الرياضيات وقيمها التربوية

تضم الرياضيات الحساب والجبر والهندسة، وهي تُنظَّم في التعليم المدرسي في حلقاتٍ متتابعةٍ حسب درجة صعوبتها؛ وذلك ليستطيع التلاميذ تعلُّم الرموز والمفاهيم والعلاقات والمسائل الرياضية، وتنمية قدرتهم على استخدامها في معالجة المسائل التي يواجهونها في دراستهم للرياضيات أو العلوم الأخرى أو في تعاملهم مع الواقع، فمن المعروف أنَّ المفاهيم والعلاقات الرياضية توجد في مختلف العلوم؛ لذا في هذا المقال سنتعرف إلى علم الرياضيات وقيمه التربوية، فتابعوا معنا.



علم الرياضيات:

علم الرياضيات هو العلم الأساسي الذي يقوم عليه حرفياً كل شيءٍ في حياتنا وكوننا، فهو العلم الذي يدرس الأعداد، والأحجام، والكميات، والأشكال، والأطوال، والأبعاد، والنسب، والإحصاءات، ويدخل في جميع ما يكوِّن حياتنا من أجهزةٍ وأبنيةٍ واقتصادٍ ورياضةٍ وكل شيءٍ بمعنى الكلمة.

منذ القدم كانت الرياضيات والاكتشافات الرياضية موجودةً في كل مكانٍ وكل الحضارات، ومن أكثر الحضارات بدائيةً إلى أشدها ازدهاراً، فكانت تُستخدَم من قِبل الجميع؛ إذ استُعملت الرياضيات في معرفة الوقت وضبط موقع الشمس والنجوم، وكان أول من طور النظام العددي والعمليات الحسابية الأساسية كالقسمة والضرب والجذور وغيرها هم السومريون في بلاد ما بين النهرين، وساهم المصريون القدماء والصينيون وأمريكا في تقدُّم هذا العلم؛ إذ إنَّ شعب المايا كانوا من أوائل المؤسسين لأنظمة التأريخ والتقويم المفصل، فكانوا علماء فلكٍ خبيرين.

كيف عرَّف الفلاسفة الرياضيات؟

كانت الرياضيات محطَّ اهتمام الكثير من الفلاسفة والعلماء قديماً؛ وذلك نظراً لتأثيراتها وأهميتها في تطور الحياة، على الرغم من أنَّها لم تكن بالاتساع التي هي عليه الآن، ومع تقدُّم الزمن، تطوَّر مفهوم الرياضيات عند الفلاسفة والعلماء؛ إذ قال أرسطو في تعريفه لعلم الرياضيات إنَّه علم الكم، لكن كما نعرف حالياً، علم الكم هو جزءٌ من علم الرياضيات وليس كله.

وقال الفيلسوف الفرنسي "أوغست كانت" في تعريفه بهذا العلم إنَّه علم القياس غير المباشر؛ إذ تقاس بواسطته المسافات سواء بين الكواكب أم الأراضي وغيرها العديد، لكن في وقتنا الحالي تُعرَّف الرياضيات على أنَّها علم دراسة العدد، والكم، والجبر، والهندسة، والفراغ، والتحليل، والإحصاء، والأبعاد، والقياس، والبنية، والتغير، ومهما أضفنا إليها من أنواعٍ يبقى تعريف الرياضيات مبهماً وقابلاً للتطور والتغير مع تقدُّم الزمن.

تاريخ الرياضيات:

لقد اكتشف الإنسان الرياضيات منذ فجر التاريخ وأيقن الحاجة الكبيرة إليها في حياته اليومية، فاقتصرت سابقاً في العصور البدائية على الأعداد والقسمة واستخدامها في بعض الحاجات اليومية؛ إذ إنَّ هناك بعض الآثار القديمة للرياضيات لا يمكن القول عنها إنَّها معقدةٌ، إلا حين اكتُشفت آثار بابل ومصر.

البابليون والمصريون القدماء منذ نحو 3000 سنة ق.م، بدؤوا باكتشاف وتطوير علوم الرياضيات المختلفة، فقد استخدموا الجبر والهندسة والحساب، وانتشرت استخداماتها في التعاملات المالية كالشراء والبيع والجزية والضرائب وحساب المساحات والوقت وكذلك التخطيط العمراني والبناء.

