الفسلفة.. لماذا؟

قرأت كثيرا في المقالات تحذيرات يطلقها بعض الفضلاء من قراءة (الفلسفة) والتعمق فيها، لأنها تبعث على الشك والتيه، ولأنها تعارض وتناقض العقيدة الإسلامية، وقرأت لآخرين ينصحون بعكس ما سبق، بل منهم من يعشق الفلسفة حتى الصبابة، لأنها الأرضية الصالحة للحضارات وغاية ما توصل إليه البشر من جهد عقلي.



 

فلمن نستمع؟؟

هل الفلسفة هي المخرج أم المأزق؟

هل هي الحل أم المشكلة؟

دعوني أطرح هذا الموضوع من عدة جوانب

 

الجانب الأول: مفهوم الفلسفة

الفلسفة تعني (حب الحكمة) والفيلسوف هو محب الحكمة، فما هي الحكمة؟

يقول المتخصصون إن الفلسفة مستعصية على التعريف، وهنا يكمن جمالها ربما كان الفيلسوف هو الذي يملك القدرة على التأمل والتحليل ثم يصل إلى إنتاج نظرية في شأن من شؤون عالم الغيب أو الشهادة، فهل هي أسلوب في التفكير؟ هذا احتمال أيضا...

 

حين تطلق (الفلسفة) فإن الأذهان في الغالب تنصرف إلى الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الأوروبية المعاصرة، فهل هذا صحيح؟ أعتقد أنها أغلوطة وكذبة كبيرة، إذا كانت الفلسفة هي التأمل فمن يملك الحق في حصرها في الزمان والمكان الأوروبي؟

 

من الملاحظ أن الفلاسفة ظهروا في زمان متقارب وكان أكثرهم متعاصرين، فزرادشت في إيران وبوذا في الهند، وكونفوشيوس و لاو تسو صاحب كتاب الطاوية في الصين وطاليس المالطي أول فلاسفة اليونان كانوا في القرن السابع قبل الميلاد، وبعدهم جاء فلاسفة أثينا الثلاثة (سقراط وأفلاطون وأرسطو)، وإذا دققت في فلسفاتهم فإنك تلحظ أمرين اثنين:

الأول: أن الفلسفة كانت فلسفة كونية أي أن بعضهم استفاد من بعض، فأفلاطون مثلا قام بجولة طويلة قبل أن يشرع في تأليف كتبه، وقال عن الحكومة المصرية إنها أرقى ما توصل إليه العقل في أسلوب الحكم، وطاليس المالطي كان يبحث عن إله واحد حال في الكون (الحلولية) وقد التقط هذا من الهندوسية التي كانت تبحث عن (المطلق) التي تضرب فلسفتها في أعماق التاريخ

الثاني: أن الفلسفة شقت طريقا في ذلك الزمن وخطت خطا لم يستطع العالم حتى اليوم الخروج عنه، بل ربما يصدق أن نقول إن العالم يعيش ثقافة واحدة منذ 3000 سنة تقريبا أو يزيد.

 

الجانب الثاني: الفلسفة وعلاقتها بالدين

ربما يكون الهاجس الأكبر للخائفين من الفلسفة والممانعين لها تعارضها مع الإسلام، فهل ثمة تعارض؟
أعتقد أنه من المبالغة أن نقول أنه لا تعارض ولا ثمة خوف من الفلسفة في هذا المجال
أساس انطلاق الفلسفة اليونانية هو الباعث الديني الصوفي كما يقول نيتشه، فلماذا نحاول أن نبرئ ساحة الفلسفة من الجانب الديني؟

 

هل الفلسفة تدعو للإلحاد؟ لا أعتقد ذلك بل ربما العكس هو الصحيح، فمن النادر أن تجد فيلسوفا ملحدا، إنهم مؤمنون، لكن أي إيمان؟

 

النموذج الديني للفلسفة يتلخص في (الحلولية) أي أنهم يؤمنون بإله واحد متغلغل وحال في الوجود، وهذا مخالف للتصور الإسلامي بالتأكيد، بل إني أعتقد أن أخطر ما يواجهه العالم اليوم هو جثوم العقيدة الحلولية والتي تؤدي لزاما إلى المادية وتحمل في طياتها تدمير الدين بالكامل.

