تخيل...

 

 هل تخيلت يوماً أنك تعيش في هذا العالم وحدك ليس معك أي أحد آخر؟ إذا لم تكن قد فعلت، فإني أدعوك لأن تفعل، كما أدعوك لتنقل إلىّ بعد ذلك إحساسك الذي شعرت به. أنا عن نفسي فعلت، تخيلت نفسي استيقظت من النوم فلم أجد أحداً غيري في الغرفة، حتى إذا خرجت منها لم أجد أحداً في الشقة، حتى إذا خرجت منها لم أجد أحداً في الشارع حتى إذا سرت فيه لم أجد أحداً غيري، حتى إذا انتقلت منه إلى غيره ثم إلى غيره ثم إلى غيره، لم أجد أحداً أيضاً غيري، إنه إحساس غريب قد يدفع الإنسان على أقل تقدير إلى اللوثة العقلية هذا إن لم يدفعه إلى الانتحار في ظرف يوم واحد على الأكثر.



 

إن الوحدة بهذا الشكل أمر فظيع لا يُحتمل، لا يحتمل أن لا يجد الواحد منّا من يسمعه أو يكلمه أو يشاركه أو يعتمد عليه أو يطلب منه، إنه إحساس مريع لا كتبه الله على أحد منّا. إن هذا التخيل وإن كان مستحيلاً من الناحية المادية إلا أنه كائن وبكثرة في الناحية النفسية، إن الذي يعيش بعيداً عن الله ويقطع صلته بالسماء إنسان يرمي بنفسه في غربة ووحدة لا قرار لها، وذلك لأن الله تعالى فطر الإنسانية على أن تأنس به أصلاً، ولم يجعل لها سبيلاً لتشعر بالأنس وعدم الوحدة إلا هو سبحانه وتعالى.

 

والمؤمن لا يعتريه ذلك المرض النفسي الوبيل، الذي يفتك بالمحرومين من الإيمان، أقصد مرض الشعور بالوحدة المقلقة، التي تُشعر صاحبها بأن الدنيا مقفلة عليه، وإنه يعيش فريداً منعزلاً، كأنه بقية غرقى سفينة ابتلعها اليم، ورمت به الأمواج في جزيرة صغيرة موحشة يسكنها وحده، ولا يسمع إلا صفير الرياح. إن أقصى ما يصنعه السجّان بالسجين أن يحبسه في سجن انفرادي (زنزانة) ليحرمه من لذة الاجتماع، وأنس المشاركة والاختلاط، فما بالنا بمن وضع نفسه دائماً في تلك الزنزانة، وعاش فيها بمشاعره وتصوره وحده، وإن كانت الدنيا تضج من حوله بخلق الله من بني الإنسان؟!  

 

والمختصون متفقون على أن هذا المرض من أخطر أمراض النفس، لما يجلبه على  صاحبه من عزلة وفقدان للثقة بمن يتعاملون معه، إذ يعتقد أن كل من حوله دونه، وأنهم يخالفونه في كل مقومات الحياة، وأينما التفت لا يجد غير نفسه، وقد مثل بعضهم حالة هذا المريض بإنسان قد سُجن في غرفة جميع جدرانها (مرايا) فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وأن هذه الغرفة التي سُجن فيها لا أبواب لها، ولا منافذ بها، فأين السبيل إلى الهرب منها؟ فهل يستطيع مثل هذا الإنسان أن يعمل أو ينتج، أو أن يظل محتفظاً بوعيه وقدرته على الفهم والتركيز؟ وهل يمكن لمثله أن يظفر بالسكينة والاطمئنان؟ الجواب طبعاً: لا.

 

بل قال المتخصصون في علاج هذه الأمراض: إن لهذا المرض النفسي آثاراً عضوية تظهر على جسم صاحبه، كما تظهر في حركاته وتصرفاته. فقد يصيبه الدوار ويتصبب عرقه، وتسرع نبضات قلبه، كأنه خائف من عدو قاهر، أو  مقدم على موقف عصيب وقد يتخبط في حركاته ومشيه كأنه يريد الهرب.

 

ويقول الدكتور "موريس جوبتهيل" مدير إدارة الصحة العقلية بنيويورك: "إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية". ولم يدخر الأطباء وعلماء النفس وسعاً في البحث عن علاج ناجح لهذا المرض، وبذلوا في ذلك جهوداً جمة، وأجروا تجارب كثيرة، وحاولوا محاولات مخلصة حتى انتهى رأي المنصفين منهم أخيراً إلى أن العلاج الأمثل لهذا المرض هو اللجوء إلى الدين، والاعتصام بعروة الإيمان الوثقى، وإشعار المريض بمعية الله والأنس به. فهذا الإيمان القوي هو خير دواء لعلاج هذا المرض الخطير، كما أنه خير وقاية من شره.

 

 قال الدكتور "فرانك لوباخ" العالم النفسي الألماني: "مهما بلغ شعورك بوحدة نفسك فاعلم أنك لست بمفردك أبدأ. فإذا كنت على جانب من الطريق فسر وأنت على يقين من أن الله يسير على الجانب الآخر"، هذا ما يعتقده الآخرون أما المسلم فاعتقاده أكبر من هذا وأعمق. إنه يؤمن أن الله معه حيثما كان وليس على الجانب الآخر من الطريق، إن الله سبحانه يقول في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني" ويقول في كتابه العزيز: "فلا تهنوا وتدعوا إلn السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم" محمد35. إن شعور المؤمن بأن يد الله في يده، وأن عنايته تسير بجانبه، وأنه ملحوظ بعينه التي لا تنام، وأنه معه حيث كان، يطرد عنه شبح الوحدة المخيف، ويزيح عن نفسه كابوسها المزعج.

 

كيف يشعر بالوحدة من يقرأ في كتاب ربه: "ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله، إن الله واسع عليم" البقرة 115....، وقوله "وهو معكم أين ما كنتم، والله بما تعملون بصير" الحديد4. إنه لا يشعر إلا بما شعر به موسى حين قال لبني إسرائيل: "إني معي ربي سيهدين" الشعراء62. وما شعر به محمد في الغار حين قال لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا" التوبة40. إن شعور المؤمن بمعية الله وصحبته دائماً يجعله في أنس دائم بربه، ونعيم موصول بقربه، يحس أبداً بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم. ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الناس، كل الناس، ولله در ما قال، ما أحلاه من كلام، وما أحكمه من شعر! وما أصدقه من إحساس فعلا:

إن قلباً أنت ساكنه

غير محتاج إلى السرج

وجهل المأمول حجتنا

يوم يأتى الناس بالحجج

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

عمرو خالد لأسرتي بتاريخ يناير 2005