النُّخَب والنَّرجسيَّة

دائماً ما تميل النفس الإنسانية إلى حبِّ سماع الكلمات الطيبة، وحبِّ المدح، وما لم يعمل المرء على تهذيب نفسه ووضع ضوابط لها، فإنَّ النفس الإنسانية ستطغى، وتقوده إلى الهلاك.



يوجِّه الكاتب زياد ريس في كتابه "تجربتي لحياة أفضل" سؤال هام وهو:

كيف نعمل على إنقاذ النخب والكيانات بالحرص على الاستشارة وأخذ القرار الجماعي؟

اليوم أودُّ الحديث عن النُّخَب، وأقصد بها كلَّ مَن تَميَّز بعطائه وبمعرفته وجهده وعِلْمه وخبرته، وما إلى ذلك من أنواع التَّميُّز، وأعني بذلك أيضاً العلماء ورجال الدِّين ورجال الأعمال وكلَّ البارزين في كثير من نواحي الخدمة المجتمعيَّة والخدميَّة.

أريد أنْ أُشير هنا إلى أنَّ هؤلاء بَشَر ومُعرَّضُون لكلِّ أنواع الأمراض البشريَّة، ومنها الأمراض النفسيَّة والآفات الخطيرة بطريقة التفكير، ومنها "النرجسيَّة"؛ التي تتغلغل في صاحبها إلى أن تتحكَّم بتفكيره كله.

ماهي النرجسية؟

أعني بالنرجسيَّة ما عُرِفَ عنها مصطلحاً مِن حُبٍّ وتعاظم وتشبُّث واعتداد بالذات دون الشُّعور بذلك، والنرجسيَّة في كثيرٍ من الأحيان قد لا تكون في صاحبها، وإنَّما تتدرَّج في التغلغل بالنَّفس مع مزيد من إطراء الآخرين له، ومزيد من العلاقات، وتحقيق الوجاهة عند الآخرين.

النرجسيَّة تحتاج إلى بيئة حاضنة لها وظروف محيطة تُغذِّيها وتُقوِّيها باستمرار إلى أن تصبح من القُوَّة والتَّحكُّم بصاحبها بحيث تُصيبه بمقتل؛ ما لم يتنبَّه لها ويعي خطرها ويستدرك أذاها. 

العناصر الرئيسة التي تُشكِّل البيئة الحاضنة للنرجسيَّة:

من العناصر الرئيسة التي تُشكِّل البيئة الحاضنة للنرجسيَّة ما يحمل الصفة الإيجابيَّة، ومنها ما يحمل الصِّفة السَّلبيَّة، ومنها ما هو صفات شخصيَّة بصاحب العلاقة نفسه، ومنها ما هو من خلال البيئة المحيطة.

شاهد بالفيديو: 8 صفات يتفرَّد بها الشخص النرجسي

تميُّز صاحبها في العطاء والبذل بما يزيد عن المحيط الذي هو فيه، وكذلك العلم أو المعرفة بحجم واضح ومُميز لديه، وقد يكون بجانب محدد واضح البروز، إضافة إلى وجود دَعْم معنويٍّ ومادِّيٍّ من أطراف محيطة لصاحب العلاقة، وقد لا تكون ذات معرفة ملاصقة له، وإنَّما في المجتمع ذاته، وقد تكون لدى صاحب العلاقة قاعدة علاقات عامَّة هامَّة على المستوى الاجتماعي الرسمي والشعبي.

استمرار استقبال التبريكات والثناء من المحيطين ولأعمال هامَّة وقَيِّمة بلا شَك، ومِن ثَمَّ تعاظم الاعتزاز بالرأي مع استمرار الثناء، وهذا بدره يؤدي إلى تنامي الاستعلاء الذَّاتي الدَّاخلي عن الآخرين، وتحاشي وتجنُّب المقرَّبين له من التَّوجيه والنَّقد إلى أن يصل الأمر إلى حدِّ الانفصال والاستقلال، وذلك من باب الحفاظ على الأخوة أو اللُّحمة، أو من باب مراعاة حكم التَّدرُّج الوظيفي.

إقرأ أيضاً: ثقافة العطاء سرٌّ من أسرار بناء المجتمعات السليمة

مع اكتمال كافَّة الحلقات اللازمة لاستفحال النرجسيَّة يظهر جليَّاً التَّفرُّد بالرأي والاقتناع الكامل بالصواب، والتشبُّث بما تراه النفس على أنَّه الرَّأي الأوحد، والتمادي والتجاوز للخطوط الحمراء؛ بحيث يتشكّل خلل حقيقيّ بالمحاكمة العقليَّة العادلة للأمور، إلى أن يعيش صاحب العلاقة بوَهْم حقيقي ذاتي يُصوِّر له حق الصواب بكل ما يفعل ويُضْفِي عليه الصبغة الشرعيَّة اللَّازمة لما يفكِّر فيه.

من هنا يبدأ التغلغل المَرَضي في رأس الكيانات فرديَّة كانت أم اعتباريَّة مؤسساتيَّة، وتبدأ الاختلافات تتجلَّى وتتضخَّم شيئاً فشيئاً، إلى أنْ تطفو إلى العَلَن، وتبدأ تلك الكيانات بالتلاشي، فيكون مقتلها من الدَّاخِل.

إقرأ أيضاً: أثر الاحترام على العلاقات مع الآخرين

لذا ما لم تتنبه تلك الكيانات وتلك النُّخَب، وتَحْمي أنفسها بالاستشارة والحرص على القرار الجماعي، وبصِدْق الأُخُوَّة المخلصة، والمُصارَحة الدوريَّة والمكاشفة الصادقة، والاستمرار بالاستقواء بالمجموعة والقرار الجماعي بصرف النظر عما تهوى النفس؛ فإنَّ الكيان سيكون عُرْضَة للنرجسيَّة القاتلة وما تؤول إليه.




مقالات مرتبطة