بالمقلوب

 

هل رأى أحدكم من قبل شخصاً يرتدي قميصاً بالمقلوب ويسير به وسط الناس ولا يبدو عليه أي حرج أو خجل؟ أنا رأيت هذا الشخص وقد شدني منظره ولفت انتباهي سلوكه، ورحت أسأل نفسي: ألم يكن أجدر بهذا الشخص وأليق به أن يلبس القميص كما ينبغي أن يلبس على جهته المعدولة؟! ما الذي دفعه لمثل الذي فعل؟ وهل فعل ذلك سهواً وخطأ أم فعله جهلاً أم متعمداً؟ وحاولت أن ألتمس له العذر فقلت: ربما لم يوضح له البائع طريقة ارتداء القميص على الوجه الذي ينبغي أن يكن عليه، ووجدت هذا العذر واهياً وليس أصلاً بعذر لأن شراء قميص وارتداءه على جهته المعدولة أمر بسيط غير محير يستطيعه ويفعله كل الناس بغير سؤال ولا إرشادات من بائع أو غيره؟



 

ورحت ألتمس العذر وراء العذر فما وجدت في واحد منها ما ينفع، فتحاملت على نفسي وقلت: أنبهه وأنصحه، فبادرته: السلام عليكم، فرد علي: وعليكم السلام، ثم أردفت: بالمناسبة حضرتك ترتدي القميص بالعكس، وكنت أظن أن نصيحتي هذه ستشوقه ليتأمل في نفسه وأنه لن يلبث بعد هذا التأمل أن تحمر وجنتاه من الخجل وأنه سيتأسف لما يبدو عليه من مظهر غريب ومستهجن، وأنه سيقوم على الفور وفي مكان لا يطلع عليه أحد بخلع قميصه ولبسه مرة أخرى على جهته المعدولة، ولكنه فاجأني بما لم أكن أتوقع إذ قال لي: هكذا تلبس القمصان، قلت له: أنا أقول لك إنك تلبس القميص بالعكس فقال لي: وأنا أقول لك هكذا تلبس القمصان تفحصت عينيه فوجدت فيهما إصراراً ينبئ عن الاقتناع بوجهة النظر وعدم احتمالية الرجوع عنها فتحاملت على نفسي وقلت له: على كل حال لقد حاولت إبداء النصيحة لك لأنك تعلم أن المسلم مرآة أخيه وأن الدين النصيحة، ثم سلمت عليه وانصرفت، ولكن حز في نفسي منطقة وإصراره على أن يلبس القميص بالمقلوب معتقداً أنه هكذا يلبس، فرجعت إليه قائلاً: بالمناسبة القميص لا يلبس هكذا إنه يلبس على جهته الأخرى جهته المعدولة!

 

إن هذا الموقف الذي رويته على حضراتكم يقابله الواحد منا ويسمع عنه في كل يوم عشرات المرات، موقف الذين يشترون القمصان ثم يلبسونها بالعكس فالذي يفعل ذلك لا يحط فقط من قيمة القميص وإنما يثير به الاستهجان والسخرية والاستفزاز وربما يدفع الآخرين للاشتباك معه قولاً أو فعلاً، أتدرون من هذا الشخص الذي يلبس القميص بالمقلوب؟ إن مثله هو المرء الذي يفهم الكلام ويطبقه بالمقلوب، مثله الشخص الذي تقول له كن شجاعا، فلا تراه إلا متهوراً مندفعاً بغير روية ولا تقدير للأمور مفسداً بتهوره هذا حياته وحياة من يدور في فلكه، مثله الشخص الذي يفهم عزة النفس على أنها الكبر والتواضع على أنه الضعف.

 

