تكتسب الخبرة معنى ".

ويعرفه ابراهيم الحارثي 2001م بأنه: " ذلك الشيء الذي يحدث في أثناء حل مشكلة وهو الذي يجعل للحياة معنى.. وهو عملية واعية يقوم بها الفرد عن وعي وإدراك ولكنها لا تستثني اللاوعي .. وتتأثر بالسياق الاجتماعي والسياق الثقافي الذي تتم فيه .. ".

وبناء عليه فإن التفكير عملية عقلية يقوم بها الإنسان حين يتعرض لمعضلة أو حين يرغب في تحقيق مكسب وتتأثر بثقافة الإنسان وخبراته وبيئته وبالظروف المحيطة به وتفيده في حل مشكلاته وفي اتخاذ قراراته ".

ونخلص من التعريفات الآنفة إلى أن العناصر المكونة لعملية التفكير تتمثل في: جروان 2002م.

1- عمليات معرفية معقدة (مثل حل المشكلات) وأقل تعقيداً (كالاستيعاب والتطبيق والاستدلال) وعمليات توجيه وتحكم فوق معرفية.

2- معرفة خاصة بمحتوى المادة أو الموضوع.

3- استعدادت وعوامل شخصية ( اتجاهات، موضوعية، ميول )

ويرى جيمس كييف 1995م أن عملية التفكير تتطور في أربعة مستويات هي:

1- مستوى الضوابط المعرفية التي تعدّ من القرارات الأساسية في عملية اكتساب المعرفة وتوجيه عمليات الفكر.

2- مستوى تعلم كيفية التعلم وهي الطرق التي تساعد المتعلم في تنظيم إجراءات كيفية الحصول على المعرفة وتعديلها.

3- مستوى التفكير المرتبط بالمحتوى المعرفي.

4- مستوى التفكير التأملي.

أهمية تعليم التفكير:

تعتبر القدرة على التفكير من أكثر أهداف المدرسة العصرية إلحاحاً، وذلك نظراً للتفجر المعرفي الهائل الذي يشهده هذا القرن، ولازدياد المشكلات التي تبحث عن حلول لها، لذلك فقد أصبحت التربية الحديثة تهتم بتدريب المتعلمين على ممارسة مهارات حل المشكلات ليصبحوا قادرين على التكيف مع متطلبات حياتهم الواقعية ، وعلى التفكير الإبداعي البنّاء. غير أن التعليم في معظم بلدان العالم، وعلى وجه الخصوص ما يسمى بالعالم الثالث، ما زال يركّز على تلقين المعلومات، ويتجاهل أهمية توفير المناخ اللازم لجعل هذه المعلومات مفيدة. وهذا المناخ الصحي اللازم لتربية التفكير يتطلب:

أ- توفير بيئة تعليمية جاذبة للمتعلمين.

ب- توفير مناهج ومواد دراسية تعتمد على الأنشطة الحافزة للتفكير وملائمة لتدريس مهاراته، ولتحسين ميول وتوجهات المتعلمين نحو القيم المتمثلة في الإخلاص للعقيدة والولاء للوطن، وسائر الفضائل التربوية كالصدق والصبر والتسامح والتعاون والاحترام المتبادل وغيرها، وتوجيههم نحو التعلم الذاتي وحب الاستطلاع.

ج- توفير التقنيات الحديثة وغيرها من الوسائل المعينة المتطورة التي تساعد على تنفيذ الأنشطة المصاحبة.

د- توفير نظام تقويم قادر على قياس التغيّر في السلوك وفي طرائق التفكير.

هـ- توفير استراتيجيات تلائم متطلبات تعليم التفكير.

وقد برزت الحاجة لتعليم التفكير لأنه:

أ- يعدّ وسيلة الإنسان الصالح للتواصل مع الله الذي أبدع كل شيء خلقه، فتسمو روحه، وتتطور ممارساته، لذلك حث القرآن الكريم على التفكر والتبصر والتدبر في العشرات من الآيات البينات. وقد أعدت الباحثة فاطمة اسماعيل 1993م إحصائية تتضمن الآيات المحكمات التي تحث الإنسان على أن يتفكر في عظمة خلق الله أذكر منها:16 آية تدعو للتفكر، 148 آية تدعو للتبصر، 269 آية تدعو للتذكر، 4 آيات تدعو للتدبر.وغيرها كثير.

ب- والتفكير أداة صالحة لتحقيق الأهداف المتمثلة في جلب المنافع ودفع المضار، وذلك بتوظيف المعارف والمهارات والخبرات التي يملكها الفرد  توظيفاً سليماً. ولا تستقيم حياة الإنسان بدون تفكير، لذلك يُعدّ التفكير في حاجاته الرئيسة. وقد شبهه ميكلر Meclure 1991م، بعملية التنفس التي لا حياة للكائن الحي بدونها.

ج- والتفكير يمكّن الإنسان من التكيّف مع الظروف المحيطة به والتعامل مع المشكلات والصعوبات التي تواجهه وذلك باستدعاء وتوظيف ما يملكه من معلومات ومهارات وخبرات، وكلما كانت هذه الأدوات متطورة كلما كان مفعولها أقوى وأبقى.

د- والتفكير هو الضوء الساطع الذي ينير للإنسان مسارب النجاح، وكلما كان أقدر على التفكير كلما كان نجاحه أعظم، لذلك فقد اهتمت التربية الجادة بتدريب عمليات التفكير وبصقل مهاراته ليصبح المتعلم قادراً على توظيف المعلومات والمهارات التي يحصل عليها في تحقيق النجاح الذي يصبو إليه، ويجعله قادراً على مواكبة التغيرات المتواصلة التي تحصل في ميادين الحياة.

هـ- وممارسة التفكير تشيع في ثنايا الموقف الصفّي دفئاً وتجعله أكثر حيوية، فيقبل المتعلمون عليه بحماس ليمارسوا الأنشطة. وليشاركوا في المشاغل التربوية بإيجابية، فيتحسن أداؤهم، وتنمو قدرتهم على الاستفادة من الكتاب المدرسي، ويترتب على ذلك مخرجات تامة. لذلك كله فإن تعليم مهارات التعليم يغدو أمراً مهماً وبناءً، لذلك فقد أصبح شعار المدرسة في العصر  الحديث هو: كيف نفكّر؟ How to think?

تعليم التفكير -محمود طافش