بحكم القانون

 

ما رأي حضراتكم في إنسان يسير في الطرقات فيجذب من يقابلهم من الناس ليجبرهم على السير معه، ومؤانسته والاستماع إليه وتلبية أوامره! إنه بلا شك تصرف بغيض لا يصدر إلا عن إنسان افتقد الأدب والرقي وسيطرت عليه روح البلطجة والأنانية! إن الذي يريد صحبة في الطريق الذي يقطعه ليس أمامه إلا أن يكون ودوداً في أصله، ودوداً في طلبه من الآخرين، فالود والألفة من الأخلاق التي تحبب الآخرين في مشاركة شخص معين ومواساته، ومجالسته، ومعايشته، أما الغلظة فلا شيء أسهل منها في التنفير والمباعدة بين خلق الله، ولذلك كان من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفروا"، فعلى لِين الجانب يجتمع الناس وإلى غيره ينفضوا قال تعالى: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"· آل عمران 159، وإذا كان هذا الخطاب الإلهي في حق أرفع الناس خلقاً صلى الله عليه وسلم، فهو في حق من دونه أولى وأوجب! وإذا كان هذا الأمر للناس كافة وفي أحوالهم عامة، فهو بين الزوجين أخص وفي حياتهم الزوجية أحق! إن الرجل الذي تبغضه زوجه ولا تستطيع أن تتحمل معايشته، ويصر هو على إمساكها عنوة وجبراً، مستغلاً اجتهاداً عليه علامات استفهام عديدة يسمى بيت الطاعة، رجل بعيد عن روح الإسلام وسماحته ومروءته·



 

إن الحياة الزوجية ليست حياة استعلاء طرف على طرف إنها غير ذلك تماماً، وإن القضاء الشرعي في عهد من العهود كان يأمر بإرسال الشرطة إلى أسرة الزوجة المبغضة زوجها، المفارقة له لإرغامها على الذهاب إلى بيت الطاعة كي تعاشر زوجها وكانت الأسرة حيال ذلك- تقوم بتهريب الزوجة إلى مكان بعيد فراراً من تنفيذ حكم القضاء! ولا أدري كيف غاب على من شرع هذا الأمر وأمر بتنفيذه، قوله تعالى: "فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا"، إن الخلع ثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل لإنكاره وهو دليل على عدل الإسلام المطلق وإنه ليس بالشريعة الذكورية- التي تنحاز لجنس الرجل على جنس المرأة، كما يدعي ويروج البعض!.

 

إن الله تعالى هو رب الرجل والمرأة على سواء، والله تعالى حرّم الظلم على نفسه، قال تعالى: "إن الله ليس بظلام للعبيد" وإذا كان الله قد أحل تطليق الرجل زوجه إذا استحالت الحياة بينهما من وجهة نظره وبناء على معطياته، فإنه كذلك أحل للمرأة الخلع من زوجها لنفس السبب، إن النبي صلى الله عليه وسلم- عندما رق لزوج بريرة، وقدر محبته لها ذهب إليها يحدثها لتعود إليه! فسألته: جئت آمراً أم جئت شافعاً؟ قال: جئت شافعاً··! قالت فلا أعود! ولم يتهمها النبي- عليه الصلاة والسلام في دينها، ولا في طاعتها لله ورسوله··· وامرأة ثابت بن قيس لم تتهم زوجها بأنه يشتمها أو يضربها أو يضيّق عليها، إنما شكت بأنها تكرهه كراهية شديدة، واعترفت بأنها لا تعتب عليه في خلق ولا دين! فما معنى الزوجية والحالة هذه؟ وما دخل رجال الشرطة هنا؟ وكيف يحكم الإسلام باستبقاء الزوجة في بيت تعده سجناً وتعد صاحبه شخصاً بغيضاً، وإذا قدمت ما أخذت من مال فداء لنفسها فلم لا يؤخذ منها وتسترد حريتها؟! وهل تقام حدود الله في بيت يسوده هذا الجو الخانق؟ وأي شرف للرجل في هذه السيطرة؟

 

إن الإسلام دين العدالة والمرحمة، ومن تصور أنه يأمر باسترقاق الزوجة والإطاحة بكرامتها فهو لا يعرف شيئاً عن الإسلام· كيف تمنع المرأة هذا الحق، والله يقول: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)· والواقع أن ازدراء عواطف المرأة، واستخدام القوة لترضيتها بما لا ترضى ليس من الإسلام بتاتاً! ربما يتخوف البعض من الاعتراف بثبوت حكم الخلع في الإسلام ظناً منهم أنهم يفتحون الباب لشر مستطير يكمن في إطلاق العنان لكل امرأة اختلفت مع زوجها لسبب وجيه أو غير وجيه أن ترفع قضية خلع عليه وهدم البيت بذلك التصرف - على ما فيه ومن فيه.

