الشدة على المتعلمين مضرة بهم

وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضمر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة‏.‏ ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله‏.‏ وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين‏.



وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمرة عليه‏.‏ ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به‏.‏ وتجد ذلك فيهم استقراء‏.‏ وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه‏.

فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب‏.‏ وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً ‏"‏‏.‏ ومن كلام عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ‏"‏‏.‏ حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته‏.‏
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده‏.‏ قال خلف الأحمر‏:‏ بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال‏:‏ ‏"‏ يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين‏.‏ أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروِّه الأشعار وعلمه السنن وبصِّره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه‏.‏ ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه‏.‏ ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه‏.‏ وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة‏.‏ انتهى ‏"‏‏.‏
 
ابن خلدون رحمه الله

المصدر: حلقات تحفيظ القرآن الكريم