تربية الطفل

النواة الأصيلة

لا شك أن أي فـــشل، أو أي نــجاح يلاقــيــه الإنســـان في حياته اليومية، والاجتماعية، يرتبط ارتباطاً عضوياً بتربيته في الطفولة .


إن التربية في الفترات الأولى من حياة الإنسان، هي التي تحدد مســــتقبله، ولذلــك فإنهــــا تستحق اهتماماً كبيراً من جانب الوالدين، فعليهما أن يطبعاها باللون الذي يكشف عن نتائج زاهرة عبقة، وعن حياة يفعمها الأمل، وتطفح بالإيمان، وتنضح بالقدرة على التغلب على الصعاب، حتى يتفتق عن إنسان حر نزيه، لا يحمل لأخيه الإنسـان غير الحب والعطف والحنان .

إن التفكك والانحلال، والفشل الذي تعاني منه بعض المجتمعات، فتواجه مصيراً كئيباً منهاراً، ولا تسير إلا في دروب مشوهة ـ محملة بالحقد والكراهية. إنما يرجع أسبابه إلى نوع التربية التي كان يزاوله الأجداد، والآباء بالنسبة إلى الأفراد فيها كما أن أي مجتمع يعيش في أجواء مشرقة، ويسبح في خلجان السعادة، ويرتشف من روافد الهناء، لابد وأن يكون نوع التربية الذي تلقاها أفراده في الطفولة من نوع صالح اجتماعياً، وسيكولوجياً، ذلك لأن التربية هي التي تقرر مصير الفرد ـ أو الأفراد ـ المستقبلي، ومن ثم تسجل مصير المجتمع الذي ينتمي إليه ذلك الفرد، فالتربية إذن تحتل مكانة مرموقة على صعيد الحياة الاجتماعية، وتفتقر إلى اهتمام بالغ، لئلا تصاب بالشذوذ واللا اعتدال الخلقي .
)إن مسالة التربية للطفل تشغل مكانة مرموقة من المسائل الاجتماعية في العصر الحديث فهي من أهم أركان السعادة البشرية، لقد بحث العلماء كثيراً حول مختلف الجوانب النفسية والتربوية للطفل وألّفوا الكتب العديدة في هذا المجال. ولذلك فإن الدول العظمى تُنشئ المؤسسات والمنظمات العظيمة لفرض تنشئة الطفل تنشئة سليمة من حيث الروح والجسد. فيخضعون الأطفال في سبيل ذلك إلى رقابة عملية وتطبيقية مشددة. وبصورة موجزة فإن الطفل يشغل مجالاً مهماً من مجالات التفكير الحديث) (الطفل بين الوراثة والتربية: ص93، ج2(
والإسلام، بدوره، لم يهمل هذا الجانب الحيوي الخطير الذي يحدد منطلق المجتمعات نحو السعادة، أو نحو الشقاء، فيلح ـ عبر مناهج تربوية عديدة ـ على أن تمر هذه المرحلة الهامة من مراحل الحياة الإنسانية في أجواء صافية، لا يعكرها غبار الفساد. ويصب جل اهتمامه على هذه الناحية من نظام الأسرة ناحية تربية الطفولة، لكي تؤثر في مسيرة المجتمع تأثيراً إيجابياً. وتدفعه نحو الرقي والازدهار بدل الانحطاط والتأخر فيحدد موقف كل من الزوجين تجاه تربية الطفولة. ويضعهما أمام مسؤولياتهما في ذلك .
مدرسة البيت
والبيت هو المدرسة الأولى والأهم التي يتعلم فيها الطفل نوع السلوك الذي يتصف به في حياته العامة والخاصة. ويتحدد ـ وفق ما يتعلمه في هذه المدرسة ـ مستقبله من النواحي السيكولوجية، والخلقية، والعقائدية. لأن الطفل يتطلع دائماً ـ بعينين نهمتين ـ إلى نوعية الأعمال. والمواقف التي تنتقش في لا شعوره بصورة غير ثابتة. ولكنها تظل تعشش هناك، وتنمو كلما نما الطفل بيولوجياً، حتى يصبح رجلاً ينعكس فيه كل ما نبع في طفولته من والديه. وما تلقاه وعرفه من أنواع السلوك المعتدل أو الشاذ .
والطفولة في الإنسان هي أحوج من أية طفولة أخرى إلى الحب والعطف والحنان، فلذلك يصر الإسلام على ضرورة قيام (مؤسسة الأسرة) كوحدة أساسية للمجتمع لتقوم باحتضان الطفولة، وإنجاز متطلباتها، والقيام بتربيتها حسب منهاج تربوي رصين، وفرش العطف في أرضية الأسرة، وسكب الحنان في أجوائها .
وفي الأسرة الصالحة يتعرف الطفل على الإجابات العملية الصحيحة لعشرات من الأسئلة الهامة التي تجابهه في الحياة .
·         لماذا.. يعيش؟
 
