الصناعات الإبداعية/الجزء الثاني

 الصناعات الابداعية -الجزء الثاني

جون هارتلي

لا يزال الإبداع هو جوهر الثقافة، ولكن طريقة إنتاج الإبداع وتوزيعه والاستمتاع به كانت تختلف في مجتمعات ما بعد الصناعة كل الاختلاف عن المراحل السابقة.وقد ثبت أن قطاع الصناعات الإبداعية شريك مزعج لكل من الحكومات والمؤسسات التعليمية التي كانت أكثر اعتيادا على التعامل مع صناعات كبيرة أو مهن جيدة التنظيم.

 



ولكن الحدث الأكثر أهمية كان تحول الصناعات الإبداعية إلى مصدر هائل للثروة، فالقيمة لم تعد تأتي من تصنيع الأشياء، وإنما من المعلومات (نظم تشغيل الحواسيب)، وانتقلت السيادة من شركات مثل جنرال إلكتريك إلى أخرى مثل ميكروسوفت، وتحولت المعلوماتية إلى التفاعلية والتواصلية، وما تبع ذلك من أعمال ومشروعات عبر شبكة الإنترنت وشبكات الاتصالات، وأصبح الإبداع في هذه المرحلة أحد أصول السوق.

وبدأت الاقتصاديات المتقدمة تشهد انتقالا كبيرا من الشركات الكبيرة إلى المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ومن توجيه المدراء إلى توجيه المستهلك أو الفنانين والمؤلفين ومديري الإنتاج، وتمتد إلى الخدمات الصحية والتعليمية، وأصبح الاستهلاك جزءا من دائرة الصناعات الإبداعية لا غايتها.

وأصبح التعليم عملية إبداعية لا ينظر إلى الطلاب باعتبارهم فقط محتاجين للمعرفة، ولكنهم محفزون للعملية التعليمية، وتحولت الصناعة من منتج إلى مدخل.

وارتبطت الصناعات الإبداعية بوضوح مع خدمات أخرى: السياحة، والنقل، الشحن، الطاقة، المالية، التأمين، الاتصالات، المحاسبة، الشؤون القانونية، الرعاية الصحية، الإعلان، البناء، الهندسة، العمارة، تكنولوجيا المعلومات، الضرائب، التعليم، التجارة الإلكترونية، الخدمات البيئية.

ويضم العاملون الإبداعيون قوة عمل واسعة متعددة القوميات من الموهوبين، يستخدمون إبداعهم الفردي في التصميم، والإنتاج، والعرض، والكتابة، وهم يتراوحون بين مصممي الأزياء في ميلانو وعمال مصنع أحذية في إندونيسيا، ويعمل هؤلاء عند أنفسهم، وتشهد هذه القوة تزايد العمل المؤقت ولنصف الوقت، كما تشهد المزيد من التدويل.

تصنيف الصناعات الإبداعية

تتسم الصناعات الإبداعية إلى حد كبير بطبيعة مدخلات العمل: أفراد مبدعون، الإعلان، العمارة، التصميم، برمجية التفاعلية، سينما وتلفزيون، موسيقى، نشر، فنون أداء، ومن أهم مجالاتها:

صناعات حقوق النشر: فن تجاري، فنون إبداعية، فيلم وفيديو، موسيقى، نشر، إعلام مسجل، معاملة بيانات، برامج إلكترونية.

صناعات المحتوى: تحددها بؤرة إنتاج الصناعة: موسيقى سابقة التسجيل، موسيقى مسجلة بالتجزئة، إذاعة وسينما، برمجية، خدمات إعلامية.

الصناعات الثقافية: تتحدد في ضوء وظيفة السياسة العامة والتمويل، المتاحف والقاعات، فنون وحرف بصرية، تعليم الفنون، إذاعة وسينما، موسيقى، فنون أداء، أدب، مكتبات.

المحتوى الرقمي: يتحدد عبر الجمع بين التكنولوجيا وبؤرة إنتاج الصناعة، فن تجاري، فيلم وفيديو، تصوير فوتوغرافي، ألعاب إلكترونية، إعلام مسجل، تسجيل صوت، تخزين المعلومات واسترجاعها. 