لقد قرأت أن البعض من المشتغلين بالفقه يتجاهلونه ويرفضون إنهاء عقد الزوجية به سواء بالفسخ أو بإيقاع الطلاق، وبعضهم يدخله في الطلاق للضرر! ويأبى أن يكون لمشاعر البغضاء عند المرأة وزن! والذي أطمئن له هو أن المرأة السوية تكون في نفس حرص زوجها، إن لم تكن أكثر منه على استدامة الحياة الزوجية بينهما، لإدراكها الفطري لمصيرها ومصير أبنائها إذا حدث شقاق وانقسام لعرى البيت! إن المرأة تدرك خطورة الانفصال عن زوجها، فهي تعلم كيف ينظر المجتمع لها، وتعلم أنها بانفصالها عن زوجها تكون قد ضيقت على نفسها من فرص الزواج وبدء حياة جديدة مع شريك آخر، وسوف تقدم تنازلات في كل الاتجاهات سواء في الشريك نفسه الذي ربما لا يكون مؤهلاً لها، وربما تكون به عيوب منفرة، كما لا يغيب عنها مصير أبنائها والشرخ النفسي الذي سيصيبهم جراء الانفصال وهي تدرك أنها ستقلص مساحة الحرية في حياتها بتسلط من له ولاية عليها، وأنها ربما تفقد مصدر الإعالة الذي يكفل لها ولأبنائها الحياة المستقرة، كل ذلك لا يغيب عن المرأة لحظة، وكل ذلك يدفعها إلى عدم السعي مطلقاً للانفصال عن زوجها، حتى وإن طلبت ذلك في لحظة ثورة عارمة وأصرت عليه في حينه!

 

إن المرأة لا تسعى للانفصال عن زوجها إلا إذا كانت مضار استمرار الحياة بينهما أعظم وأخطر مما ذكرت من مآس!، وهي بعض من كل، وهي مآس واقعية ومدركات فطرية تدركها أي امرأة، بغض النظر عن مستواها الاجتماعي أو الثقافي أو المالي، ولذلك لا أتصور أن تسعى للخلع وتصر عليه إلا إحدى امرأتين، إما امرأة معذبة بحق، فهذه إذا أبت إلا الفراق وردت ما سبق إليها من مال، رغم محاولات الإصلاح التي بذلها الباذلون لرأب الصدع والشقاق فلا بد من تسريحها والاعتراف بمشاعرها، وليس لنا أن نسأل عن الأسباب الخفية لهذه الرغبة لنقبلها أو نرفضها! هذه هي الأولى، أما الثانية فهي امرأة خفيفة طائشة، تطلب الخلع لغير علة إلا البطر والأثرة، فهناك بعض النساء اللاتي يعميهن العناد، وتتملكهن شهوة التحطيم، ولا يعبأن بولد أو بنت ولا شيء إلا بأنفسهن، وهؤلاء قنابل موقوتة، لا تدري متى ينفجرن وهؤلاء من دون شك ظالمات وسوف يحاسبهن الله على ظلمهن هذا، تماماً كالرجل الذي يظلم زوجه من دون سبب، ويكفيهن ما جاء في الحديث: أيما امرأة اختلعت من زوجها من غير بأس لم ترُح رائحة الجنة" وفي رواية لأبي هريرة : "إن المختلعات هن المنافقات"·


والذي أراه من وجهة نظري الشخصية أن يحترس المرء ابتداء من الاقتران بمثل هؤلاء حتى لا يصبح البيت والحياة الزوجية والأولاد على كف عفريت كما يقول المثل، وإذا قدر ووقعت الفأس في الرأس كما يقال، فليس أقل من الصبر والتؤدة حتى تمر الزوابع وتهدأ الأمور، وتعود المياه إلى مجاريها· فالإسلام كما صان كرامة المرأة وأعلى من مكانتها يرفض رفضاً شديداً أن تستغل المرأة حق الخلع للعبث والنشوز، فإن البيت المسلم لا ينهض برسالته التربوية والاجتماعية إلا بالتعاون والتراحم وتبادل الحقوق والواجبات· وللحديث بقية في الأسبوع المقبل إن شاء الله.

 

عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 23  أبريل 2005