·         كيف.. يعيش؟
·         كيف ينهي الأزمات بدل أن تنهيه؟
·         بأية وسيلة ينتصر على مشاكل الحياة؟
·         إلى أين.. المصير؟
·         وكيف يجب الإعداد له؟
وهكذا.. كل سؤال يدور حول قضية التعايش.. والحياة .
إذن، فالبيت يجب أن تغمره أجواء هادئة مستقرة، والوالدان يجب أن يكونا شاشة تعكس أمام ناظري الطفل كل ما هناك من أخلاق نبيلة، وتقاليد هامة، وأفكار ناضجة، وعقائد صحيحة، وصفات وديعة، وخصال دافئة، لكي يؤمنا حياته المستقبلية، ويسجلا له الانتصار الساحق على كل عقبة تقف أمامه في الدروب الشائكة الطويلة في حياته ويكتبا له النجاح الكامل في مضاعفات الزمن القاسية .
هذا.. ويجب أن يكون جو الأسرة أيضاً نقياً من كل النزعات العائلية، ليبقى طاهراً من الحقد والكراهية والظلم.. و... الخ، لكي لا يتعلم الطفل إلا الحب والعطف والرحمة .
ويتميز بعض الآباء والأمهات بكونهم فاسدين وذوي أخلاق سيئة، فهؤلاء لا يربون أولادهم إلا على الفساد والانحراف، لأن الأطفال يتعلمون دروس الانحراف وسوء الخلق من آبائهم وأمهاتهم، فينشأون على ذلك السلوك المتطرف. ومن البديهي أن هذا السلوك لا يعكس في المجتمع إلا آثاراً فاسدة .
كما يتميز بعض الآباء والأمهات بأنهم يصرفون جل اهتمامهم إلى ضمان الغذاء.. واللباس.. والمأوى لأطفالهم، ولعدم توفر النضج العقلي الكافي فيهم، فإنهم يهملون الجوانب التربوية والخلقية للطفل، وحتى لو حاولوا أن يقوموا بهذا الواجب العظيم فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون؟ وماذا يقولون؟ وكيف يرشدون الطفل؟ لأنهم لم يفكروا يوماً ما في أمر استيعاب المناهج التربوية الصالحة، ولم يحاولوا أن يفهموا واجبهم في هذا المجال) (الطفل بين الوراثة والتربية: ج2، ص95(
فالنضوج والتكامل يجب أن يطبعا الوالدين، لكي يتمكنا من القيام بهذه المهمة الخطيرة على أفضل وجه. حسب مقياس معتدل يضمن النجاح لمستقبل الطفل .
هذا.. وبما أن الطفل يتأثر أيضاً بالبيئة الآيكيولوجيا التي تحتضنه، كما يتأثر بجو البيت الذي يعيش فيه، وبما أنه غالباً تكون الآيكولوجيا معتركاً لأنواع التقاليد المتضاربة، ومتلوثة بألوان من الطباع المتهرئة، والنفسيات السافلة، بحيث لو ترك الطفل ينشأ تحت تأثير هذا النوع من الآيكولوجيا الشاذ. فإنه سيخرج من مرحلة الطفولة بطبيعة مترجرجة، ونفسية متناقضة .
فإن على الوالدين أن يحافظا على الطفل من التلوث بالبيئة عن طريق تعميق الأسس التربوية الصحيحة فيه حتى تطفح على تأثيرات المحيط والبيئة، بحيث يتخرج الطفل من (مدرسة البيت) وقد تسربل بمشاعر معتدلة وأحاسيس إنسانية، تؤمّن له النجاح في معترك الحياة الصاحب .
دور الرضاع ...
.. ومن ناحية أخرى، فإن للرضاع تأثيراً كبيراً على التربية السيكولوجية للطفل يوازي تأثيره تأثير التنمية البيولوجية، فاللبن ينقل صفات المرضعة، ونفسيتها، وطباعها إلى الطفل. كما ينقل إليه كل ما تتطبع بها المرضعة من جمال، أو قبح، لذلك فالإسلام ينهى وبقوة أن تستخدم مرضعة مشوهة الأخلاق، أو المنظر، أو منحرفة السلوك، أو شاذة العقيدة، كالمسيحية، واليهودية، والمجوسية، والملحدة على العموم، لأن المرضعة المنحرفة ـ غالباً ما ـ تكون مطعمة بأخلاق، وتقاليد متهرئة قد تؤثر في نفسية الطفل، وأفكاره، وصورته، وأخلاقه، وتخلق منه إنساناً شاذاً يتخلق بطباع منفرة، وأحاسيس غير خيرة، بينما تحبذ أن تكون المرضعة جميلة الأخلاق، وزاهية الصورة، ومعتدلة العقيدة .
 
