العلم والخيال العلمي

لقد اخترق العلم حجباً كثيرة وحول الأعاجيب إلى مجرد أمور اعتيادية. من هنا تميز العلم عن سواه من المناهج المعرفية التي عرفها ارتقاء الفكر البشري, يقول أحد أثمة الميكانيك الكوانتي إن من لم تستحوذه الدهشة ولم تعقد الغرابة لسانه لدى قراءته الميكانيك الكوانتي. هو ذاك الذي لم يستطيع فهم الميكانيك الكوانتي. ولا غرو في هذا القول, فالميكانيك الكوانتي, الذي تحيط بنا تطبيقاته من كل جانب وتشكل واقعاً موضوعياً قائماًُ بذاته هو نفسه النهج المعرفي الذي يقع ابعد ما يمكن عن الموضوعية, تلك الموضوعية التي انفرد بها العلم منذ بروزه كنهج مستقل والتي استمرت حتى عهد قريب.



تلكم هي صورة العلم: تأتي النسبية لتدفع بالنمطية الموضوعية للفكر العلمي حتى الذروة. فالعلم وفق النسبية مكون من مراجع تتطابق في رؤيتها لهذا العالم ولا تستطيع تحقيق الصلة الفيزيائية إلاَ عبر ساحة محددة وسرعة حدية يستحيل تجاوزها. سرعان ما يلج الميكانيك الكوانتي المسرح ويصل في أطروحاته حد نفي وجود العالم لا يتحقق إلاَ عندما نتعامل معه. وعدا ذلك فهو عالم غير معين وغير معروف. بل غير معروف أصلاً. إذن هناك علم لعالم موجود بشكل مستقل عن ‘رادتنا, وهناك علم لعالم لا قيمة له بل لا وجود له بدون وعينا. والمفارقة هي إن هذين العالمين هما عالم واحد. وعلى الرغم من التباين الكبير بين النسبية وبين الميكانيك الكوانتي, فإن للوعي دوراً في كل منهما. فالمرجع الدارس في النسبية يجب أن يمتلك القدرة على التفسير وهو بذلك وعي. أما في الميكانيك الكوانتي, فالوعي هو حجر الزاوية في الوجود.نتطرق إلى الدور المذكور بسرد المثال البسيط التالي : كيف تتبادل الأرض والشمس فعل التجاذب الثقالي ,هل إن معرفة هذين الجسمين الكونين بقانون الجذب الثقالي تدفعهما للامتثال له كما يفعل الناس عندما يقررون سلوكهم وفقاً لبنود القانون الوضعي, إن القادم من كوكب آخر والمراقب لذلك السلوك سيستنتج آجلاً أم عاجلاَ صيغة القانون الوضعي. فإذا كان من اتباع العلم السببي الموضوعي, فإنه لن يقبل بأية حال من الأحوال بحقيقة أن معرفتنا بذلك القانون هي التي تقرر أنماط تصرفاتنا. لاشك أنه سيقع في نفس المأزق الذي وقعنا فيه عند تأملنا آلية الجذب الثقالي بين الأرض والشمس, ولما كنا متفقين على انعدام الوعي في الأرض والشمس كجسمين فيزيائيين, فإننا نعود إلى أطروحة أولوية الوعي من طرف خفي ذلك أن الوعي يبدع صورة التجاذب المدروس ويضعها في صيغة مرمزة هي القانون العلمي. ولما كان الوعي في الأرض والشمس معدوماً. فإن انطباق قانون الجذب الثقالي عليهما لا يعزى إلى استجابتهما لذلك القانون لكنه بالأحرى تناغم الوعي مع الصيغة آنفة الذكر . يقرر أينشتاين في هذا السياق إن غاية الرياضيات والفيزياء ليست هي اكتشاف العلاقات القائمة بين الأشياء المادية وإنما العلاقات القائمة بين الأحاسيس. فالعالم الواقعي هو مركبات من الأحاسيس . إن الرياضيات والفيزياء تغدوان عند العلماء الكبار فصلين من فصول علم النفس.

 

نشير هنا إلى أن الفيزياء تبرز باعتبارها المساق الأهم عند التحول إلى تطبيقات الرياضيات. أما القضية الرياضية الأصح فهي القضية الرياضية الأبسط. إنها منظومة باطنة تحقق تناغماً أعلى ضمن العالم الداخلي المبدع. إنها المسقط الداخلي لذلك التناغم: التناغم الذي يتأتى أولاً وأخيراً عن تعقيدات الأحاسيس الداخلية. تلك الأحاسيس التي يكاد وجود العالم أن يرد إليها. صحيح أن العالم يعج بالموجات والجسيمات , لكنها لا تفسر ولا تصنف ولا تحمل المعنى إلاَ عند ارتطامها بالوعي. من هنا كان العالم مفتوحاً لكل التعاريف.