كذلك الأمر عند اليونانيين وفلاسفتهم في فترة 600 ق.م، فقد اهتم هؤلاء بالرياضيات ودراستها وعملوا على تطويرها وتوسيع مجالاتها بطرائق منظمةٍ؛ إذ بدأت تظهر النظريات كنظرية المثلث القائم الشهيرة لـ "فيثاغورث"، وبدؤوا باستخدام الرموز الرياضية وحل المعادلات ونشروا ثقافاتهم وبدؤوا بجذب اهتمامات العديد من الحضارات العربية والغربية، وإلى اليوم ما تزال الرياضيات في تطورٍ مستمرٍ والاكتشافات الرياضية مستمرة في الظهور.

القيم التربوية للرياضيات:

إذا كانت القيم الرياضية التربوية ذات طابعٍ نفعي من حيث إنَّها تساعد دارس الرياضيات على التلاؤم مع دراسته ومع الواقع، فإنَّها تبقى قيماً تربويةً فكريةً من حيث إنَّها تُكسب التفكير أدواتٍ دقيقةً وطرائق راقيةً يمكنه أن يتوصل باستخدامها إلى نتائج دقيقةٍ وصحيحةٍ قابلةٍ للتعميم.

وإذا كان التجريد والمنطق والعلاقة التابعية واليقين والصرامة العقلية طرائق رئيسة في التفكير السليم، فإنَّ التفكير الرياضي يتألف أيضاً من هذه الطرائق، وعن طريق ممارسة هذا التفكير وتعلمه تُكتسب هذه الطرائق، وقد تغدو صفاتٍ راسخةً في تفكير المتعلم، ويمكن توضيح دور الرياضيات هذا من خلال استعراض طبيعة هذه العمليات واكتسابها.

سنتعرف فيما يأتي إلى هذه القيم التربوية للرياضيات:

1. التجريد في الرياضيات:

تُعَدُّ الرياضيات أكثر العلوم تجريداً، ودراسة الرياضيات هي دراسة التجريد بحد ذاته، وتُعنى بطرائق تحليل الخبرة وتنظيمها طبقاً لأنماطٍ شكليةٍ معينةٍ، فالطول مثلاً تجريدٌ ينتقي مظهراً واحداً من كل معينٍ للبحث، وعندما نبحث أطوالاً معينةً على أنَّها أعدادٌ، لا على أنَّها أجزاءٌ هندسيةٌ، يصبح من الضروري أن نحدد ما يسميه الرياضيون "الاستمرار الحقيقي للعدد".

إنَّ القدرة على التجريد مقياسٌ لنضج وقدرة واستقلال الذكاء الإنساني، ودون التجريد يبقى العقل مقيداً بالإدراك الفردي، ولا يكون التعميم ممكناً إلا عندما نستطيع تمييز مظهرٍ شكليٍ يمكن تطبيقه على حالاتٍ خاصةٍ أخرى عن طريق التجريد، ودراسة الرياضيات مفيدةٌ بصفةٍ خاصةٍ لتوضيح التفكير وقدسيته، وذلك التفكير يستطيع أن يرفع بالحالات الخاصة، وينتقل إلى إنشاء واستخدام مفاهيم لها عموميةٌ واسعةٌ.

2. المنطق في الرياضيات:

لا يتفق الرياضيون والفلاسفة على ماهية العلاقة بين الرياضيات والمنطق، ولكنَّهم يتفقون جميعاً على أنَّ التفكير الرياضي منطقيٌ في طبيعته، وأنَّ السيطرة على الرياضيات غير ممكنةٍ دون السيطرة على الأدوات المنطقية الأساسية.

فالمنطق يتعلق بمبادئ التفكير السليم، فإذا بدأ الفرد بمقدماتٍ معينةٍ ليصل منها إلى نتائج معينةٍ، كان من الضروري أن نكوِّن قوانين للحكم على صحة الاستنتاجات، فبعض القوانين يقدمها المنطق؛ وإذا كانت الرياضيات تقوم على الفروض ثم الحكم على صحتها بطريقة الاستنتاج، فإنَّ صحة التفكير الرياضي تقوم على الاتساق مع قواعد المنطق.

والرياضيات الصحيحة هي بالضرورة منطقيةٌ في طبيعتها، فكلٌ من المنطق والرياضيات لهما طبيعةٌ شكليةٌ، ولا يوجد في أيٍّ منها تأكيدٌ على حقائق خاصةٍ بعالم الأشياء، ولكنَّ التأكيد يكون على طريقة استنتاج فكرةٍ من فكرةٍ، فالقضية "س" تكون صحيحةً بالضرورة إذا كانت القضية "ج" صحيحةً، وهذه بدورها تشتق في النهاية من الفروض الأساسية للنظام.