 

إذن الفلسفة تملك تصورا لعالم الغيب وهو تصور مختلف كل الاختلاف عن التصور الإسلامي، لذلك لا داعي أن نحاول تهوين الأمر أو تبريره لأجل إزالة العقبات أمام قراء الفلسفة.

 

الجانب الثالث: الفلسفة وعلاقتها بعالم الشهادة

يقال إن فلاسفة أثينا (سقراط وأفلاطون وأرسطو) استطاعوا أن يوسعوا من اهتمام الفلسفة في شتى المجالات الحياتية (السياسة والاقتصاد والأخلاق ونظام الاجتماع وغيرها...)، لذلك كانوا الأكثر شهرة وأثرا، ومن المدهش أن أكثر الأفكار شيوعا وانتشارا اليوم تجد أصولها في الفكر اليوناني القديم، اقرأ مثلا كتاب (الجمهورية) لأفلاطون ستجد بذور الشيوعية الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وستجد في كلام اليونانيين بذورا واضحة للأفكار الداروينية والنيتشوية، فلا أعتقد أني أبالغ حين أقول إن النموذج الغربي اليوم قد تشكل في تلك الحقبة اليونانية، وإن أنت ألقيت نظرة على العلوم الإنسانية ستجد أنها خرجت من رحم الفلسفة ولا أقصد الفلسفة اليونانية بل الفلسفة الكونية ثم كان لفلاسفة أثينا الدور الريادي في ذلك.

 

الجانب الرابع: الفلسفة بوصفها أسلوب للتفكير

لقد شق الفلاسفة الأوائل في اليونان والهند والصين وغيرها طريقا للفكر سار عليه المفكرون من بعدهم، خذ مثلا الثنائيات وتعارضها

الذات والموضوع

الروح والجسد

العقل والرغبة

الحرية والقدر

وغيرها، ثم احتدم الجدل حول التمييز بينها وترتيب الأولويات ، والمنطق الذي يعد أسلوبا سليما للتفكير العقلي والذي وضعه وبلوره أرسطو ما يزال هو الأسلوب الأمثل في ترتيب العقل في نظر الكثيرين، وهو أسلوب يشاد به وقدرة عقلية لا يمكن تغافلها... لذلك: أعتقد أنه يجب التفريق بين الجهد العقلي الذي بذله الفلاسفة من شتى الاتجاهات وبين الموضوعات التي طرحوها، فمن ناحية ليس من الحكمة أن نتجاوز هذا الإرث البشري الذي يمثل جهدا عقليا لا غنى عنه، ومن ناحية أخرى لا بد أن نمارس الانتقاء وفق حاجات العقل البشري اليوم فنأخذ ونترك وربما نضيف على ضوء حاجاتنا.

 

الجانب الخامس: الفلسفة شرط للحضارة

يعتقد البعض أن أي جهد للنهضة لا يمكن أن يتم إلا على أرضية الفلسفة الغربية، وإن أية محاولة لإيجاد فلسفة بديلة هي إضاعة للوقت والجهد، ومن ناحية أخرى يرى آخرون أن قراءة الفلسفة الغربية ومحاولة الاستفادة منها جزء من الرضوخ للغزو الثقافي.

 

لماذا لا نطرح المسألة من جانب آخر، هل الصلاح الفكري أساس للنهضة؟ بمعنى آخر: هل يلزم أن نبحث عن الفكرة أو الفلسفة الصحيحة حتى نضمن نجاحها... يرى الكثيرون وجوب ذلك.. لكن للأسف الواقع يخيب ظنهم.

 

ربما يكون أكبر شاهد على عدم تلازم الأمرين (الصلاح الفكري والنهضة) ما حدث في اليابان من ثورة علمية وصناعية وما يحدث اليوم في الصين، يمكننا أن نلخص الفكر الغيبي الياباني أو الصيني بأنه فكر أسطوري، ولو كانت النهضة لا تقوم إلا على صلاح فكري فكان الأولى بهم أن يعيشوا حياة الإنسان الحجري.

 

إذن النهضة قد تقوم على فكرة صحيحة وقد تقوم على فكرة خاطئة لكن يجب أن تحمل في داخلها عوامل النهوض وأن تتخلص من الأفكار التي تعيقها، لذلك لا يمكننا القول إن الفلسفة الفلانية هي الأرضية الوحيدة القابلة للحضارة، بل إن هذا الاشتراط يحمل في طياته عنصرية واضحة وامبريالية صارخة، إذن لماذا نقرأ الفلسفة؟