القوة في الأخذ والعطاء

يعتقد العديد من الأزواج أو الزوجات أن العلاقة الزوجية هي فرصة للسيطرة أو للأخذ من الآخر، أو من الآخرين، أو من المجتمع، سواء أكان هذا الأخذ معنويا أو عاطفيا أوماديا أو اجتماعيا أو ذاتيا.

لذلك يكون من الصعب على من يحمل مثل هذه النظرة أن يؤسس علاقة زوجية وأسرية سعيدة ومربحة، بل وقد تواجهه العديد من الأزمات التي يعجز عن تجاوزها، أو قد تخلف وراءها العديد من الآثار التي تتغلغل في نفوس أفراد العلاقة الزوجية ، أو سماتهم الشخصية واتجاهاتهم تجاه الأهداف والواجبات التي تزوجوا من أجل تحقيقها.



قوة التعامل

بعض الأزواج أو الزوجات يعتقدون بضرورة الرفض أو الغموض، وقد يصفون القبول أو الموافقة ضعفا وسيطرة من قبل الآخر عليهم، بينما هو أحد خواص الرضا والسعادة ، وإشباع الحاجات، والشعور بتحقيق الذات، وقد يصف بعضهم مشاعره الإيجابية عندما يبدأ برحلة التقبل الزوجي والمجتمعي، وربما يستمر المعنى لدى أغلبهم وبالمشاعر ذاتها ولفترات زمنية، بل ولسنوات طويلة من حياتهم، ويعد هذا الأمر جيداً عندما يرتبط بمفهوم التقبل المقيد بحدود أوامر الله عز وجل. كي لا يصاب البعض منهم من الذين لا يحدثون التوازن والاتزان في هذا التقبل أن ينسخوا شخصيات من حولهم عليهم ويلغوا شخصياتهم، وأن لا يصلون إلى رفض الذات والآخرنتيجة زيادة التقبل أو ضعفه، وفي هذه الحالات ينبغي على كلا الزوجين البدء بتحديد الهدف، دون مبالغة، وأن يكون كل زوج وزوجة نفسه قبل الزواج وأثنائه بلا تكلف أو تزويق أو تصنع، ومن الضروري الاشارة إلى أن "الكمال لله عز وجل وحده" لذلك فأننا نفتقر لوجود الزوج الكامل كي نتقبله بينما يوجد لكل منا إيجابياته وسلبياته ولذلك فإن قوة التقبل في تفهم سمات الفرد لذاته وللآخر هي الفكرة السليمة لبناء العلاقة والسعي للنهوض بها بدلا من السعي للتغيير من اجل التطابق وليس من اجل اسعاد الآخر. وعلى كل منا البدء بهذا المفهوم قبل أن تزداد وطأة الأحداث وزيادة العطاء وجفاف التبادل من الزوج الآخر أو المجتمع، وهنا تحدث الأزمات الحقيقية بين الذات وإرضائها، وبين الواجبات وردود أفعال الآخرين، وبين التبادل والتفاعل بين الأخذ والعطاء.

الإتزان

وبالتأكيد أن نسبة تزيد على نصف الأزواج والزوجات وهم الذين تتراوح عطاءاتهم بدرجات متفاوتة بين الأخذ وتحقيق الواجبات، وبين العطاء وتحقيق أهداف العلاقة الزوجية والمجتمعية، وتتسم هذه العلاقات بالإتزان إلى حد ما، وإن واجهت هذه العلاقة أية أزمة أومشكلة يتمكن أطرافها من تجاوزها والاستفادة من نتائجها للإرتقاء من نقطة المشكلة إلى نقاط التصحيح والمعالجة، واتخاذ القرارات الصائبة .

ومن هذا المنطلق تتولد لديهم مشاعر الإتزان في علاقاتهم مع الذات ومع الآخرين، وتنطلق مفاهيم الأخذ والعطاء لديهم بما منحهم الله من قدرات وسمات ويتولد مما تقدم شعورلدى الأزواج والزوجات بالمشاعر الإيجابية والشعور بالرضا، بعد توظيف واجباتهم لتحقيق الرضا عن العطاء والقناعة بالأخذ وفقا لمفاهيم البناء الإنساني وهو شعور الزوج بالاكتفاء بما أخذ أو ما استطاع أن يحصل عليه، والرضى بما أعطى والفرح بما عاد عليه.

مفاهيم موروثة أم مكتسبة

إنها الاثنين معا ولا يمكن فصل أو ترجيح رأي عن آخر، ولكنها تتفاوت في نسبة المتوارث أو نسبة الإكتساب. وفي إمكانية كل زوج وزوجة من تفهم هذه المفاهيم ودمجها مع طموحاته وأحلامه ومع طموحات المجتمع، والتعرف على حجم ونوع هذا الأخذ أو العطاء بينه وبين شريكه أو أفراد مجتمعه؟؟ وتوجيه سلوكياته ورغباته وما يحتاجه في مسيرة حياته الزوجية والأسرية الممتدة من الأزواج إلى الأبناء والأحفاد وللمجتمع ومن حوله. وكلما تمكنا من إحياء هذه المفاهيم وتحويلها إلى مواقف في واقعنا الحالي، يمكننا الوصول إلى التخطيط والاستعداد والتمتع بمرحلة الاسترخاء والراحة سواء أكان في السفر أو تنظيم برامج أسرية، وإعادة النظر في طموحاتنا، وتعديل تطبيق كل ما تقدم لنمضي بشجاعة في البدء بتنفيذها؟؟.

