المطاردة المجنونة: قصة اكتشاف تركيب الـ Dna

بقلم د. أحمد الغامدي

كما هو الحال في الأحداث السياسية الكبرى التي لا نرى الا قمة الجليد الظاهرة منها ، فبالقياس كثير ما نجد ان بعض الأحداث والاكتشافات العلمية الكبرى يختزل جزء كبير من خفاياها ويهمل تحت السطح.



لقد مثلنا في الجزء السابق من هذا المقال بحالة قصة اكتشاف تركيب DNA و دواء البنسلين الذين كثير ما يختزن الجهد العلمي الكبير لاكتشفهما إلى مجموعة بحثية صغيره من العلماء ذوى النجومية الطاغية . بينما في الواقع الأمر يتطلب اجتماع الجيوش العلمية الجرارة لاختراق حصون المعرفة المنيعة، وكما ذكرنا سابقا بالرغم من الحصول واطسون وكرك على جائزة نوبل للطب نظير اكتشاف فهما (او هكذا يزعم) تركيب DNA الا ان العديد من مؤرخي الأحداث العلمية وان كانوا لا يقللون من القدرة العلمية والبحثية لواطسن وكرك قديما وحديثا (كرك كاد يستحق جائزة نوبل أخرى عن أبحاثه عن RNA بينما واطسون كان أول مدير لمشروع الخارطة البشرية/الجينوم) الا انهم يعترضون على نسبة كل الفضل لهما فقط. سبق و ان ذكرنا انهما لم يجريا اي تجربة علمية فعلية توصلهما الى هذا الاكتشاف الأسطوري و انما اعتمدا وبشكل كلى على تجميع وتنسيق و إعادة إخراج نتائج الأبحاث العلمية المتنوعة التى قام بها عشرات العلماء قبلهما ولهذا في اعتقادي المتواضع انهما من زاوية معينة لا ينطبق عليهم قول المعري :

و إني وان كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل فهما لم يأتيا بأي أفكار علمية مستحدثة لكن عبقريتهما الحقيقية والفذة كانت في حسن استثمار وتنسيق أجزاء الصورة المبعثرة لتصبح مفهومة.
 
الـ DNA وجهود الرواد:
لتوضيح حقيقة المفارقة العلمية ان واطسون وكرك ليسا هما فقط من له شرف ادعاء تحقيق نصر تحديد تركيب الـ DNA ، يمكن ان نستخدم الوصف المختصر لجزيء DNA الذي علية مدار مقالهما العلمي الشهير في مجلة Nature ومن ثم نتتبع كم من المعلومات الجديدة التي أضافها واطسون وكرك. يمكن وصف جزئ DNA وتشبيهه بالسلم الملتوي او المفتول ( ولهذا سمى هذا المركب بسلم الحياة) الأعمدة الخارجية للسلم تمثل الدعامة الهيكلية لهذا المركب والمكون من جزيئات السكر والفوسفات المتبادلة في حين ان درجات السلم الداخلية تشكل الروابط الهيدروجينية القائمة بين أربعه أحماض نووية موزعة بشكل ثابت بحيث تكون القواعد الكيميائية A و T متزاوجه في حين تقابل القاعدتين C و G دائما. هذا بصورة عامة الهيكل البنائي الذى توصل العالمان الى استنتاجه وتخمينه ولكن ليس استكشافه مختبريا حيث ان كل جزئية تقريبا في هذا الوصف سبقهما اليها علماء آخرون. فأنجزهما في الواقع (ان صح الوصف) جمع ونظم حبات عقد اللؤلؤ لكن لا فضل لهما في ثقب الحبات فضلا عن الغوص لاستخراج محارها.
لو أخذنا مثالا كون الـ DNA مكون من أحماض نووية فهذه الحقيقة العلمية مكتشفة قبل اكثر من قرن تقريبا من نشر تركيب DNA حيث استطاع الكيميائي الألماني Miescher عزل هذه الجزيئات وتحديد صفاتها و لقد أطلق عليها اسم الأحماض النووية لانه عزل هذه المادة الكيميائية الجديدة من نويات كرات الدم البيضاء. لاحقا تم عزل هذه الأحماض من الكروموسات(المورثات) ومن ذلك الحين تم الربط لأول مرة بين الـ DNA وانتقال الخواص الوراثية . ومنذ مستهل القرن العشرين أوضح التحليل الكيميائي التقليدي ان الوحدات البنائية لـ DNA تحتوي على مجموعة الفوسفات ومجموعة سكر منقوص الأكسجين ( ديوكسي ريبوز) و الأربع قواعد الكيميائية السابقة الذكر .وخلال هذه الفترة اقترح عالم يدعى Levene من معهد روكفيلر في نيويورك ان هذه الوحدات الكيميائية متحدة مع بعضها لتكون ما اسماه النيكلوتيدات التي ترتبط مع بعضها البعض لتكون سلاسل عملاقة تشكل الـ DNA بطريقة مشابهة لتكوين البروتينات عن طريق تشكل سلسلة من الأحماض الأمينية المترابطة، العملية التى ستعرف بالبلمره الشيء الذي لثبتته مجموعة بحثية في جامعة كيمبردج برآسة عالم الكيمياء الحيوية Alexander Todd في أواخر الأربعينيات الماضية. قبل ذلك ببضع سنين استطاع الكيميائي النمساوي Chargraff متسلحا بتقنية الفصل الكروماتوجرافية الورقية الوصول الى قاعدته المشهورة: ان نسبة كمية الحمض النووي A في اي جزيء DNA لنفس الصنف الحي تكون مساوية لكمية T وبالمثل كمية C تساوي G مما يعكس ان هذه الأزواج متلازمة دائما.
 
