الكلاب التي تعض .. دراسة وتعليقات

جاء في إحصائية نشرت مؤخراً أن ما يقرب من 5 ملايين شخص في الولايات المتحدة يتعرضون لعض الكلاب كل عام .. وهنا في هذا الموضوع نتناول هذه المسألة من جوانب مختلفة مع عرض لوجهة النظر العلمي والطبية والنفسية .. وبعض الملاحظات والتأملات حول مدلول الحقائق التي تضمنها هذا الموضوع ..



دراسة علمية مثيرة:

بالرغم من الحياة المليئة بالمشاغل ، والكثير من الأولويات التي تحتل دائماً دوائر اهتمامنا ألا أنني توقفت لأتأمل واحداً من الموضوعات التي نشرتها مؤخراً المجلة الطبية البريطانية تحت عنوان " الكلاب التي تعقر " ( Dogs that bite ) ، وهو عرض لدراسة علمية طريفة – لكنها جادة للغاية – قام بها أحد العلماء في بريطانيا حين أحصى ضحايا عض الكلاب في منطقته علي مدى سبع سنوات من واقع سجلات المستشفيات ، وقام بإرسال استمارات للرأي عن طريق البريد تحتوي على أسئلة تتعلق بمكان وظروف الحادث ( عضة الكلب ) ، وكيف حدثت ، والإصابة الناتجة عنها، ونوع الكلب الذي تسبب فيها، ووجهة نظر الضحية ( الشخص الذي تعرض لعضة الكلب ) في الحادث وشعوره الحالي نحو الكلاب بصفة عامة .

كما نعلم فإن أي بحث علمي له منهج وأسلوب يؤدي للحصول على نتائج يتم تحليلها واستخلاص الاستنتاج العلمي بعد ذلك ، وبهذا المنهج يتم دراسة الظواهر ورصد الحقائق العلمية ، وهذا بالضبط ما قام به الباحث هنا حين أرسل استمارات المعلومات إلى ضحايا عض الكلاب في عناوينهم التي حصل عليها من ملفات المستشفيات ومراكز الإسعاف ، وفي حالة ما إذا تعرض للعضة طفل صغير السن ترسل الاستمارة إلى والده ، وقد استجاب ما يزيد على 80 % من الذين أرسلت إليهم هذه الاستمارات بملء بياناتها وردها مرة أخرى إلى الباحث ، وهذا كما نلاحظ أسلوب حضاري يدل علي تعاون وتفهم لأهمية المشاركة الايجابية من جانب الجمهور هناك.

كان الذكور أكثر عرضة لعض الكلاب من الجنس الآخر ، وكان الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة يشكلون أكثر من نصف عدد ضحايا عض الكلاب.

وتراوحت الإصابات التي لحقت بهؤلاء الضحايا من أطفال وبالغين نتيجة لتعرضهم لعض الكلاب بين إصابات سطحية ، وجروح خطيرة نافذة ، وفي بعضهم كانت الإصابة خطيرة نتيجة لتهتك في أنسجة الجلد والعضلات العميقة ، وأحياناً كان مكان الإصابة هو الوجه ، وقد تطلب إسعاف وعلاج هذه الحالات الكثير من الجهد والوقت ، كما تم تحويل بعضها لاستكمال العلاج عن طريق جراحة التجميل ، وذلك بالإضافة إلى الآثار النفسية الهامة لعضة الكلب خصوصاً على الأطفال دون سن العاشرة وعلى أسرهم أيضاً.

الكلاب التي تعض الإنسان:

اهتمت الدراسة أيضاً بالكلاب التي كانت طرفاً في حوادث العقر المختلفة ، فقد أمكن تحديد أنواع وسلالات الكلاب التي تعض وعلاقة ذلك بشدة الإصابة التي تؤكد شراسة الكلاب وخطورته ، فالكلاب من سلالة " ستافوردشير " و " جاك رسل " و " دوبرمان " تأتي في مقدمة القائمة ، وهي أنواع شديدة المراس يستخدم بعضها لأغراض الحماية والحراسة والصيد.

لكن الطريف حقاً أن الغالبية من حوادث عض الكلاب كانت بواسطة كلب مملوك للضحية ، أو معروف له جيداً ، لكن – للإنصاف – فإن واقعة العض كانت تحدث داخل بيت الكلب أو في مكانه في 85 % من الحالات ، أي أن الكلب لم ينتقل ليهاجم الضحية أو يتعقبه ، كما أكدت الدراسة أن ذكور الكلاب كانت أكثر تعرضاً للآدميين من إناثها ، أما عن مصير الكلاب التي تعض فقد وجد أن صاحب الكلب يقوم بقتله في 56 % من الحالات، وفيما تبقى منهم فإن 18 % من الكلاب يعود إلى العض مرة أخرى !

وقد اهتمت الدراسة أيضاً بالظروف والملابسات المحيطة بالواقعة ، فكما ذكرنا يحدث العض للضحايا من كلابهم في العادة ، ولا يكون بالضرورة نتيجة لاستثارة الكلب بل قد يعض الكلب شخصاً أثناء اللعب معه أو تدليله أو أثناء سيره في الطريق ، ذلك يحدث في أقل من نصف الحالات تقريباً ، ويتعرض الكبار عادة لعض الكلاب وهم في منازلهم ، بينما يتعرض الأطفال لمهاجمة الكلاب أثناء زيارة صديق أو في منزل أحد الأقرباء أو عند الجيران.