ينطلق هذا الكتاب الذي يتكون من جزأين من الحاجة إلى مواجهة التحديات المفروضة في عالم يشكل فيه الإبداع والابتكار والمخاطرة حاجة عامة إلى المشروعات الاقتصادية والثقافية، حيث تقود المعرفة والأفكار عملية تكنين الثروة والتحديث، وحيث تشكل العولمة والتقنيات الجديدة قوام الحياة والخبرة اليومية.

في مقدمة طويلة وضافية يقدم المحرر جون هارتلي لأفكار الكتاب، ويستشهد بأهمية الصناعات الإبداعية أنه في العام 2001 قدر صافي عائدات حقوق النشر الأميركية بـ791.2 بليون دولار أميركي، ويعمل بها حوالي 8 ملايين عامل، ويبلغ إسهامها في الصادرات: 88.97 بليون دولار، أي ما يفوق صادرات السيارات والطائرات والصناعات الكيماوية والكمبيوتر.

ويؤشر ذلك على أهمية الصناعات الإبداعية التي بدأت توجه المعرفة الاقتصادية وتسير الصناعات والخدمات الأخرى.

وبطبيعة الحال ستقود المجتمع طبقة جديدة تتفق مع قيادة الإبداع للاقتصاد، وهي طبقة من الفنانين والموسيقيين والعلماء، الذين يحددون ساعات عملهم ولا يمكن إجبارهم على العمل.

وستنتقل طريقتهم في الحياة والعمل إلى الحياة الاقتصادية بعامة، أو بتوصيف رمزي لتحولات العمل، من الياقات الزرقاء إلى الياقات البيضاء، إلى عمل بلا ياقات، وسيؤدي ذلك إلى أشكال جديدة من الإدارة الذاتية والمساواة والعمل السريع الحاسم.

وستتغير أيضا أساليب التعليم، فنحتاج أن نتعلم لنكون مبدعين، وثمة حاجة للتعليم الذاتي والمستمر المعتمد وغير المعتمد، وهذا يجعل المعلمين (بشروط) من الطبقة الإبداعية الجديدة.

ويجب أن تكون الأهداف الجديدة للتعليم تطوير الملكات، الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، والتصرف بمسؤولية تجاه الآخرين، والمبادرة والعمل الجماعي، والقدرة على مواصلة التعلم، وسيتولى تقديم التعليم منظمات أقدر على تحديد احتياجات المتعلمين، وسيتوزع التعليم بين الأسرة والعمل والمقاهي والفصول الدراسية.

ممارسات ومشروعات إبداعية

يتحدث في هذا الجزء كل من براد هيزمان، الأستاذ بكلية الصناعات الإبداعبة بجامعة كوينزلاند، وإمبرتو إيكو، رئيس المدرسة العليا للدراسات الإنسانية بجامعة بولونيا، ومؤلف مجموعة من الروايات مثل "أرض أول أمس" ومجموعة من الكتب الأكاديمية، مثل "حدود التأويل"، وجانيت موري، مؤلفة كتاب "هاملت في مقاعد المتفرجين: مستقبل القص في الفضاء الإلكتروني" وكن روبنسون، الأستاذ بجامعة وورويك ببريطانيا ومؤلف كتاب "خارج عقولنا"، ولويجي ماراموتي، رئيس مجموعة ماكسمارا فاشن التي تتجاوز مبيعاتها السنوية الـ600 مليون جنية إسترليني، وتعد من أنحج وأشهر الماركات في عالم الموضة، وجين روسكو، رئيسة دراسات الشاشة بالمدرسة الأسترالية للفيلم والراديو والتلفزيون عن تأثير التغير الثقافي والاقتصادي والتقني في الممارسات الإبداعية للأفراد والجماعات، وكيف تتحول الصيغ التقليدية للفن والجمال لتفسح الطريق أمام بيئة ثقافية جديدة.

