الضلع الغائب في الفقه

إن المتـأمل للحالة الإسلامية اليوم يجد القوائم المطلبية المطروحة أمامها تزداد يوماً بعد يوم، فمن قضايا الفقه الجزئي المتعلق بالشأن الفردي إلى الفقه الكفائي المتعلق بمجموع الأمة إلى المناطق المشتبكة بين الفقهين والتي تؤثر فيها الفتوى الفردية على المصالح الكبرى للمجموع.



 وتتراكم القضايا التي يحار فيها العالم والمتعلم، وتتعدد الفتاوى وتتضارب أحياناً، فبين من يعتمد قاعدة الأحوطيات إلى من يراعي فقه عموم البلوى والضروريات، والحاجيات التي تنزل منزلة الضروريات. وعلى ما يسببه ذلك من إشكال إلا أنه مقبول من حيث طبيعة النصوص الظنية الدلالة التي يستعان بها ويرجع إليها في استصدار الأحكام ...ولكن هل يكفي مثل هذا الكلام للرضى بنوعية المخرجات التي نتجت عن الحالة؟ وهل ساهمت هذه الحالة في تطور الأمة وتقدمها نحو غاياتها أم أصبحت عائقاً أمام التقدم نحو غاياتها؟!

 

تحتاج الأمة لكي تتقدم أن تجيب على أسئلة عصرها، وهي واقعة بين المعيار القيمي المتعلق بالأهداف والغايات والنموذج الأمثل، وبين معطيات الواقع ولحظتها الراهنة وما توفره من فرص ومحددات. وهي بين خيارين.. إما أن تتقدم عبر اقتناص ما توفره لها اللحظة من معطيات، وتراكم بالتالي خطوات التقدم، وهذا يعني أن تجزئ مراحل الطريق للصدارة التي تبتغيها كل الأمم، فتتقدم بحسب الوسع- وهذا يحتاج إلى فقه دقيق ونظر عميق، وبين الإصرار على القفزة الواحدة، بمعنى اتباع سياسة "لنا الصدر دون العالمين أو القبر"، وبما أن الصدر مشغول بغيرنا اليوم فالمتبقي هو (........) والعياذ بالله ولتحقيق مثل هذا الأداء يلزم إصلاح أكبر هذه الاختلالات!. فالأمة مرتبطة بدينها -على الأقل الجموع الغالبة، وتسأل عن رأي الشارع في ما ينزل بها من ملمات وما يعرض لها من مسائل، فمن المتيقن أن طريق التقدم يمر عبر هذه البوابة، بوابة من يعطون حكم الشارع، وأن طريق التخلف يمر عبر نفس البوابة ...

 

فالأمة تنتظر الحلول من علمائها وحملة العلم الشرعي فيها ...فكيف هي أحوالهم اليوم؟ كيف يتم إعدادهم لهذه المهمة الجسيمة؟ وكيف يتعاملون مع هذه المكانة؟ لكي نفهم جانب النقص نحتاج أن نرى الضلع الغائب في معادلة إنتاج الفقه النافع، ولماذا تخلف المحصول الفقهي عن مواكبة تطور الحياة؟ نظرة واحدة لتراثنا تبين لنا موطن الخلل الذي قاد لهذا التخلف الذي نعيشه في الجانب الفقهي، وأحسبه من الوضوح بحيث يصعب الجدل حوله. فلو تأملنا آلية إنتاج الفقه اليوم سنجد الفقيه أسير بين النص والواقعة الجزئية التي يقوم بعلاجها، أما الكلية التي تقع فيها الحادثة الجزئية فتكاد تكون غائبة عن المشهد بالكامل، فمن أين يملأ التفصيلات الكبرى والمشهد الكلي؟؟!! إنه يستدعي الحادثة التاريخية ويجردها من أثر الزمان والمكان، ليجعلها مطلقاً من المطلقات التي يؤسس عليها الحكم. إننا نجد المشهد يتكرر عند الحديث عن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضايا العدل والحرية والشورى ومقاومة المحتل. ولتتأكد من هذه الظاهرة حاول أن تعدد البحوث التأملية..

 

أقول التأملية التي تعالج النظرية المتعلقة بهذه القضايا مستجمعة تطور الفكر البشري وتطور البشرية وما وصلت إليه عبر تراكم البحوث في هذه المسارات... لن تجد إلا النزر اليسير.. ثم إذا وجدت هذا النزر اليسير ستجده منزوياً بعيدا عن الانفعال والتفاعل اليومي مع عموم المشتغلين بالفتوى للأمة. وبالمثال يتضح المقال، فانظر إلى موضوع الشورى مثلاً، ستجده عنواناً كبيراً.. ما تم تحقيقه فيه هو الدوران حول هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ ثم ماذا بعد؟ أين التفصيلات وأين النقاش حولها؟ أين البناء النظري المتين من الأخذ والرد فيها باعتبارها مطلب إنساني عام لا تصلح الأمم إلا به؟ أين هي باعتبارها حق للأمة لا منحة ولا هبة؟ ما ضمانات احترامها؟ ما معايير مصداقيتها؟ ما مقتضى العدل فيها؟ كيف تم اختراقها عبر الزمن والتلاعب بها؟ كيف تصبح حقاً أصيلاً تستشعره الجماهير باعتباره ضمانة لمستقبلها وواجب ديني حتمي لصحة السير إلى الله؟.. بل كيف تدافع عنها الجماهير وتفديها بالأرواح بحيث لا يجرؤ أحد على اختراقها أو الالتفاف حولها؟.. كم درجتها في الحضور وأولويتها في الاهتمامات اليومية لجملة العاملين ولجموع الأمة؟

 

وقس على ذلك بقية القضايا. إن البحوث التأملية التنظيرية التي تضع الجزئيات في إطارات كلية، والتي تحاور الفكرة وتستنطقها وتعاود النظر فيها المرة بعد المرة لتختبر مدى صلابتها وتختبر مدى صلاحيتها لعصرها (زماناً، ومكاناً، وشخوصاً، ومحيطاً) هي الضمانة الحقيقية لإعادة تنظيم العقل الفقهي بحيث ينظر للجزئيات في إطار الكليات، وبالتالي يخرج من التسطيح واختلال الأولويات التي قتلت الأمة وأادت إلى ضعفها وهوانها واستقواء خصومها عليها، ووقفت هي تستمطر اللعنات عليهم وتنتظر معجزة تخلصها من واقعها المعيب الذي صنعته بيدها، ويصدق عليها قول الشاعر:

 

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا.

 

فحين تتراجع في أمة ما فروض الكفايات -وهي قضايا المصير بالنسبة للأمة مجتمعة- فلا تتمعر لها الوجوه ولا يقطب فيها جبين، في حين تقوم الصراعات ولا تقعد في فروض الأعيان مهما صغرت وقل تأثيرها على مصير الأمة، فتؤلف فيها المطولات، ويعاد التذكير بها بالليل والنهار، وتضاف لها الشروح، وتعقد لها المجامع، عندها يجب أن نستشعر الخلل والخطر ونعاود التفكير إلى أين المسير؟ إن اللحظة التي تعاود فيها الأمة - أو جموع المهتمين فيها- النظر في هذا الخلل وتعيد للضلع المفقود اعتباره...عندها... وعندها فقط ستغذى من نبع صاف يضيف لعافيتها عافية ويبرئ أسقامها ..والتغيير يبدأ بفكرة.