 

لعلنا نواحه مفارقة عند هذه المرحلة. فطالما أن الميكانيك الكوانتي غير معنى بقانون علمي قاطع, فربما أنه يضع الوعي في المرتبة الثانية. الأمر على عكس ذلك تماماً فالعالم في الميكانيك الكوانتي جملة  من الحالات وهي تختلف عن أحوال الوعي الدارس الذي تقوده أحاسيسه وانفعالاته إلى الاستجابة للقوانين الوضعية والانتقال بالتالي من حال إلى حال. ولما كانت الأحاسيس والانفعالات معدومة في الكون الفيزيائي,فإن الميكانيك الكوانتي يسقط السببية كآلية دافعة لذلك الكون للانتقال من حال إلى حال, وإذ ذاك يصبح الكون المذكور مع كل تحولاته مجرد احتمالات. لنلاحظ أن الصيغة الأخيرة بدورها صورة عقلية من إرهاصات الوعي. يشدد الميكانيك الكوانتي على هذه الصورة عندما يقرر أن الكون لا يتحقق إلا بإقدام الوعي على عملية الإبداع , فإن الإجابة عن ماهية العلم هي ببساطة: محاولة جديدة من محاولات الوعي لفك أغلال وحدته في خضم المحيط الفيزيائي غير الواعي, تلك المحاولات التي دأبت على تجاوز حقيقة الوعي المرمى في العالم دون سبب معطى.

 

لا ينتظر البحث العلمي أن يحظى بالقبول الاجتماعي, فالبحث العلمي  عمل إبداعي يقدمه أحد الموهوبين. أما تفنيد بحث محدد فهو أمر مختلف وهو عمل إبداعي بدوره يقده موهوب آخر. تحدث غاليله عن ذلك بقوله: إن إجماع ألف شخص في سياق تقويم التساؤلات العلمية لا يقارن ولا يرقى إلى سوية المحاكمة المنطقية المتواضعة لإنسان فرد. وقال أينشتاين: صانع العالم هو الإنسان الفرد العظيم. إن العلم ليس مجموعة من المصادرات الناجزة. إنه ليس مقولات ثابتة ذات تفسيرات متغيرة وهو ليس مضموناً ثابتاً يستطيع احتواء الصيغ المتبدلة. إن العلم هو الحقيقة المتكونة أبداً. وهو عملية تذهنية تتوقف على البنيوية  الخاصة بالفكر المبدع. لنتصور أحفادنا المستقبلين الذين سيولدون ويعيشون في ظروف انعدام الجاذبية وربما في الفضاء الكوني حيث تسود الظلمة المطبقة ويخيم الصمت المطلق. كيف ستغدو بناهم وما هي التأملات التي ستترتب على تلك البنى. إننا لن نستطيع مجرد تصور حالاتهم تلك.

 

إن ما يهم من القانون الفيزيائي هو مقدرته على التنبؤ, لم يعد العلماء يولون أي اهتمام لصيغة معينة للقانون الفيزيائي إذ تأخذ بألبابهم النبوءات وحسب. إن القوانين الفيزيائية عيا نية الطابع. وهي بذلك مختزلة ومحدودة لأنها تتناول كيانات متباينة, أما المقابلات النفسية للقوانين الفيزيائية فمتعددة وكثيرة لأنها تطال عناصر متماثلة , ف‘ذا أبصر أحد إلكتروناً فكأته شاهد كل الإلكترونات, تجيَر الفيزياء  وعلى الدوام إلى المستقبل,على الرغم من أنها فيزياء راهنة, أي يتم الحديث عن لحظة مفترضة هي نفسها اللحظة الراهنة, ، قبلنا بأن الكون محكوم بقوانين الفيزياء وبأنها علَة وجوده, فعلينا ألاَ نتناسى أن الكون كما نعرفه يردَ إلى شروطه الابتدائية التي ستبدو مستقلة تمام الاستقلاال عن القوانين الفيزيائية. تبنى القوانين الفيزيائية باستخدام العناصر الرياضية, لكن الطبيعة ليست حملة من عناصر رياضية, ناهيك عن أنها ليست نظرية بحال من الأحوال, من هنا كان رأي أينشتايتن الذي رأى في القوانين الفيزيائية أنماطاً من المركبات النفسية, أفضت التطورات المتلاحقة في الفيزياء إلى أضعاف مبدأ السببية الذي ترسخ في وجدان البشري لآلاف السنوات, إن كانت السببية إحصائية منقطعة الجذور فإننا نعدم أية إمكانية لتفسير القوانين السببية إلاَ باعتبارها تخيلات فرضها الفكر البشري, في هذه الحالة تنطبق القوانين الفيزيائية على العنصر في حالة وجوده ضمن مجموعة لا تنطبق عليه بمفرده, أما إن كانت السببية معرفية فلن تستطيع قبول القوانين الفيزيائية إلاَ باعتبارها مفسرة لذاتها, إن التعلم هو طريق المعرفة, والمعرفة بذلك هي علة الفردانية. لذا لا يمكن للمعرفة أن تكون موضوعية سببية, أنى لنا أن نتفهم النموذج الفعلي للعالم بعد ذلك.