ويشمل تعبير الممارسات الإبداعية مجموعة كبيرة من الأنشطة التي تتقابل في حشد من المواقع وللعديد من الأغراض المختلفة، ويستخلص المؤلفون صفات محددة تميز الممارسة في الصناعات الإبداعية، وهي التفاعلية والتهجين، والامتداد إلى مواقع وأشكال جديدة من الإنتاج الثقافي، والاتجاه نحو تعددية الأنظمة ووسائل ترويج متقاطعة للتوزيع، وارتباط الإبداع بالتجارة.

إن الإبداع اليوم في أزمة بسبب التغيرات الاجتماعية والتقنية، وفي ندوة عقدت عام 1996 في واشنطن تحت عنوان "الإبداع الأميركي في خطر" شارك فيها علماء وفنانون لمواجهة القلق المتصاعد في كثير من مجالات التعليم والاقتصاد والمهن.

وأكدت الندوة أن الإبداع صفة إنسانية أساسية يجب تنميتها في كل الناس، فحرية التعليم والإبداع والمغامرة والنجاح والفشل والتساؤل والنضال والنمو هي الأساس الأخلاقي الذي قامت عليه الولايات المتحدة الأميركية، ونشر الإبداع بين كل الناس من كل المواقع والفئات الاقتصادية والأصول العرقية يمثل ضرورة للمصلحة العامة.

ويقدر جون هوكينز (1999) إجمالي الاقتصاد الإبداعي بـ 2.2 تريليون دولار، ومن المميزات الاقتصادية لهذه الصناعات الإبداعية أنها سلع تجربة، تعوز المشتري فيها المعلومات قبل الاستهلاك، ويستلهم المنتجون نشاطهم الإبداعي اعتمادا على أنشطة أكثر رتابة مثل المحاسبة والتسويق لإتاحة تلك الأنشطة اقتصاديا، وتحتاج إلى عمل جماعي وفرق إبداعية تتمتع بمهارات متنوعة، ويتنوع الإنتاج في أشكاله وتسويقه، وتحتاج إلى التنسيق بين أنشطة إبداعية متنوعة في مدى زمني قصير نسبيا ومحدد غالبا.

وهناك صناعات تعتمد على خدمات كثيفة الإبداع، مثل التصميم، وهو من أهم الصناعات الإبداعية تنوعا وديناميكية، وقد بلغ حجمه الاقتصادي عام 1999 حوالي 140 مليار دولار.

وكان ينمو في السنوات 1995–2000 بنسبة 21%، كما يعد التصميم مدخلا أساسيا في معظم منتجات وخدمات الاقتصاد الجديد، وإحدى الأدوات الأساسية المخولة للإبداع في اقتصاد الخدمات.

ويوضح تقرير التنافسية العالمية (2000/2001) للمنتدى الاقتصادي العالمي وجود ارتباط واضح بين كثافة التصميم في أنشطة المشروع وتطور المنتج، والتنافس الاقتصادي العريض.

ويشير بحث لبرايس هاوس كوبرز إلى أن أعلى المشروعات أداء ترى في التصميم أصلا إستراتيجيا، بينما تتراجع أهميته في المشروعات الأقل نجاحا.

وتمثل منتجات شركة نوكيا لأجهزة الاتصالات نموذجا يمكن دراسته للنجاح والإبداع، فهذه الشركة الفنلندية استطاعت التحول إلى لاعب كبير ومؤثر في الأسواق العالمية بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان وغرب أوروبا.

وقد كانت نوكيا أول شركة هواتف أدركت ضرورة الانتقال بالهاتف النقال من كونه جهاز اتصال إلى جهاز يناسب الحياة اليومية وأسلوب الحياة، وتحولت نوكيا إلى دار لتصميم الاتصال النقال لا مجرد موزع تجزئة للأجهزة اللاسلكية.

تسعى الحكومات الآن لتطوير نماذج لاقتصاد يقوم على المعرفة يتضمن دورا ابتكاريا مجددا للدولة في وضع سياسات الصناعة في القرن الحادي والعشرين، وتحديد أولويات الابتكار والمشروعات القائمة على الأبحاث والتطوير، وإعادة تدريب وتعليم السكان بكثافة، والتركيز على عولمة فوائد التواصلية عبر القضاء على الأمية في مجال المعلوماتية والاتصالات.

مكتبة النبأ