من المؤكد أن هناك ظروفاً محيطة بكل علاقة زوجية أو أسرية تحتاج أن نتعامل معها في الوقت الحاضر لإسعاد الأزواج أولا وأسرهم ثانيا ومجتمعهم ثالثا وتعميم هذه السعادة على من يحيط بهم للتمكن من تواصل هذا الموروث وإكسابه ألوانا جديدة ليكون أداة للعطاء للأجيال القادمة إن شاء الله.

إن إداركنا للظروف التي نمر بها وللحاجات التي تقتضيها هذه الظروف هي التي تمكننا من تعميم الأحاسيس والمفاهيم التي نشعر بها على من حولنا، لكي يتعاملون بالطريقة ذاتها خلال فترة معينة في حياتنا منها فترة الإجازة أو التخطيط لمستقبل علاقاتنا، أو عند تغيير متطلبات هذه المفاهيم وفق مرحلة معينة تمر بها علاقتنا أو بيئتنا المجتمعية للوصول إلى تحقيق مشاعر الفرح والقناعة وتلبية الحاجات وتنفيذ الواجبات وتحديد التكاليف ورصد العائد.

البداية

كيف نبدأ ومتى نرصد ونحلل ؟! هل العطاء من الأموال أو المصروفات أو المشتريات كثرت أم قلت والديون كثرت أم قلت؟ هل يمكن كل ذلك أن يوصلنا إلى مشاعر آمنة لبناء السعادة والرضا عن ذواتنا وعن العلاقة الزوجية  ؟؟ وهل يمكننا العودة إلى مبتغى بداية تكوين الأسرة وهو إسعاد الأزواج لبعضهما بما يرضي الله ويرضيهما ويرضي أسرهم ومجتمعهم؟! وهل هناك حاجة لاستحضارعدة مفاهيم واعتمادها في بيئتنا الأسرية.

بالتأكيد لا يقتصر الأمر على المصروفات أو السفر أو التهنئة فقط، أو على التباهي وأساليب المبالغة في الاحتفال ببدء العلاقة المقدسة، وقد ينسحب الأمر لغاية ولادة الأطفال الذين ينهلون من آبائهم هذه المفاهيم والقيم في تعاملهم مع المتغيرات المحيطة بهم والطرق التي تعينهم على اختيار الذي يحتاجونه بالفعل وليس كلما يرونه أو يرغبون في تقليده، إذا نحن بحاجة إلى همسة في آذان ( الأزواج والزوجات أولا) وثم الوالدين مفادها ضرورة تعليم الأبناء وتدريبهم على تحديد حاجاتهم، ثم واجباتهم، ثم تكاليف تنفيذ هذه الحاجات بإتزان مع ما ينبغي عليهم من أدائه، وأن يتبصروا بالعائد الذي يعود عليهم ليس العائد المادي فحسب،  بل العائد الذي يحقق أهداف حياتنا ووجودنا سواء أكان بالأخذ عندما يكون حقاً، وبالعطاء عندما يكون واجباً، وبالأخذ والعطاء عندما يكون بلا مقابل وبلا ندم.

ولنجرب هذا المبدأ في إجازتنا ولنحدد الهدف من وجود الإجازة؟؟ والتعرف على معناها إن كانت تدل على إظهار ممتلكاتنا المادية أم لترييض عقولنا ونفوسنا ولتجديد نشاطنا وزيادة قدراتنا على العطاء؟؟ أم....؟.

إذاً هناك تحد حقيقي في حياة كل منا بعد أن تتضح لدينا الرؤية الواضحة لمفهوم الأخذ والعطاء وان نبذل ما نستطيع لتطبيقه ونقتنع بمردوداته، والسعي للحصول على ما يريد كل منا، والبحث عما يشعرنا بالسعادة وبقيمة الذي يتم الحصول عليه، إذ أن البعض الذي لا يكتفي بما حصل عليه بل ويشعر أنه يفتقد باستمرار لتحقيق أمورا كثيرة لذلك فهو يبتعد عن القناعة بما يحصل عليه، ويمتد هذا الشعور ليشتمل على الرغبة في تغيير الآخر ليأخذ منه كل ما يتمكن ويستطيع، والبدء بتصحيح المزيد من سلبيات الآخر والإرتقاء بالرغبة في تحديد صفات ومفاهيم  نحتاجها لبناء ذواتنا أو علاقاتنا الزوجية تنسجم بما نحتاجه من الأخذ قبل العطاء، وتتولد لدينا قناعة تامة بما نعمله أو ما نؤديه من حقوق أو واجبات، بل وقد تتولد قناعات جديدة تجعلنا لا نندم عندما نُعطي، ولانندم لأننا لم نأخذ كما أحببنا أن نأخذ، ولا نسأل أنفسنا أو من حولنا لماذا فلان لديه كذا وكذا وأنا افتقد كذا وكذا؟؟ بالتأكيد فإن أغلب الناس لديهم ثوابت ينطلقون منها في تطبيقهم لمبدأ الأخذ والعطاء وتحقيق السعادة والرضا بما لديهم ولكننا نتحدث عن القلة التي تشعر غالبا أو في بعض الأحيان بالندم أو الإحباط، وهو الذي يؤدي بهم إلى حالة المبالغة بالأخذ أو بالعطاء.