 

هكذا العلم تجربة لم تكتمل. وفي المقياس الأوسع , الحياة تجربة ومعها العالم تجربة بدورها لم تكتمل. إن الحديث في التجربة هو حديث تذهني بطله الفكر, وما من كينونة أخرى تشارك الفكر خشبة مسرح الوجود. والفكر هو ما يأتي بكل ما هو غير مألوف معبراً عن التواصل الوجداني بين جمهور المبدعين. ذلكم هو الاشتراط الأساسي في الإبداع . من هنا كانت ابستمولوجية الخيال العلمي. إنه يسبق العلم في الدوائر المحيطة بالمبدعين, لكنه والعلم سواء عند المبدعين, إن أية إضافة في العلم أو الخيال العلمي هي لبنة جديدة في صرح  التجربة غير المكتملة. وهل يمكن لتجربة أن تكون مكتملة. إن الخيال العلمي هو مفردات العلم عندما تنتشر في الاتجاه الأفقي وهو العلم باعتباره المحفز الأول لمخيلة المبدع.ضمن هذا الإطار وهذا الإطار فقط , لا نفرق بين العلم وبين الخيال العلمي إن خطة العلم. الخيال العلمي ليست مرسومة بشكل مسبق لدى المبدع. لا بل إنها ليست خطة من حيث المبدأ, إن العلم ليس مشروعاً هندسياً. هو لحظة انبثاق وتفجر كما الرسام يقدم لنا رائعة جديدة. هكذا تتعدد النظريات المفسرة لظاهرة ويأخذ العلماء بالنظرية الأجمل منها. إن هناك نظريات كثيرة للجذب الثقالي ,لكن النظرية النسبية العامة هي الأجمل بينها, من هنا كانت النسبية العامة الأكثر قبولاً.

 

نعرج على بعض الأطروحات العلمية التي يصعب أن نفرقها عن الخيال العلمي, في النسبية , إن تحرك جسمان بسرعتين متساويتين, لخص كل من الجسمين إلى حكم مفاده أن الجسم الآخر ساكن. إن زادت سرعة كل منهما مع بقائهما متساويتين, لما تغير الحكم. إن هذا الحكم ليس مطلقاً, إذ تستثنى منه الأشعة , تقرر الأشعة وهي تنطلق بسرعة الضوء, أن أي شعاع ضوئي ينطلق بسرعة الضوء أيضاً, ليس ساكناً البتة, بل يبدو متحركاً بالنسبة لسرعة الضوء, إذا حاولنا تسريع جسم بشكل مطرد عن طريق توفير كميات متنامية من الطاقة, لزادت سرعة الجسم وزادت عطالته أي مقاومته للتسارع, مما يحول في النهاية دون بلوغه سرعة الضوء مهما كانت الطاقة الموظفة, نضيف إلى ما تقدم أن الجسمين المتحركين يرى كل منهما الآخر وقد تباطأ. إنها مفارقة كبيرة, هذا عن النسبية الخاصة, أما النسبية العامة فتأتي بما هو أعجب فالمادة تحفر الفضاء وتقوسه. تقع المادة تبعاً لذلك في أسر الفجوات والمنحنيات التي تحفرها في الفضاء, وفق النسبية العامة تتباطأ الأزمنة في جوار الكتل الكبيرة. إن المسافة من الأرض إلى الشمس هي أكبر من المسافة من الشمس إلى الأرض , فالزمن المستخدم في قياس المسافة يتباطأ في جوار الشمس أكثر مما يتبطأ في جوار الأرض, لأن كتلة الشمس أكبر بكثير من كتلة الأرض لقد أضاف أينشتاين حداً إلى معادلته هو الثابت الكوني لمحاولة منع تمدد الكون, لكنه عاد عن ذلك عندما ظهر له أن الكون يتمدد فعلاً, واليوم يرجع العلماء إلى الثابت الكوني في محاولة لرأب الصدع الخاص بالانفصال السببي في الكون والذي ينجم عن صغر عمر الكون إلى حد يستحيل معه تبادل الرسائل والأسباب بين أجزائه, المفارقة هنا هي أن الكون يبدو مرتبطاً من المنظور السببي تتعمق المفارقة إذا أخذنا بتمدد الكون إذ لا بد عندها للثابت الكوني من أن يطابق الصفر تزداد المفارقة إذ حاولنا العودة إلى السببية بتبني قيمة غير صفرية للثابت. لكن الكون يتحول إذ ذاك إلى فراغ بلا طاقة.