.. و أنطلق السباق التاريخي
من الاستعراض السابق يتبين لنا بشكل لا يمكن إنكاره ان التركيب الكيميائي للوحدات البنائية لجزئ الـ DNA كان معروفا بشكل كبير قبل الخمسينات من القرن الماضي و لا دور لواطسون وزميلة أومن بعدهم في اكتشاف أي من ذلك. لكن السؤال إذا لم يسهموا في معرفة المكونات الكيميائية لـ DNA ، فهل كان إنجازهم تحديد طبيعة التوزيع البنائي و الفراغي لهذه المكونات و الوحدات التركيبية داخل جزيء الـ DNA . للإجابة على هذا التساؤل لا بد من الإشارة إلى ان الدور الأساسي والفعال للكشف عن طبيعة التركيب البنائي للعديد من المركبات العضوية الكبيرة والمعقدة كان بلا منازع من نصيب تقنية حيود الأشعة السينية X-ray diffraction التى استخدمت بواسطة العالمة الانجليزية Hodgkin مثلا لتحديد تركيب البنسلين وفيتامين B12واستخدمها كذلك perutz لتحديد تركيب الهيموجليبن. لقد بدأ الاهتمام بدراسة الـ DNA بهذه التقنية مبكرا نوعا ما حيث قام العالم Astbury بالتقاط أول الصور السينية لـ DNA في عام 1938 م لكن أبحاثه تعرضت للانقطاع بسبب اندلاع الحرب العلمية الثانية. بعد نهاية الحرب وفي أواخر الأربعينيات رجع الاهتمام الكبير لدراسة و تحديد تركيب الـ DNA حيث انطلق تنافس تاريخي محموم بين ثلاث مجامع بحثية كلا منها يسعى للظفر بهذا الفتح العلمي الكبير. تفاصيل هذا السباق موجوده في كتاب واطسون( اللولبي المزدوج) وفي مذكرات Pauling وكذلك في كتاب كرك الذي منحه اسم معبر: المطاردة المجنونة (what a mad pursut). الفريق البحثي الأول كان في كلية الملك King’s College في لندن حيث استطاع كلا من Rosalind و Willkins من الحصول على افضل و أوضح الصور السينية لـ DNA و التي سوف تكون الملهم الحقيقي لفكرة التركيب اللولبي لـ DNA . الفريق الثاني كان بقيادة الكيميائى الأمريكي الأسطورة Pauling من معهد كاليفورنيا التكنولوجي Caltech الباحث الفذ الذي يعده العديد من المؤرخين أهم كيميائي أمريكي على الإطلاق ذو الإسهامات العلمية المتعددة حيث كانت دراسته لـ DNA في الواقع تكملة لإنجازه الفريد الأخر وهو تحديد طبيعة التركيب الحلزوني للبروتين فيما عرف لاحقا بأسم protin α helix . في هذه الفترة تقريبا اخذ أعضاء الفريق الثالث بالتجمع وهم واطسون الحاصل قريبا على الدكتوراه والمتوجة لإكمال دراسته لما بعد الدكتورة في معهد كافندش بجامعة كيمبردج العريقة تحت إشراف السير Lawrence Bragg الفيزيائي الشهير مكتشف تقنية حيود الأشعة مع والدة وليم براغ . لقد كانت بداية انطلاق فريق كيمبردج ضعيفة جدا حيث فشلت محاولاتهم الأولية لدراسة الـ DNA لدرجة ان بعض المصادر تذكر ان مدير المعهد السير لورنس حرم وحظر forbade على كلا من واطسون وكرك من الاستمرار في البحث في تركيب الـ DNA . هذا التصرف من لورنس ربما لانه لم يرد هزيمة اخرى أمام بولنج الذي سبقه في تحديد تركيب المركبات الغير عضوية الضخمة مثل السيليكات و المركبات العضوية مثل البروتينات. لذا ربما أراد لورنس ان يكون مستوى البحث في معهده على أعلى مستوى و لذلك عندما حس في اول الامر بضعف واطسون و كرك منعهما من الاستمرار في دراسة الـ DNA . لكن في الواقع كما سوف يفصح لاحقا العالم كرك ان سر نجاحهما هو حسن الاختيار و الإبقاء على المشكلة العلمية الصحية، اي انهما تجاهلا نهى لورنس واستمرا في أبحاثهما في المستوى النظري على الأقل باستخدام تقنية بناء النماذج والمجسمات models . بالرغم من نفي واطسون المفتقر للأمانة العلمية لدور مجموعة King’s College في أعطاه مع كرك