مثله المرأة التي أخاطبها في هذا المقال، وأعني التي تقول لها إن الإسلام يدعوك لقوة الشخصية فتتبنى النشوز مسلكاً ومبدأ التي تقول لها إن الإسلام يدعوك إلى الاستقلالية الفكرية وإبداء وجهة نظرك وعدم الحجر عليها فلا تراها إلا مجادلة عنيدة، التي تقول لها إن الإسلام يربي في أتباعه عزة النفس إناثاً كانوا أم رجالاً وعلى ذلك كوني عزيزة النفس، فتفهم عزة النفس على أنها صعوبة المراس فلا تجدها إلا صعبة الاسترضاء غير هينة لا تقبل عذراً ولا صفحاً، التي تقول لها إن الإسلام يكره الإمعية وعدم اتخاذ المواقف الإيجابية لأي مسلم فتجدها تفهم الإيجابية على أنها العصيان وشق عصا الطاعة، لمن تجب عليها طاعتهم ما أمروا بمعروف، التي تقول لها إن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة ولم يفضل جنس الرجل على جنس المرأة وإن العبرة بالتقوى والعمل الصالح فتفهم المساواة على أنها ندية اتخاذ القرار وعدم احترام الرجل، وقد يبادرني أحد القراء فيقول لي إن الإسلام بريء من هذا الفهم المغلوط ومن هذا السلوك المقلوب وإن القضية قضية طباع وأخلاق جبل المرء عليها فلِمَ أقحم الإسلام فيها؟

 

وابتداء أنا أوافق القارئ الكريم في الشق الأول من كلامه وهو أن القضية في أصلها قضية طباع وأخلاق رُبي المرء عليها أما عن ربطها بالإسلام فلأنه يبلغني وأسمع كثيراً عن نماذج متدنية مهتمة بتطبيق الإسلام تقع في هذا الخلط وعندما تقع فيه تدعي أن الإسلام أمر بهذا، وللحق أقول إن الإسلام بريء من هذا الادعاء ويجب تبرئة ساحته، كذلك وكما وجهت كلامي للمرأة أوجهه الآن للرجل لأنه طرف المعادلة الثاني فالرجل الخناق الذي يحاصر زوجته بالأوامر والأسئلة الاستفهامية والتحقيقات المستمرة في كل صغيرة وكبيرة ليس له أن يدعي أن الإسلام أمره بهذا السلوك لأنه قال له: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" لأن الرعاية المطلوبة في الحديث الشريف شيء والحصار الذي ينبئ عن الشك والارتياب واستخدام السلطة شيء آخر تماماً، هل من الرعاية أن يسأل مثلاً الرجل زوجه عن عدد أكواب الأرز التي استخدمتها في إعداد الغذاء؟! فعندما تقول له استخدمت أربعة أكواب يقول لها لا ليس أربعة إنها على الأكثر ثلاثة فأين الكوب الرابع وماذا فعلت به؟! قومي معي الآن حتى أرى ما بقى من تموين الأرز الذي اشتريته.

 

ويسترسل في مثل هذه الأمور حتى يجعل زوجته تلعن اليوم الذي ولدت فيه أو طبخت فيه أرزاً أو قالت فيه أربعة أكواب، إن هذه المشكلة التي تبدو هزيلة ومضحكة تقع بل وقعت وأتاني طرفاها فحاولت أن ألطف الجو بينهما وبادرت الرجل: ربما وزنت هي أربعة أكواب من الأكواب الصغيرة ووزنت أنت ثلاثة أكواب من الأكواب الكبيرة، ما رأيكم لو أعطيتكم كوباً من عندي موحداً تستعملانه بعد ذلك حتى لا يقع مثل هذا الخلاف مرة أخرى؟! ولكن يبدو أن المزحة لم تقع موقعها الذي كنت أرجو، وقد وصلني ذلك من نظرته التي نظر إلي بها وقال: أليس من حقي أن أعلم كل صغيرة وكبيرة في بيتي؟ ألست أنا رب البيت، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، أليس كذا أليس كذا؟! ولن أشغل حضراتكم ببقية النقاش لأنه من السهل توقعه.

 

إن التعامل بالمقلوب مع الكلام حتى وإن كان صحيحاً لا يحل أي قضية بل يكرسها ويضيف لها عقدة فوق عقدها الأصلية، عقدة الاعتقاد بأن الشخص على الحق الذي لا يقبل النقاش ولا يختلف عليه اثنان، والذي يعتقد مثل هذا الاعتقاد في نفسه من الصعب جداً إقناعه والذي يصعب إقناعه يصعب تغيير موقفه والذي لا يغير موقفه متى كان مخطئاً تتراكم عليه المشكلات الواحدة تلو الأخرى حتى تفنيه وتحطمه وهذا ما لا نرجوه لأحد رجلاً كان أو امرأة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وللحديث بقية في الأسبوع المقبل إن شاء الله.

 

أ. عمرو خالد مجلة المرأة اليوم بتاريخ 19 فبراير 2005