 

أما في الميكانيك الكوانتي فهناك تنعدم الأسباب والنتائج, والعالم مجرد حالات ولكل حالة حتما, ينتقل العالم من حالة إلى أخرى بقفزة كوانتية أي دونما حاجة لأية استمرارية, فالإلكترون عندما يغير مداره حول النواة منتقلاً إلى مدار أخر إنما يفعل ذلك بقفزة كوانتية, إنه يختفي في المدار الأصلي ليعود إلى الظهور في المدار الجديد. يعرف كل جسم بمجموعة من الأعداد المجرة الكوانتية, إنها مجردة على الرغم من أن بعضها يبدو مألوفاً, فهناك الشحنة والكتلة واللف والغرابة وغيرها, إن للوعي دوراً مركزياً في العالم, فالعالم في حقيقته هيولى متلاطمة عديمة المعالم ويتعين كل شيء لحظة ارتطام الوعي بهذا العالم, إن فصل مكونات الكون بتكميمها أي بتوصف كل منها بقيم معينة للأعداد الكوانتية هو ضرورة أزلية وإلا عدم الكون من يتحدث عنه. إذ تتكاثر نظائر العناصر بإيقاع غير منتهَ حاجبه كل فعالية  فكرية, ذلك أن الفعالية الفكرية تقوم أولاً وأخيراً على التعريف. لكن ذلك يرتبط أصلاً بالوعي الذي يصوغ التعاريف وهنا تكمن المفارقة. تتظاهر كل كينونة بأنها جسم وبأنها موجة. ولأن الموجات تتداخل , تفعل الأجسام مثلها لأنها موجات, إن كل شيء متقطع فالزمان متقطع ويتكون من فترات منفصلة تتواصل. تدعى كل فترة بفترة هايزنبرغ. تخرق كل قوانين الفيزياء أثناء هذه الفترة لتعاود الانطباق بعد مضيها ومن ثم السقوط في فترة تالية كذا شأن الطاقة , فهي ليست مستمرة وليست متصلة. إنها تتكون من كمات دنيا كشأن النقد في أي بلد من بلدان العالم.

 

إن ما نحن بحاجة إليه هو إبستمولوجية مشتركة تذوب وتتحد فيها كل عناصر العلم وكل مقومات الخيال العلمي. نحاول هذه الإبستمولوجية على النحو التالي ننطلق من تعريف الإنسان بأنه كائن المعرفة. فمنذ فجر التاريخ والفكر البشري يبذل ما بوسعه لاكتشاف العالم والحياة يعني ذلك اختزال العالم إلى نماذج تقطن في الذهن الفردي وتهبط إلى عمق الوجدان الجمعي التاريخي. أما التاريخية هنا فنقصد بها تلك التي تقبل التفسير اللاتاريخي. إن العلم هو أحدث محاولة في هذا السياق, إنه آخر الأساطير بحق. نعرف الأسطورة بقولنا أنها التفسير الذي يرضى طالب المعرفة ولو إلى حين من ذلك كان العلم أسطورة الحين المعاصر. ومن التجربة الدؤوبة المثابرة للفكر البشري نشتق التصنيف التالي: ندعو أسطورة من النوع الأول إن استطاع الباحث تعريف الظاهرة ومن ثم تفسيرها. مثال ذلك قوس قزح. لقد بهر الأقدمون بقوس القزح وقدمت أساطيرهم تفسيراً له. لكن التفسير كان مفتقراً إلى التعريف والتحديد, بالتالي لم يكن مرضياً على نحو حاسم. وكان أن قدم نيوتن تفسيراً له. غير أن تفسير نيوتن طرح إلى الساحة إشكالية جديدة لا زالت مستعصية تتعلق بطبيعة الضوء. وعلى الرغم من أننا نستطيع تعريف الضوء, إلا أننا لا زلنا عاجزين عن صياغة تفسير كامل لظاهرة الضوء. أما الأساطير من النوع الثاني فتضم الظواهر المعرفة المفتقرة إلى التفسير, كما تضم الظواهر المعرفة التي تقبل أكثر من تفسير, وقد يفشل كل تفسير منها في كشف النقاب عن حقيقة الظاهرة. لنا في الأطباق الطائرة خير مثال. فالظاهرة معرفة, لكن التفسيرات تتراوح بين بالونات الأرصاد الجوية والإشاعة البصرية. إلى احتمال زوار قادمين من عوالم أخرى. يفرض علينا الوضع المعرفي من هذه التسمية المزدوجة التأكيد على ضرورة تحريك الأساطير من النوع الثاني ودفعها إلى حيز الأساطير من النوع الأول. إن لم يكن لسبب فلإزالة الصبغة الخرافية عنها.

