تعالوا بهدوء نحل المشكلة

 

أليس صحيحاً أنّ أحدنا في كثير من الأحيان يغضب من نفسه التي بين جنبيه؟ أليس صحيحاً أنّه يعاتبها ويقول لها: لو أنّك فعلت كذا لكان كذا، ولو أنّك قلت كذا لكان كذا لكان كذا ولو أنّك.. ولو أنك.. ولو أنك.. ولو أنك؟ أليس صحيحاً أنّه يعاهدها على عهود كثيرة ويأخذ عليها المواثيق ثم تخذله، ولا تقيم لعهوده وزناً، فيراجعها المرة تلو المرة ولا ييأس معها أبداً؟ ألا يحدث ذلك؟ ألا يحدث أنْ يختلف أخوان من أب وأم واحدة مع بعضهما البعض؟ ألا يحدث أنْ تتشاجر امرأة مع فلذة كبدها وتؤنبه حتى تبكّيه من التأنيب؟ إنّ كل ذلك يحدث في كثير من الأحيان ومع ذلك لم يحدث ولم نسمع أنّ امرءاً كلما اختلف مع نفسه طلّقها، أو أنّ أخاً كلما تشاجر مع أخيه فارقه، أو أنّ أماً كلما أنّبَتْ ولدها طردته! لا بد أنْ نعي أنّ الخلاف بين البشر أمر عادي وليس فيه ما يعيب، إنّما العيب أنْ يمنعنا هذا الخلاف من أنْ نتعايش معاً باحترام وعدل.



 

أمرعادي جداً أنْ يختلف الزوجان، وأنْ يتكرّر هذا الاختلاف، بل ويتنوع في حدته، وسأبيّن لحضراتكم لماذا يحدث ذلك؟ لأنّ طبيعة الرجل والمرأة النفسية ليست مماثلة، وهذه الطبيعة النفسية تؤثر في كيفية النظر للأمور والحكم عليها والتعامل معها، لذا وارد جداً أنْ تواجه الزوجان مشكلة أو قضية واحدة تكون لكل منهما رؤية مختلفة لا يقصد أنْ يعاند بها طرف صاحبه على قدر ما يقصد أنْ يعبّر بها عن تركيبته النفسية التي جبله الله عليها ليؤدي بها وظيفته الرئيسية في الحياة.. هذا سبب من أسباب الاختلاف بين الزوجين..

هناك سبب آخر هو البيئة الاجتماعية بدءاً من البيت وانتهاء بالبلد الذي نشأ فيه كل من الطرفين، فكل بيت له ما يميزه عن غيره من البيوت، واختلاف الطرفين ينشأ من اعتياد نظام وطباع معينة فترة من الزمن في بيت أهله وعدم ألف كل واحد منهما الآخر.

وهناك سبب ثالث هو الطباع، فالاختلاف في الطباع أيضاً أمر مؤثر للغاية في القضية التي نحن بصددها فالشخصية الحليمة غير الشخصية العصبية، والشخص خفيف الظل غير الآخر الجاد، والذي لا تستوقفه الأمور الصغيرة التي تقض مضجعه..كل هؤلاء يختلفون، ولا شك في نظرتهم للأمور وتعاملهم معها.

أما السبب الرابع فهي العوارض التي تعترض كلاً من الطرفين، فالرجل الذي يصادف مشكلات مستمرة من الحجم الثقيل في عمله ومصدر رزقه يكون واقعاً تحت ضغط يقلّص حجم حلمه، ويضيّق من سعة صدره، والمرأة التي يقلقها شيء معين تكون هي الأخرى واقعة تحت ضغط يسهل استثارتها وانفلات أعصابها.

إنّ هذه الأمور الأربعة وغيرها تجعل الخلاف بين الزوجين أمراً عادياً ومفهوماً، والذي يتخيّل الحياة الزوجية كما تصورها لنا أفلام هوليوود الرومانسية، رجل مستدرج عليه أنْ يعيد حساباته النفسية والذهنية مع نفسه حتى لا يتعب ويضر غيره بمثاليته الحالمة!.