جوانب نفسية للكلاب وللضحايا:

وبدراسة ظروف وملابسات عض الكلاب فقد أمكن التوصل إلى عدة حقائق أهمها أن عضة الكلب غالباً ما يكون مصدرها كلبك أو كلب تعرفه جيداً وعادة ما تحدث في عقر دارك ، ولكن السبب المباشر هو مهاجمة الكلب في مكانه ، أو التصرف بطريقة يعتبرها الكلب تهديداً له ( شخصياً ) من جانب الضحية ، أو يرى فيها الكلب تهديداً لأسرته ( ليست أسرة الكلب ، ولكن الأسرة التي تملكه وتقوم علي تربيته ) ، وفي بعض الحالات لا يكون هناك شيء من ذلك لكن الكلب غيور أكثر من اللازم ! أو أنه - أي الكلب - قد أساء فهم وتفسير الموقف !!

أما عن الإصابات المباشرة نتيجة لعضة الكلب من جروح وتهتك فقد أشرنا إلى ذلك ، لكن هناك من الآثار النفسية ما يحدث ويمتد لفترة طويلة بعد علاج كل الجروح والإصابات المباشرة ، وقد يستمر لسنوات طويلة ، فقد وجد أن الأطفال دون العاشرة يصابون بالعصبية الزائدة ، وتظهر انفعالاتهم بشدة عند رؤية الكلاب أو حتي سماع نباحهم ! فقد ذكرت نسبة من الأطفال – وبعض من الكبار أيضاً – أن مجرد رؤية أي كلب عقب العضة تثير لديهم شعور الخوف ، كما وجد أن نسبة كبيرة من الآباء كان تأثرهم بالغاً نتيجة تعرض أطفالهم لعضة الكلب ، وكان رد فعل بعضهم الشعور المبالغ فيه من الخجل والإحساس بالذنب لأنهم ربما تسببوا بتقصيرهم في مراقبة الأطفال فيما حدث .

بقي أن نذكر أن ما يقارب من ثلثي الأطفال وأكثر من نصف الأشخاص الكبار الذين تعرضوا لعضة الكلب منذ سنوات عديدة قد اعترفوا أنهم – ورغم مرور هذا الوقت الطويل – أصبحوا يحذرون الكلاب بشكل مبالغ فيه ، ويحسبون لهم ألف حساب !!

الدروس المستفادة :

معذرة – عزيزي القارئ – أرجو ألا ينفذ صبرك وأنت تطالع كل هذه التفاصيل ، وأظنك لم تكن تتوقع أن يوجد في الدنيا من يتسع صدره لدراسة وتحليل كل هذه الأمور حول موضوع نعتبره بسيطاً للغاية كهذا الذي نتحدث عنه وهو عضة الكلب ، لكن دراسة الطب تعلمنا أن نحاول بصبر البحث عن علاج ناجح لكل داء ، ألا أن الوقاية تأتي في المرتبة الأهم ، وأعتقد أن أهمية الكلام عن ضحايا عضة الكلب ومعرفة أنواع الكلاب التي تعض والظروف والملابسات التي تدفعها إلى ذلك لابد أن يفيدنا في التوصل إلى الأسلوب الأمثل لحل المشكلة بالوقاية قبل العلاج .

ومن الدروس المستفادة من هذا الموضوع أيضاً – عزيزي القارئ – ذلك الأسلوب العلمي في تناول المشكلة حيث رأي الباحث أنها تهم قطاعاً من الناس في مجتمعه ( بريطانيا ) فراح يبحث في كل جوانبها ويحاول التوصل إلى جذورها ، إن ذلك هو سر تقدم العلم حين يحاول ملاحظة الظواهر بدلاً من المرور عليها مرور الكرام ، فيتم رصد أي ظاهرة ودراسة جوانبها بأسلوب علمي ومن ثم التعامل معها .

كانت التوصية التي خلصت إليها هذه الدراسة هي في الواقع دليل تبرئة للكلاب التي تعض ، فقد وجد الباحث بعض المبررات لسلوك الكلب تدفعه إلى العض حين يجد شخصاً يزعجه من نومه دون مبرر ، أو يتجه إليه بطريقة يمكن تفسيرها على أنها تهديد مباشر له ، أو يقوم بمضايقته ، أو يسرف في اللعب معه والمزاح إلى درجة تؤدي إلى إثارته ، وهو ( أي الكلب ) في كل هذه الحالات على حق في أن يبدي قدراً من الشراسة ليضع الأمور في نصابها !!

لكني أسألك – عزيزي القارئ – عن المبرر الذي يدفع الإنسان إلى العدوان المدروس على أخيه الإنسان في الحروب التي تشتعل في كل أنحاء العالم وتدور رحاها لتمتد إلى سنوات ، ويقوم فيها الإنسان باستخدام كل الأسلحة ليقتل ويدمر دون سبب ، أو لأسباب واهية لا يمكن أن تبرر سقوط هذه الأعداد من الضحايا كل يوم ، لا تقل لي – عزيزي القارئ – إنها السياسة التي نفهمها هي التي تدفع الناس إلى قتل بعضهم بعضاً ، فالله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان العقل كي يدفع عجلة الحياة ويؤدي رسالة سامية ، وليس لاستخدامه في القتل والتدمير مهما كانت المبررات .

والغريب بعد ذلك أنك إذا أردت أن توجه إهانة بالغة إلى شخص ما تصفه بأنه " كلب " ألا ترى معي أن ذلك شيء لامعنى له بالمرة ، بل ينطوي على ظلم بالغ .. للكلاب ، وأخيراً فإنني أعتذر عن اختيار مثل هذا الموضوع الذي يبدو هامشياً أو غير جاد للكتابة فيه.. لكن المزيد من القراءة المتأنية في سطوره ربما يكون مادة ملائمة للتأمل في بعض شؤون الإنسان والحيوان .. وربما في مجمل أحوال الدنيا في عصرنا الحالي .

حياتنا النفسية