 

ما هو الفرق أصلاً بين الأسطورة والخرافة. نتحدث هنا في نظرية المعرفة. الأسطورة هو حلم مبادر دافع وخلاق. تشعر الأسطورة الإنسان بوجوده وتبرر له تقدم السيالة الزمنية. وعلى الرغم من أن الخرافة هي حلم بدورها. إلا أنها حلم كابح مستكين يفرض التوقف ويبرره بمصادرات تتنافى مع تعريف الإنسان ككائن معرفة. تخلق الخرافة نشوة ورهبة قاتلين بينما تؤجج الأسطورة فعلاً خلاقاً بسيطاً وصادقاً .وبينما تكشف  الخرافة عن عجز أصحابها عن تلمس الحقيقة, تعكس الأسطورة مصدر راحة عابرة, فإن الخرافة ترضي بشكل مستمر. من ذلك تصنف التكنولوجيا غير المتبدلة والأفكار الثابتة في عداد الخرافات, أما المعرفة العلمية المتطورة المواكبة لأطروحات الخيال العلمي, فهي أسطورة بحق.نكمل تصنيفنا بإضافة الأسطورة من النوع الثالث حيث تفتقر الظاهرة إلى التفسير والتعريف في آن معاً. ندعو الظاهرة في هذه الحالة أيضاً الخرافة من النوع الثاني . قد يبدو للوهلة الأولى أن الظاهرة في هذه الحالة تقع أبعد من أم تطالها إمكاناتنا في التفسير. إلا أن المثال التالي يدحض هذا الظن . لقد رأى العلماء الفيكتوريون المتأخر ون في إطلاق الاورانيوم لوهج غامض لغزاً محيراً أقرب إلى السحر. وقعت الظاهرة آنذاك وفق تصنيفنا في نوع الأسطورة الثالث أو الخرافة الثاني. سرعان ما تحركت الظاهرة إلى نوع الأسطورة الثاني أو الخرافة الأولى بتعريف الإطلاق على أنه إصدار للطاقة. وفي مرحلة تالية اندفعت الظاهرة إلى نوع الأسطورة الأول باكتشاف النشاط الإشعاعي وتحميله مسؤولية الظاهرة. إن الخيال العلمي هو الباعث والمحرك الأول لانتقالات كهذه. ولولا الخيال العلمي لبقيت أنواع الأسطورة معزولة عن بعضها, من هنا كانت أسبقية الخال العلمي على العلم. إنها أسبقية بالضرورة إذ لا علم بلا خيال علمي. في المنظور الابستمولوجي الصرف يوفر الخيال العلمي العناصر الجمالية التي لاغنى عنها في حياة النظرية . إنه يمهد لحالة توازن واجبة في العلم بدونها لا يخرج العلم عن أنواع الخرافات. لكن الخيال العلمي نفسه يخضع لذات التصنيف الذي أوردناه للتو مع فارق أنه يصبح علماً إن صعد إلى تصنيف الأسطورة من النوع الأول. تفيدنا الحكمة القديمة بضرورة الحفاظ على توازن بالغ الدقة بين الإيقان الساذج وبين الشك القاتل. ها هنا تقبع مسؤولية الخيال العلمي. إن الكون مكان غريب مبهج وفاتن على نحو لا يصدق, لا بل ويتجاوز كل دهشة قد تولدها سرائر البشر, فأنى لنا أن نحول هذه البهجة والفتنة إلى رهبة واستكانة. وإن نصادرها في النهاية

 

المصدر: عيون العرب .