تزكية الأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه و نستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليّا مرشدا، إن تزكيه الأخلاق هي الغاية الأولى التي حددها صاحب الرسالة الخاتمة صلى الله عليه و سلم لبعثته. إذ قال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وحرىّ بأمه تقتدي بنبيّها أن تقف علي غايات رسالته وأن تدقق فيها محاولة استخلاص كل ما فيها من نفائس للتطبيق راجية بذلك حسن الإتباع وسلامه العاقبة.

 



إن لكل ركن من أركان الإسلام الخمسة رسالته الأخلاقية التي متي انفكت عنه حولته إلى شئ لا معنى له ولا طائل من ورائه في الدنيا "الصلاة مثلاً" الحكمة من إقامتها تتضح من قوله تعالى "وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" فما حظ إنسان من صلاة يؤديها ولا ينتهي بها عن فحشاء أو منكر (والأخلاق السيئة منكر) وما قيمة هذه الصلاة عند الله تعالى؟ وما أثر هذه الركعات في المجتمع؟

إن من قيم الصلاة الأساسية الانعكاس الأخلاقي الحسن على من يؤديها، وهذا الانعكاس هو السبيل الجدّي لقبولها عند الله تعالى، هذه الحقيقة هي التي جاءت في الحديث القدسي "إنما أتقبل الصلاة مِن مَن تواضع بها لعظمتي و لم يستطل بها على خلقي ولم يبت مصرّا على معصيتي، وقطع النهار في ذكرى ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب" فالصلاة بمفهومها الحقيقي تحث على التواضع وعدم الاستطالة على الخلق وتدفع صاحبها إلى الذكر وعدم الإصرار على المعاصي وترقق قلبه على المسكين وابن السبيل والأرملة والمصاب فيبادرهم الخير والمروءة.

 

وما ذكرته في الصلاة ينصرف إلى الأركان الأخرى، وينطبق عليها، فالزكاة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب عنوة، بل هي تطهير للنفس من أدران البخل والذنوب وغرس لمشاعر الحنان والرأفة وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات، وكل هذه أخلاق حسنة قصدها الإسلام بالزكاة كما قصدها بالصدقة، بل إن الإسلام جعل البذل الأخلاقي الحسن من الصدقة نفسها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة.

 

وغاية الصوم التقوى، والتقوى تكون بالابتعاد عن مخالفة أمر الله تعالى في أمره أو نهيه في كل مجالات الحياة، ومنها بالطبع الأخلاق وهذا ما جاء في الحديث الشريف "إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني أمرؤ صائم"، الصيام بهذا المفهوم دعوة للتجمل بحسن الخلق والبعد عن الأخلاق الدونية، فالصائم بيده أن يجعل صيامه عبادة متقبلة - ولن يكون ذلك إلا بحسن خلقه أثناء صيامه - وبيده أيضاً أن يشقى بها نفسه بتفريغها من مضمونها الأخلاقي فلا يناله منها إلا العطش والجوع.

 

وركن الحج جاء فيه "الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب" إن الحج لن يدرك جوهره بدون هذه الالتزامات الأخلاقية، ولن يكون له عظيم أثر وفيه فسوق وجدال وانفلات أعصاب، وأمره بغيضة، وتفاخر بالأجناس والقوميات!


إننا نستبين من هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام وعرفت أنها أركانه الأصيلة متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم في قوله "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

إن الأخلاق مرتبطة بالإيمان ذاته وضعفها دليل علي ضعف الإيمان، وإلا فما تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" والبوائق هي الشرور على إطلاقها، و غالباً ما تكون هذه الشرور، شرور أخلاقية، إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقاتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها فقال هي في النار، ثم قال يا رسول الله فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط - بالقطع من الجبن - ولا تؤذي جيرانها قال: هي في الجنّة.


إن الإيمان والأخلاق عنصران متلازمان متماسكان، ولا يستطيع أحد تمزيق عراهما، و كون أدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق - وهو عمل أخلاقي يدل على النظافة والحرص على المجتمع - لدليل قاطع أن ما يعلوه من أخلاق هو من صلب الإيمان وصميمه! إن حسن عاقبة وفلاح أهل الإيمان مرتبط بدمج وتمازج الشق التعبدي مع الجانب الأخلاقي في الإسلام، وهذا ما جاء واضحاً في صدر سورة المؤمنون في قوله تعالى: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون (عبادة) والذين هم عن اللغو معرضون (أخلاق) والذين هم للزكاة فاعلون (عبادة) والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (أخلاق و معاملات) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (أخلاق) والذين هم على صلواتهم يحافظون (عبادة) أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون".


إن هذه الملاحظات والمعاني التي تكشفت لنا - بوقوفنا على بعض نصوص الكتاب والسنة لابد أن تحال إلى واقع ملموس، يدلل به صاحبه على حسن إيمانه وفهمه الصائب للدين الذي ينتمي إليه!
إن هذا الانعكاس الأخلاقي لعبادات الإسلام هو الذي دعا به سلف الأمة الصالح الناس أجمعين إلى الدين، فكان لهم من الله شرح الصدور وشرف التبليغ عنه والتمكين لدينه! إننا نريد - يا خير أمة أن ندعوا إلى الله بأخلاقنا لا أن نصدّ بها عنه سبحانه وتعالى! اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت!


مقال الأستاذ عمرو خالد للأهرام العربي 21/12/2002