الضجيج: قياسه ومصادره ومخاطره

التلوث بالضجيج من أخطر ملوثات البيئة المحيطة بالإنسان، ويُعَدُّ آفة العصر. ومع تقدُّم الصناعة والتكنولوجيا الحديثة، وصلت إلينا مخاطر الضجيج وآثاره السلبية في الإنسان وسببت له أمراضاً عدة، وخاصةً الأمراض النفسية والجسمية والسمعية وغيرها.



تعريف الضجيج:

لقد عرف الإنسان قديماً أنَّ الأصوات المرتفعة هي مصدر الخوف، وارتبطت بمظاهر الكون المخيفة، كالأعاصير والزلازل والرعد؛ وذلك لما تُحدِثه من الأذى والموت؛ فقد استعمل الجيش الروماني ظاهرة الصوت المرعب لإخافة أعدائه. وفي الصين، نُفِّذَت بعض أحكام الإعدام عن طريق قرع الطبول باستمرارٍ حتى الموت؛ وحالياً تُستعمَل القنابل الصوتية لبث الرعب والخوف بين الأهالي في الحروب.

إنَّ أسهل تعريفٍ للضجيج هو أنَّه أصواتٌ غير مرغوبٍ في سماعها، والتعريف الشامل له هو مجموعة أصواتٍ متنافرةٍ غير مرغوبٍ في سماعها، وتسبب إزعاجاً للإنسان، وتضر بصحته ورفاهيته وحياته الاجتماعية والنفسية.

لقد عُرِف الضجيج منذ القِدم؛ إذ وصفه "دانتي" بأنَّه من اختراع الشيطان، وأنَّه يمنع العقل من التفكير والإبداع. كما كان يُمنَع في المدن الإغريقية والرومانية قديماً إصدار الأصوات ليلاً في الأماكن التي يسكنها الفلاسفة، فكانوا يعدون أنَّ الضوضاء تحدُّ من قدرة الفلاسفة على التفكير والعطاء.

وفي منتصف القرن الماضي بدأ الضجيج يشغل اهتمام العالم بعد معرفة العلاقة بين الضجيج والأمراض المهنية الناتجة عنه، مثل نقص السمع عند الحدادين، ومنذ ذلك الوقت والضجيج يثير الاهتمام من جهةٍ وتزداد شدته من جهةٍ أخرى.

الصوت والضجيج:

لا ينتقل الصوت بواسطة الفراغ، ولولا وجود الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية لساد هدوءٌ مخيفٌ في كوكبنا؛ إذ لا بدَّ من وجود وسطٍ ماديٍ لانتقال الصوت.

والصوت طاقةٌ لها شدةٌ وترددٌ. وتُقاس شدة الصوت بالديسبل وتساوي 1/10 من البيل التي تشكل وحدة قياس الصوت، كما يعبِّر عن التردد بذبذبةٍ في الثانية أو الهرتز.

ويكون الصوت مسموعاً لدى الإنسان إذا كانت شدته تساوي 20 ديسبل وتردده 1000 هرتز، وتتميز كل موجةٍ صوتيةٍ بترددٍ خاصٍ بها، ويمكن للأذن البشرية السليمة أن تميز الأصوات بين 20 إلى 20000 ذبذبةٍ في الثانية.

وللفترة الزمنية وشدة الصوت دورٌ هامٌ في تأثير الضجيج في الإنسان، وإنَّ محصلة الصوت تساوي شدته x الزمن، فشدةٌ عاليةٌ مع زمنٍ قصيرٍ تعادل شدةً قليلةً مع زمنٍ طويلٍ. مثال تعرُّض الإنسان لصوتٍ شدته 95 ديسبل لمدة ساعتين يؤدي التأثير نفسه لصوتٍ شدته 90 ديسبل ولمدة أربع ساعاتٍ.