إنّني لا أريد أنْ أرسم – باستطرادي في بعض أسباب الخلاف التي ذكرتها – صورة كئيبة ومنفرة للزواج، بل، والله يشهد على ما في قلبي، أريد عكس ذلك، أريد أنْ نستمتع بجمال الواقع في الحياة الزوجية، أو قل إذا شئت جمال الحياة الزوجية الواقعية! إنّنا لا نريد لكل خلاف يحدث بين زوجين أنْ يؤدي إلى خصومة أو فساد ذات البين، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة (رواه الترمذي).. الحالقة تعني: القحط الذي يأتي على كل شيء، والمقصود بها هنا في هذا الحديث الخصومة.

هذا فيما يخص فساد ذات البين الذي يحدث بين اثنين من المسلمين، فما بالنا إذا كانت هذه الخصومة بين الزوجين؟ إنّ الخطورة تتضاعف ولا شك أضعافاً كثيرة، ويؤكد ذلك الحديث الآتي: فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه (سرايا جمع سرية، وهي القطعة من الجيش ما بين خمس أنفس وثلاثمائة) فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً. ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقّت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نعم أنت (رواه مسلم).

إنّ الفرقة بين الزوجين ليست مثل أي فرقة بين اثنين من المسلمين. بل هي في الدرجة القصوى من الشر حتى أنّ إبليس، عليه لعنة الله، يفرح بها كل هذا الفرح الذي صرح به في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه.

إنّ هذا الفعل الشيطاني لابد أنْ يستيقظ له الزوجان فيستعيذا بالله من وسوسته، وعليهما أنْ يكونا إيجابيين، وأنْ يقطعا عليه الطريق ولا يدعا له فرصة ارتكاب أكبر الشرور عن طريقهما أو على حسابهما. وليذكر الزوج وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك (يبغض) مؤمن مؤمنة إنْ كره منها خلقاً رضي منها آخر" (رواه مسلم).. ولتتذكر الزوجة مثل ذلك، فالخطاب، وإنْ كان للرجل، يمكن قياساً عليه توجيهه هو نفسه إلى المرأة.

دعونا الآن نناقش الخلاف الذي من الممكن أنْ ينشب بين الزوجين ونستعرض درجاته وطرق علاجه التي جاءت في شريعتنا الغراء..إنّ الدرجة الأولى من درجات الخلاف هي تلك التي تحدث نتيجة الضعف البشري الذي لا يخلو منه أحد منا، والذي تنتج عنه بعض الأخطاء الصغيرة المتكررّة أو حتى الكبيرة العارضة، أتدرون ما مثل ذلك؟! مثاله ما رواه البخاري عن أنس، رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة (إناء من الطين للطعام) فيها طعام، فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم – في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم أي (أخّره) حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرتْ صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كُسِرَت فيها. إنّ الخطأ المرتكب خطأ بسيط وحُلّ بمنتهى البساطة واليسر عن طريق التسامح وغض الطرف.

إنّ الرجل والمرأة يظنان أنّه لابد أنْ تنصب محكمة على كل فعل صغُر أم كبُر من الطرف الآخر، وأنّه لابد في هذه المحكمة من إدانة الطرف المخطئ والانتصار للطرف الآخر الأزواج وهم من هذه النوعية شخصيات – من وجهة نظري – تصادمية ومثيرة للأزمات تنقصها الحكمة، وتحتاج إلى التدريب على الصبر والحلم.

إنْ حسن التعامل في مثل هذه الأمور منقبة لابد أنْ يحاول كل امرئ أنْ يتحلى بها، وصدق من قال: "جعل الله تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل"، ثم قد يرتفع الخلاف درجة فوق تلك التي ذكرت، الأمر الذي قد يلجأ إلى شكل آخر من أشكال العلاج الهادئة والمباشرة التي جاءت في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة، فعن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع (فزع)، لذلك قال: اللهم هالة. قالت: فغِرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش.. حمراء الشدقين، هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها (وفي رواية عن أحمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بدّلني خيراً منها"..

إنّ الهدوء وعدم التشنج مع وضع الأمور في نصابها طريقة أخرى من طرق علاج الخلاف الذي قد ينشب بين الزوجين، إنّ القانون الذي يحكم المادة الجامدة: "لكل فعل رد فعل مناسب له في القوة ومعاكس له في الاتجاه"، قانون يصلح أنْ نطبقه في حياتنا الاجتماعية، وهذا ما سنكمل الحديث عنه بإذن الله في مقالنا المقبل إنْ أحيانا الله تعالى.

 

أ. عمرو خالد مجلة المرأة بتاريخ 28 سبتمبر 2004