إذ أن من طبيعة البشر الرغبة في الحصول على أقصى ما يستطيع الحصول عليه، بل وأحيانا الحصول على كل شيء حوله، كما هي طبيعة الأطفال الذين لا يعلمون بحاجتهم الحقيقية. ولكننا إذا لم نربيهم على مفاهيم الواجبات قبل الحقوق، وطرق الإستمتاع بما يحصلوا عليه ليس لأنهم حصلوا عليه فقط، بل لندع  لهم فرصة تحقيق أحلامهم في الحصول عليه، وتعريفهم بأساليب الإستفاده منه!!

خطوات تساعد في ترسيخ مفهوم الأخذ والعطاء:

·         تدريب الأزواج والزوجات لأنفسهم أولاعلى تقبل ذواتهم وظروفهم والتعرف على حاجاتهم، والتعرف على واقعهم وما لديهم من إيجابيات، وتحديد المعوقات، واستبصار الفرص المتاحة حولهم، والنظر إلى سمات كل منهم بوضوح والتعرف على ما لديهم وما يحتاجون إلى تغييره أو تطويره.

·         الإتزان في طلب الأخذ وفي العطاء وفي اقتناء الأشياء على مستوى ذواتنا الداخلية (وفي العلاقة الزوجية) والخارجية ( علاقتنا المجتمعية)، ومقاومة اللهث وراء كل جديد ولدينا ما يشبهه أو ما يسد لنا الحاجة.

·         العودة إلى ميزان الأخذ والعطاء وفهم دلالات الزيادة أو النقصان، إذا شعر البعض بأن كل ما حصل عليه لم يكن كافيا، وأنه لم يحقق التناغم والعلاقة المتناغمة بيننا وبين رغبات عقولنا وأفئدتنا وعقول الآخرين من حولنا ورغباتهم لنحقق القناعة الداخلية والخارجية معا.

·أن نتعلم ونعلم أولادنا بترتيب احتياجاتنا الحقيقية وليس ما نحتاجه لنجذب نظرالآخرين إلينا، أو ننظر لما لديهم فكل منا قدرالله  له رزقه وربما الذي يملكه الآخرون لن يسعدنا إذا كان لدينا.

·         أن نسعى إلى أن يتعرف كل منا إلى حاجاته الحقيقية ويتعرف على طموحاته ويسعى لتحقيقها وان يقتنع بما يصل إليه وفقا لقدراته واختياره للطرق التي تولد لديه القناعة والسعادة معا، وأن يكون العائد على كل زوج وزوجة عائدا له في رصيده الدنيوي والآخروي.

·         أن لا تكون لدينا حدود للسلوكيات الجيدة في التعامل مع الآخرين بل أن تكون لدينا أطماع على اكتساب اكبر قدر ممكن من العادات الايجابية ومن التسامح والود والتضحية وتطويرالذات وبذلك نكون قد حققنا واجباتنا تجاه أنفسنا وأسرتنا ومجتمعنا وهي بيئتنا الخارجية التي نسعى إلى إسعادها والعطاء إليها ولكي نأخذ ما نستحق .

·         البدء بالتخلص من (الجشع، الحسد، حب التملك، اللامبالاة، حب الشراء غير المبرر، الطموح غير المشروع) في نفوسنا وسلوكنا وفي نفوس أبنائنا.

·         أن نقول للصراع الداخلي (الجشع بكل أنواعه) في الحصول على المزيد (قف) !! وأن نقول للطموح إمضي بنا للمستقبل.

·         أن لا نقود عربة كبيرة فارغة نملؤها بما نراه دون أن نفقه ما فيها أو كيف نستخدمه ونسعد به، ولنعدد الوقفات والتفكير قبل الجري بسرعة دون النظر وراءنا أو امامنا، إذا نحتاج لنظرة إلى الواقع دون نسيان أحلامنا ومن هم أقل منا.

·         لنعيد بناء اتجاهاتنا وقيمنا واتجاهات أولادنا تجاه رحلة الأخذ والعطاء وأن نعمل لنكون قدوتهم ونعينهم لينعموا بالسعادة وكيف يحصلوا دائما على الكنز الذي لا يفنى وهي القناعة.ولا ننسى قول الحق (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون)

استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه

الدكتورة: فائقة حبيب

خبيرة ومستشارة في العلاج النفسي والأسري

E-mail:drfaiqah@yahoo.com