ويمكن الإشارة إلى أنَّ زيادة شدة الصوت بمقدار 10 ديسبل، تعطي الإحساس للإنسان بمضاعفة شدة الصوت؛ أي إنَّ صوتاً شدته 70 ديسبل يبدو أعلى مرتين من صوت شدته 60 ديسبل.

يبدأ قياس شدة الضجيج بوحدة القياس الديسبل كما يأتي:

  • الصفر ديسبل؛ إذ تكون الأصوات ساكنة.
  • بداية الإحساس بالسمع تبدأ عند 20 ديسبل، وتكون الأصوات هادئةً جداً، كصوت حفيف الأشجار.
  • الأصوات الهادئة، مثل الآلة الكاتبة ومكاتب العمل شدتها بين 30 – 50 ديسبل.
  • أصواتٌ متوسطة الشدة؛ أي بين 50 – 70 ديسبل، مثل المكيف والمكنسة الكهربائية.
  • أصواتٌ مرتفعة الشدة بين 70 – 90 ديسبل، مثل الخلاط المنزلي والغسالة.
  • أصواتٌ مرتفعة الشدة جداً شدتها بين 90 – 100 ديسبل، مثل صوت الدراجة النارية على بعد 8 أمتار، وأبواق السيارات وأصوات الشاحنات والبلدوزرات.
  • أصواتٌ مزعجةٌ جداً تكون شدتها بين 100 – 130 ديسبل، كصوت المدفع أو الطائرة.
  • أصواتٌ تسبب أذيةً سمعيةً وألماً إذا زادت شدتها عن الـ 130 ديسبل، كصوت إطلاق الصواريخ.
إقرأ أيضاً: التلوّث الضوضائي – مصادره – أهم اقتراحات للحد من انتشاره

مصادر الضجيج:

مصادر الضجيج عدةٌ، يمكن سماعها في كل مكانٍ حولنا، في الشارع والعمل والبيت وغيرها. ونظراً لتقدُّم وسائل التقنية الحديثة لرفاهية الإنسان من أدواتٍ منزليةٍ كالتلفاز والمذياع والمكيف والغسالة وأدوات الطبخ المختلفة، فقد غزا الضجيج حتى أماكن الراحة، ولم يجد الإنسان مكاناً هادئاً يلجأ إليه. ويمكن حصر مصادر الضجيج في الآتي:

  • وسائط النقل المختلفة: من سياراتٍ وباصاتٍ ودراجاتٍ ناريةٍ وطائراتٍ وقطاراتٍ، وغيرها تطلق غازاتٍ ضارةً وسامةً وتزعج الناس بضجيجها. ويؤدي حجم المركبة وسرعتها وعجلاتها ونوع الطرق دوراً كبيراً في شدة الضجيج، فكلما زاد حجم المركبة وسرعتها كثرت ضجتها والعكس صحيح. وأشد الضجيج يأتي من المحرك وخاصةً في السرعات العالية والأجواء الحارة.
  • تزداد شدة الضجيج في المدن الكبرى من العالم، ففي مركز المدينة قد تصل شدة الضجيج في ساعات الازدحام إلى 90 – 100 ديسبل.
  • تعاني المناطق السكنية الواقعة على جانبي السكك الحديدية إزعاجاً بالضجيج؛ وهذا يحدثه القطار سواء من الصفارة أم نتيجة احتكاك العجلات الفولاذية بالقضبان الحديدية. ولا يتجاوز الضجيج الذي تصدره القطارات الـ 100 ديسبل.
  • ضجيج الطائرات بمختلف أنواعها بالإضافة إلى المطارات المجاورة للمدن، التي تسبب الإزعاج بالضجيج عند هبوط الطائرات وإقلاعها؛ إذ يبلغ الضجيج في المطارات كثيفة الحركة 110 ديسبل. تسعى الشركات الصانعة للطائرات إلى تخفيف ضجيجها حتى أصبحت طائرات اليوم أخف ضجيجاً بنسبة 50 – 70% عما كانت سابقاً. كما ينجم عن الطائرات النفاثة عند اختراقها لحاجز الصوت صوتٌ يشبه الرعد؛ وذلك لأنَّ سرعتها أسرع من الصوت.
  • ضجيج الآلات الصناعية: وهو الضجيج الناتج عن الآلات الصناعية وعمليات التصنيع مثل الصوت الناتج عن آلات الطباعة والثقب والحفر والطحن والبناء وأدوات الطَّرق اليدوية وغيرها. وضجيج الصناعة لا يزعج العمال فقط في أماكن التصنيع؛ بل يزعج أيضاً السكان القاطنين بالقرب منها؛ لذلك يجب إنشاء المصانع بعيداً عن الأماكن السكنية. إذ يُقدَّر الضجيج الصادر عن آلات ثقب الصخور مثلاً بأكثر من 100 ديسبل.
  • ضجيج المنزل: وهو الضجيج الناتج عن استعمال الأجهزة المنزلية المختلفة، كأجهزة التلفاز والمذياع والغسالة والمكنسة الكهربائية والخلاط وغيرها؛ إذ تتراوح نسبة الضجيج الصادر من هذه الآلات بين 60 إلى 100 ديسبل.
  • ضجيج الجوار: أي الضجيج الصادر عن محيط الموقع السكني، مثل الضجيج الذي يأتي من الشارع والسكن المجاور والطائرات والمصانع المجاورة للأماكن السكنية. وكلما بَعُد مصدر الضجيج قلَّت شدته، وعليه فإنَّ شدة الصوت تنقص بمقدار 6 ديسبل في حال تضاعفت المسافة عن منبع الصوت. كما تتأثر شدة الصوت باتجاه الرياح. والهواء الحار ينقل الصوت أسرع من البارد.
  • مصادرٌ أخرى للضجيج: منها مصادرٌ طبيعيةٌ كالرياح والأعاصير، الشلالات والرعد والزلازل وغيرها. ومنها الضجيج الناتج عن الحروب، كصوت القنابل والمدافع والبنادق والصواريخ والطائرات الحربية وغيرها. وأخيراً هناك الضجيج العائلي، مثل بكاء الأطفال وشغب الأولاد والأحفاد والمشكلات العائلية في البيت.

مخاطر التلوث بالضجيج:

للضجيج آثارٌ سلبيةٌ في الإنسان، تسبب له الإزعاج ومن ثم الألم والمرض وفقدان السمع، بالإضافة إلى الآثار النفسية والجسمية والاقتصادية وغيرها. وقد أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ الصوت الهادئ ينشط عمليات التفكير وصفاء الذهن، ويريح الجهاز العصبي لدى الإنسان.

فمستوى شدة الضجيج من 40 – 50 ديسبل لها آثارٌ نفسيةٌ، كالقلق والتوتر وخاصةً عند الأطفال وطلاب المدارس. ومستوى شدة الضجيج من 60 – 80 ديسبل لها آثارٌ سلبيةٌ في الجملة العصبية. ومستوى شدة الضجيج من 90 – 110 ديسبل لها آثارٌ في انخفاض شدة السمع. ومستوى الضجيج فوق الـ 120 ديسبل يسبب ألماً، وقد يسبب فقداناً للسمع، ويؤثر في الجهاز القلبي الوعائي وغيرها.

ويصل مستوى شدة الضجيج في المدن الكبرى إلى 95 – 100 ديسبل؛ أي تشمل المستويات الثلاث الأولى، وتصبح شدة الصوت ضارةً عند حدود 75 ديسبل، ومؤلمةً عند حدود 120 ديسبل. من أهم مخاطر الضجيج ما يأتي:

