المدرسة

 

الأمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَّها      أَعْدَدتَّ شَعْباً طَيِبَ الأعْرَاقِ


ما أصدق هذا البيت، وما أحكم من قاله. إن الأمومة فن كما هي فطرة، فن له أصوله، وركائزه التي يقوم عليها، والتي بدونها تصبح اسماً لا مسمى له. إن الأمومة تقوم على الاحتضان الذي ذكرنا بعضاً من صوره في المقال السابق، كما تقوم على التربية التي سوف نفرد لها هذا المقال. وبالمناسبة فليس من الضروري أن تَبْرَع الأم في تربية أبنائها نفس براعتها في احتضانهم فقد نجد أُمَّاً عنواناً للحنان والشفقة على أبنائها ومع ذلك لا نجد مثيلاً لها في إفسادهم تربوياً.



 

ومن هنا لَزِمَ لفت الانتباه إلى الشق الثاني من واجبات المرأة المسلمة التي تكتمل بها أمومتها، وهو شق التربية! وأقصد بالتربية التنشئة على الإسلام، التنشئة على عقائد الإسلام وأخلاقه وعبادته، إن هذه التنشئة هي أعظم ما تقدمه امرأة مسلمة لدينها ولأمتها، والمرأة التي تُهْمِل هذه التنشئة تنتقص من أمومتها بمحضٍ إرادتها وتسئ إلى أمتها ودينها اختياراً. من قال إن وظيفة المرأة هي مجرد الزواج والإنجاب ثم تفويض وتوكيل غيرها في تربية أبنائها، ومن قال إن الإفراط في التدليل مرادف للأمومة؟ ومن قال إن ترسيخ الأنانية وتعليم الانتهازية مبادئ على الأم تحصين أبنائها بها؟ إن الأمومة في الإسلام معناها غير ذلك تماماً، معناها تحمل مسئولية التربية، التربية على كل حسن وجميل!

وإليكم بعضاً من نماذج التربية التي يزخر بها تراثنا، لأمهات الأمس اللاتي نرجو من الله تعالى أن يكن الأسوة الحسنة لأمهات اليوم:

عن ثابت عن أنس قال: أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا ثم بعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك (ما أخرَّك)؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت. (رواه مسلم).

ولى في هذه القصة عدة وقفات، أولها: حداثة سن أنس. والظاهرة من قوله: وأنا ألعب مع الغلمان. ثانيها: رده على أمه عندما سألته: ما حاجته؟ إنها سر. ثالثها: قولها له: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. رابعها: قول أنس لثابت والله لو حدثت بها أحداً لحدثتك يا ثابت. يا ترى ما الذي من الممكن أن يطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من طفل يلعب مع الغلمان؟ أعتقد أنه سيكون شيئاً بسيطاً يناسب سنه والظروف التي وجده فيها - ومع ذلك فقد اعتبر الطفل حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً لا ينبغي أن يفشيه لأقرب الأقربين إليه حتى وإن كانت أمه. أو ثابت الذي تُظْهِر القصة مدى حبه وصداقته له.


إن كتمان السر خُلُقٌ يحتاج إلى كثير من التدريب والمجاهدة، وهو خلق صعب على الكبار وعلى الصغار أصعب لحداثة سنهم وعدم تقديرهم لقيمة الكلمة وأثرها، والطفل الذي يكتم السر كأنس رضي الله عنه ولا يحدث به أقرب الأقربين لابد وأن يكون من ورائه أُمَّاً كأمه تُرَسِّخ فيه مثل هذا الخلق، كما دلت على ذلك القصة في قولها: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً.


إن مسئولية الأم المسلمة في تربية أبنائها ليست مقصورة فقط على الأخلاق بل تتعداها إلى العبادات أيضاً، فعن الرُّبيع بنت معوذ قال: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليكمل بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فَكُنَّا نَصُومه بعد (أي يوم عاشوراء) ونُصَوِّم صِبْيَانَنا ونجعل لهم اللعبة من العهن (الصوف المصبوغ أو الملون)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار (وفي رواية مسلم: أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ) (رواه البخاري ومسلم) ولى في هذه القصة أيضاً عدة وقفات: أولها في: غداة عاشوراء وثانيها في ونصوِّم صبياننا، وثالثها في: فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار.

إِنَّ تَعْوِيد الربيع بنت معوذ لأطفالها الصيام، كان تعويداً لهم على صيام نفل (يوم عاشوراء) وليس على صيام فرض (شهر رمضان) وبالقياس على الأولى فمن السهل على أحدنا أن يستبسط فعلها معهم فيما يخص الفرض (الذي هو ليس فرضاً في حقهم لصغر سنهم) إنها تربية ليس المقصود من ورائها القسوة، إنما المقصود منها التدريب على الطاعة منذ الصغر، حتى تكون سهلة في الكبر، إن المقصود منها التربية على تعظيم شعائر الله وإجلالها.


إن وقع بكاء أطفال الربيع عليها مختلف عن وقعه على أى أُمٍّ أُخْرَى غيرها‍‍! فشفقة الرُّبيع على ابنها الذي يبكى هي نفس شفقة غيرها على ابنها حين يبكى، ولكن ربما يكون الفرق أن الرُّبيع أم تربى أطفالها على الإسلام، وغيرها أم تدلل أطفالها بشكل لا يحبذه الإسلام! هذه هي بعض صور الأمومة الحقَّة في الإسلام، أمومة تحمل مسئولية التربية على الأخلاق الحسنة وعلى العبادات وعلى بذل النفس رخيصة في سبيل الله.


إنَّ هذا المقال دعوة لتصحيح المسار وتحقيق الأمومة على الشكل الذي يرتضيه الإسلام، وقد وقعت الحجة به على من قرأته، نسأل الله تعالى، أن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

 

الأستاذ عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ 6 /7 /2004