بيت من زجاج..

 

من أمتع لحظات العمر التي ما زالت عالقة بوجداني حتى الآن تلك اللحظات التي كنا نلتف فيها حول جدتي وهي تروي لنا الحكايات لتتخلص من ضجيجنا ولو لبعض الوقت حين يجبرنا صوتها الهادئ الرقيق أن نجلس إلى جوارها في منتهى الهدوء والسكينة..


 

ورغم أن تفاصيل تلك القصص الجميلة قد تلاشت من ذاكرتي، إلا أن هناك قصة حملتها ذاكرتي طوال تلك السنوات وما زلت أحكيها بدوري لأبنائي.. لأن تلك الحكاية رغم بساطتها تحمل مغذى ومعنى عمقين...
 
وهي حكاية الثلات عنزات التي فكرت كل واحدة منهن في بناء بيت للاحتماء فيه من الذئب، فبنت الأولى بيتاً من القش، والثانية بيتاً من الورق، أما الثالثة فبنت بيتاً من الطوب والخشب، وهو البيت الوحيد الذي صمد أمام هجوم الذئب وحمى صاحبته من أنيابه.. وكنت بعقل الطفلة أتعجب كلما سمعت تلك الحكاية وأحاول أن أتخيل صورة هذا البيت المصنوع من الورق أو القش، وكيف هيأ للعنزة تفكيرها أن مثل هذا الخطأ يمكن أن يقع فيه بنو البشر وأن هناك أناساً يعيشون في بيوت أكثر وهناً من بيت عنزتنا القديم..
 
إن فلسفة اتخاذ البشر للبيت أو المسكن تكمن في توافر الأمن والحماية والستر لأصحابه، ولن يتحقق ذلك إلا إذا استطاع هذا البيت احتواء أسرار أفراده وتحقيق خصوصيتهم، أما إذا لم يتسن ذلك فسوف يحيا المرء- دون أن يشعر – في بيت من زجاج.. بيت شفاف لا يستطيع ستر أسرار أصحابه وشؤونهم الخاصة، وبالتالي فهو أضعف من أن يكون مصدر حماية وأمن لهم، ولست أعني بالبيت هنا الحوائط والأثاث والجدران، وإنما أعني به الأفراد الذين يشكلون كينونة هذا البيت، والذين يستطيعون المحافظة بسلوكهم على قدسية هذا البيت أو إهدارها برفع ستر الله عنهم.. فإننا قبل الزواج نكون شديدي الارتباط بالأهل والأسرة وهذا أمر طبيعي وفي الأغلب لا يكون عندنا أسرار خاصة نخفيها عنهم، فلا حواجز بين الأم وابنتها، أو الأب والابن، كما يمكن أن يكون لنا أصدقاء حميمي الود لا نخفي عنهم أمراً..
 
ولكن الأمر يختلف بعد الزواج فكلا الزوجين يجب أن يقدر أن هناك شخص آخر أصبح يشاركه الحياة، وإن كان هو لا يجد أي غضاضة في كشف أمور حياته أمام أهله أو أصدقائه فإن هذا الشريك الجديد يمكن أن يكون له رأي آخر، ولذا فمن أهم أسس حسن المعاشرة الزوجية بين الزوجين حفظ سّر البيت والزوج.
 
وفي نصيحة المرأة العربية المشهورة لابنتها عند الزواج قالت: وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمراً، ولا تفشي له سراً. فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره..، فهو إذاً أمر مهم وخطأ فادح تقع فيه بعض الزوجات وبخاصة ممن هن حديثي العهد بالزواج، ويترتب على ذلك الكثير من المشكلات التي قد تهدد كيان العلاقة بين الزوجين، وقد انفجر بها أحد الأزواج قائلاً: أنا لا أستطيع أن أحيا العمر عارياً.. كل أسراري عند أمها وإخوتها وصديقاتها وجيرانها، إن سّر بيتك وزوجك أمانة ولن يؤثر كتمانك له على علاقتك بالأم أو الأهل، ولكنه قد يجنبك الكثير من المشكلات، فكم من بيت تهدّم بسبب إذاعة أمر قد يبدو تافهاً..
 
يقول علي- رضي الله عنه - : سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره، ولعلنا نذكر في هذا الصدد الحادثة التي حدثت مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإحدى زوجاته وهي السيدة حفصة- رضي الله عنها – عندما أسرّ لها الرسول صلى الله وعليه وسلم أمراً وطلب إليها ألا تنبئ به، إلا أنها نبأت به السيدة عائشة- رضي الله عنها – ونقل لنا القرآن ذلك في سورة التحريم في قوله تعالى: (وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ).
 
هذا وقد يأخذ عدم كتمان سر البيت شكلاً آخر غير الحديث المباشر به مع الآخرين فالصوت المرتفع وبخاصة في النقاش أو الشجار بين الزوجين إلى جانب أنه يوتر الأعصاب ويلهب نار الغضب فهو أيضاً يشيع أسرار البيت، كذلك الصديقة التي تدخل بيتك يجب أن تكون محل ثقة وأهل صلاح واستقامة وإن كانت أميل إلى الحرص وعدم الإفراط في التبسط في سرد شؤونك أمامها ما دامت ليست هناك حاجة ماسة لذلك، ولعل من عاداتنا العربية الجميلة وجود حجرة مستقلة لاستقبال الزائرين ليكونوا في منأى عن جرح عورة البيت.
 
وإن كنا قد خصصنا المرأة بالحديث في هذا الأمر، فإن ذلك لا يعني أن الرجل مبرأ تماماً من الوقوع في هذا الخطأ.. فهناك بعض الرجال لا يتورع أحدهم عن إفشاء أدق تفاصيل حياته الشخصية مع زوجته أمام أصدقائه دون وازع من حياء، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطأ هذا المسلك حيث قال في حديثه الشريف: إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها رواه مسلم.
 
وبعد.. فإن بيوتنا بأمنها وسترها نعمة من الله وقد جعلنا الله فيها ملوكاً فلا يستطيع أحد دخولها علينا بغير استئذان، وشرع لنا في ذلك من آداب الاستئذان في دخولها وحضور الدعوة فيها واستئذان الأبناء على الآباء وحتى بين الزوج وزوجته ما يكفل تحقيق الغرض منها، وما يضيق المقام عن تفصيله.. فمن العار إذاً أن نهتك هذا الستر الرباني بتصرفاتنا الخاطئة.. ولنتذكر دائماً أن الزجاج كما أنه لا يستر ما تحته، فإنه كذلك سهل الكسر.. فإذا ما تحطم أصاب كل من يلامسه بالجروح، فلنحذر أن نسكن بيتاً من زجاج..