ويؤكد الإمام الباقر (عليه السلام) على هذه النقطة الهامة بقوله: (استرضع لولدك بلبن الحسان، وإياك والقباح، فإن اللبن قد يعدي) (في ظل الإسلام، للإمام القائد السيد محمد الشيرازي: ص100(
الحضانة الخارجية
... والطفل دائماً يشعر بحاجة ماسة تدفعه إلى استدرار العطف والحب، والدفء من أم واحدة، يستأثر بها، ولا يريد أن يقسم حنانها بينه وبين أي طفل آخر، فيظل هو فارغاً من التربوية الجذرية .
ودور الحضانة التي أسستها المبادئ المادية لغرض الاستيلاء على معتقدات الجيل الذي ينمو في ظل الحضانة الأجنبية التي يسودها نظم مادية ـ هادفة ـ وتشحنه بالانحراف، والشذوذ عن طريقها، هذه الدور لا يمكن لها أن تقوم بأعباء تربية الطفولة تربية معتدلة، نظراً إلى أن حنان، وعطف أم واحدة تقوم بإدارة وتربية مائة طفل في محضن واحد، لا يكفيان لإشباع رغبات الطفولة في استدرار العطف والحنان .
فالطفل الذي يتلقى تربيته الأولية من (دور الحضانة) يظل فقيراً من هذه الناحية.. فقيراً من الحب والعطف، ويبقى في نفسه فراغ عريض لا يملأه إلا الشذوذ، والانحراف، والفساد، فإذا كان هناك مائة طفل يقضون مرحلة التربية الخطيرة تحت ظل أم واحدة ـ فقط ـ فلن يشعر أي واحد منهم بالاستقلال الذاتي والحرية، ولا يتعلم الاعتماد على النفس، بل يشعر ـ أبداً ـ بحاجة ماسة إلى مساعدة الآخرين له في جميع أعماله، مع العلم أن الشعور بالاستقلال هو أهم شعور يحتاج إليه الطفل، ولكنه يفقده تحت ظل الحضانات الأجنبية .
وربما يقال أن الإسلام يحبذ إقحام اليتامى في البيوت، ليواجهوا تربية مستقلة منفردة تكفي لتغذيتهم السيكولوجية بصورة متكاملة وتكفي ـ أيضاً ـ لتنميتهم البيولوجية على الوجه الأفضل فدور اليتامى تتفتق عن نفس تلك النتائج الوخيمة، الكئيبة التي تنبثق من دور الحضانة، أما إذا ظل الطفل اليتيم يحبو تحت ظل أم واحدة ـ ولو لم تكن أمه الحقيقية ـ ويستضيء بنور التربية المستقلة تنشأ في نفسه أحاسيس مرهفة، ومشاعر أخوية حية لا تحمل أي تعقيد، أو غموض .
ولكي يكون الإسلام واقعياً يقول الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله): (خير بيوتكم بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيوتكم بيت يُساء إليه) (الطفل بين الوراثة والتربية: ج1، ص275(
ويقول أيضا: (من مسح رأس يتيم كانت له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات) (المصدر(
فإقحام اليتامى في ضمن الأسر لا يهدف إلى التربية البيولوجية ـ فقط ـ فإن هذه التربية يمكن توفيرها عن طريق دور خاصة تمولها وزارة المالية الإسلامية (بيت المال) وإنما الهدف الأصيل من هذا العمل هو توفير التربية النفسية والروحية الصحيحة لدى اليتيم، وتنمية عواطفه ومشاعره وأحاسيسه على الوجه المتكامل .
وإذا ظل اليتيم يعيش ليس تحت ظل أسرة، بل مع مجموعة من أمثاله فلابد أن تنشأ في نفسه عقدة الحقارة ـ الديناميت المدمر لحياة الإنسان ـ وذلك لشعوره بعدم امتلاك أب وأم مستقلين ـ ولو غير حقيقيين ـ يمدانه بالعطف، والحب والحنان اللهم إلا إذا أمكن تأدية دور الحضانة ودور الأيتام لمثل نتائج البيوت الهانئة الهادئ

المصدر : مجلة المدرس