للمعلومات العلمية الحاسمة لتحديد تركب الـ DNA الا ان الشواهد التاريخية والوثائق والمقابلات الشخصية للأشخاص المشاركين في هذا السباق العلمي تشير بلا مواربة الى ان اللحظة الحاسمة في هذا البحث كانت في أواخر عام 1951 م عندما ألقت Rosalind محاضرة علمية بحضور واطسون ذكرت فيها ان دراستها لصور الأشعة السينية لـ DNA تشير الى وجود في شكل حلزوني . الحظه الحازمة الاخرى كانت الزيارة الشهيرة التى قام بها واطسون لمختبر كلية الملك حيث قام Wilkins بسذاجة و لا مبالاة غريبة بالسماح لواطسون بمشاهدة الصور الفريدة والدقيقة التي أنتجها Rosalind و التي تشير بوضوح كبير الى الطبيعة الحلزونية لـ DNA بدلالة وجود شكل × في وسط الصورة . اذا تذكرنا ان هناك تسابق و تنافس محموم بين المجاميع البحثية الثلاثة في لندن وكيمبردج ولوس انجلوس للوصول الى تركيب الـ DNA ، فانه أمر محير تفسير الخطأ القاتل والسذاجة الكبيرة لـ Wilkins الذي أخل بالأمانة العلمية وقام بإعطاء معلومات علمية حاسمة دون اخذ الموافقة او حتى الاستشارة للشخص الذي أنتجها، و لعل مما يفسر هذه اللامبالاة الغريبة ما نشر في العام الماضي في كتاب عن سيرة Rosalind تحت عنوان (روزالند فرانكلن: سيدة الـ DNA القاتمة) و الذي يكشف الستار عن العلاقة الجافة و التنافر وتبادل الكراهية من أول نظرة كما يقال بين روزالند وشريكها في البحث ولكنسون لدرجة انهما في بعض الأحيان عملا بشكل منفصل و مستقل عن بعضهما البعض بالرغم من اشتراكهما في نفس موضع البحث .في المقابل كان وضع واطسون وكرك افضل حالا بمراحل حيث استفادا كثيرا ليس فقد من صور روزالند الدقيقة ولكن ايضا من حساباتها ونتائجها التي تمكن الرجلان من(اختلاسها) من تقرير أرسلته روزالند الى مجلس الأبحاث الطبية حيث حوى التقرير معلومات غاية في الأهمية عن طول الوحدات البنائية (درجات السلم) لـ DNA وعن زاوية انحدارها وكذلك عدد الدرجات اللازمة لتشكيل دورة واحدة من السلم الحلزوني. من هذا وذلك يتبين لنا ان الركنين الأساسيين المشتركان في نسج خيوط الحبكة الدرامية لاكتشاف تركيب الـ DNA وهما محور تحديد المكونات الكيميائية الأولية ومحور تواجد البنائي لهذه المكونات، كلا هذين المحورين كما رائينا تم استنباطهما من نتائج تجارب و أبحاث علماء آخرين. اذا ما هو الجديد الذي لم يأت به الأوائل وافلح واطسون وزميلة في تحقيقه، البعض قد يحاجج الى ان الإضافة الجديدة التي اسهم بها هذان العالمان ليس في مجال أجراء التجارب العلمية بجد ذاتها ولكن في فكرة تصميم النماذج والمجسمات باستخدام قصاصات الورق والقضبان المعدنية لمحولة إعطاء تصور محسوس لطبيعة تركيب الـ DNA لكن الحق يقال ان حتى هذا الإبداع والتجديد و التوضيح العلمي demonstration في تقريب تصوير التركيب الكيميائي لم يكن من بنات أفكارهما، فلقد استخدم هذه الطريقة قبل ذلك بسنوات منافسهما العالم بولنج عندما افلح في تطوير نموذج و مجسم لتركيب بروتين الفا كما ذكرنا سابقا. وكذلك استخدمه بولنج مع الـ DNA لكنه وقع في خطأ مزدوج حيث استخدم ثلاث جدائل لولبية بدلا من جديلتين و أيضا اخطأ بجعل وحدات الأحماض الأمينة على الطرف الخارجي بدلا من وضعها في مركز ومحور السلم. هذا الخطأ الأخير صححه (باعتراف واطسون وزميلة في مقالهما الشهير فحتى هذه المعلومة استقياها من الغير) العالم Fraser -كان في هذا الوقت طالب دكتوراه في King’s College - هذا لتصحيح أعطى فكرة هامة عن دور الروابط الهيدروجينية في إبقاء مكونات الجزيء الحيوي مترابطة.

المصدر: مجلة المياه