  • المخاطر النفسية: يسبب الضجيج آثاراً نفسيةً سلبية لدى الإنسان؛ وذلك لأنَّه يؤثر في قشرة المخ؛ وهذا يؤدي إلى القلق واستثارة الغضب والتوتر وعدم الارتياح الداخلي وقلة التركيز الفكري. كما ينتج عن ارتفاع مستوى الضجيج زيادة نسبة الأدرينالين وانخفاض مستوى السكر في الدم، ويُفسَّر ذلك بأنَّ الجسم يأخذ وضعاً دفاعياً ضد تأثير الضجيج. وعند حدوث الغضب لدى الشخص من الممكن أن يدفعه غضبه إلى إحداث مشاجراتٍ والإساءة للآخرين.
  • المخاطر الجسمية: يسبب التلوث بالضجيج اضطراباتٍ في الجهاز العصبي والقلبي الوعائي وأعراضاً مَرَضيَّةً أهمها:
    • أعراض مرض نقص السمع وفقدانه واضطرابات التوازن.
    • أمراض القلب والأوعية الدموية؛ إذ يلاحظ عدم انتظام النبض وارتفاع ضغط الدم وتضيُّق الشرايين وزيادة ضربات القلب.
    • انقباض العضلات واضطرابات في الهضم وأمراض المعدة والأمعاء كالقرحة المعدية والقولون العصبي.
    • ضعفٌ في القدرة الجنسية لدى الجنسين.
    • يؤثر في وظائف المخ، ويسبب فقداناً تدريجياً في الذاكرة وثقل القدرة على التركيز والتعلم.
    • سوء إفراز الغدد الصم ويصبح الجسم أقل مقاومةً للأمراض وخاصةً العصبية منها.
    • الشيخوخة المبكرة.
  • المخاطر السمعية: إنَّ طول فترة سماع الضجيج وشدته العالية تؤدي إلى نقص السمع أو فقدانه. والأصوات القوية والمفاجئة تؤدي إلى فقدان السمع المؤقت عقب التعرض للضجيج. ولكن يعود السمع إلى الشخص المصاب به في الساعة الأولى أو الثانية بعد توقف الضجيج. كما يُلاحظ نقص السمع لدى العمال الذين يتعرضون لضجيجٍ من مستوى 80 ديسبل وأكثر؛ إذ يشعرون في البداية بطنينٍ في الأذن وصداعٍ، ثم انخفاض إدراك الأصوات ذات التردد المنخفض والمتوسط، ويزداد احتمال الإصابة بالصمم المهني كلما زاد مستوى الضجيج وطالت مدة التعرض له، وخاصةً المستمر منه.
  • الآثار الاقتصادية: يؤدي ارتفاع مستوى الضجيج إلى نقص القدرة على العمل وقلة الإنتاج، وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنَّ إنتاج العاملين في أوساطٍ تبلغ شدة ضجيجها 70 ديسبل، يزيد بمرتين عن إنتاج العاملين بأوساطٍ شدة ضجيجها 100 ديسبل أو أكثر.
  • المخاطر على الإنتاج الحيواني والنباتي: أثبتت دراسةٌ أجريت على مزارع للإنتاج الحيواني موجودة قرب مطارٍ ما يأتي:
    • أخطأ النحل في مساره ولم يعد إلى مكانه في المناحل، كما أنَّ يرقات النحل ماتت.
    • نقصان كمية الحليب الذي تدرُّه الأبقار، وإصابة الأبقار بهزالٍ شديد.
    • امتناع الدجاج عن وضع البيض وإصابتها بتساقط الريش ثم الموت.
    • لُوحظ قلة الأشجار المثمرة والنامية نتيجة شدة الضجيج.
إقرأ أيضاً: اسباب طنين الأذن وطرق العلاج

في الختام:

تشكِّل كمية الضجيج الضخمة والمتزايدة التي تتميز بها بيئة هذا العصر خطراً مادياً يهدد الجهاز السمعي والعصبي للإنسان اليوم؛ إذ يتعرض المرء باستمرارٍ ولفتراتٍ زمنيةٍ طويلةٍ إلى ضوضاء مرتفعة تحد من قدراته في المجالات كلها، كما تُعَدُّ مصدراً لإجهادٍ عقليٍ وعاطفيٍ يعوق نمو قيم وملكات الإبداع والابتكار لديه.

المصدر




مقالات مرتبطة