3. الاعتماد الشكلي المتبادل في الرياضيات:

للرياضيات قيمةٌ تربويةٌ ثالثةٌ تتبع الثانية مباشرةً، وعلى الرغم من أنَّها من مظاهر الطبيعة المنطقية لهذا النظام، فإنَّها تستحق عنايةً خاصةً، فالأشياء التي تدخل في الخبرة الإنسانية لا يمكن عدُّها منفصلةً تماماً عن بعضها بعضاً، لكن يجب النظر إليها في علاقاتٍ متشابكةٍ مترابطةٍ، فجوهر المعنى في الخبرة يكون في صحة الأحداث، فمن بين إسهامات الرياضيات أنَّها تتناول بطريقةٍ منظمةٍ الأشكال الممكنة للاعتماد المتبادل، فالعلاقة تحدَّد بقاعدةٍ؛ إذ يرتبط شيءٌ أو أكثر بمجموعةٍ مقابلةٍ من الأشياء الأخرى، فالرياضيات تتناول البناء الشكلي لمثل هذه القواعد التي يقوم عليها الارتباط.

4. التحويلات في الرياضيات:

لكي نوضح قوة المفهوم الوظيفي، نقول إنَّ الاعتماد الشكلي المتبادل قد ينتمي إلى العلاقات بين مجموعاتٍ موجودةٍ من الأشياء، وقد ينتمي إلى جانب ذلك إلى التغييرات التي تحدث عندما تتعرض الأشياء للتحويل طبقاً لقاعدةٍ معينةٍ من العمل.

ويهتم جزءٌ هامٌ من الرياضيات بدراسة مثل هذه التحويلات، والهدف هو تحليل النتيجة التي تحدثها التغييرات التي تكون نتيجة تطبيق قاعدةٍ وظيفيةٍ معينةٍ، فالسلوك الذكي في الحياة يتطلب فهماً لكيفية حدوث التغيرات والنتائج المترتبة على أعمالٍ معينةٍ؛ إذ إنَّ الرياضيات تمدنا بالعمليات والمعالجات للخصائص الشكلية للتحويلات الممكنة، فإنَّ دراسة الرياضيات أيضاً تقدِّم إسهاماً هاماً في فهم الذكاء الإنساني فهماً عميقاً.

5. اليقين في الرياضيات:

الرياضيات فرعٌ من فروع المعرفة تكون النتائج فيه مؤكدةً لا محتملة، نهائيةً لا مبدئية، والرياضيات في هذه الصفة تختلف عن المعرفة في ميادين العلوم الأخرى؛ إذ تبقى المعرفة فرضيةً أو احتماليةً قابلةً للتغيير والتعديل عندما تكتشف معارف ونظريات أخرى أصدق منها، فالفرض الثابت في الرياضيات يُعَدُّ مؤكداً لا يقبل المناقشة في جميع الأوقات، والفروض الأساسية هي نظامٌ رياضيٌ، لا تشبه فروض العلم الطبيعي، فهي ليست حقائق تخضع للاختبار؛ إذ إنَّها تعريفاتٌ وقواعد تحدد النظام، فما هو مفروضٌ من تعريفاتٍ وبديهياتٍ تشتق الفروض المختلفة، هو أنَّها نهائيةٌ تماماً ولا تخضع للمراجعة التالية أو التصحيح.

إقرأ أيضاً: علم الفيزياء: تعريفه، وتخصصاته، ومجالاته، وأشهر علمائه

6. الصرامة العقلية في الرياضيات:

إنَّ دراسة الرياضيات هي تدريبٌ على العمل العقلي، فمعظم التفكير العادي إلى حدٍّ ما غامضٌ وغير دقيقٍ، وحتى في العلم الذي يستهدف تحقيق الدقة، نجد أنَّه نادراً ما يتحقق هدف الصرامة العقلية الكاملة، ففي الرياضيات وحدها يصل مطلب الدقة والمنطق الخالص الدقيق إلى أقصى الحدود.

من الطبيعي ألا تكون جميع أنواع الرياضيات صارمةً في الواقع، وخاصةً في المستويات الأولية بحيث يجب القيام بالكثير على أساسٍ حسيٍ حدسيٍ، ولكنَّ المثل الأعلى للصرامة العقلية ثابتٌ لا يتحقق إلى حدٍّ كبيرٍ عن طريق تلاميذ أكثر نضجاً في المادة، فعالم الرياضيات لا يَعُدُّ الفرض ثابتاً إلا إذا شعر بأنَّه راضٍ عنه حدسياً، أو أنَّه من الناحية السيكولوجية آمنٌ عليه، فهو لا يطلب أقل من الصرامة المنطقية الكاملة.

7. لغة الرياضيات:

إنَّ أهم ما يميز الرياضيات تمييزاً واضحاً استخدامها الواسع للغةٍ خاصةٍ، فعالم الرياضيات يسعى إلى أن يحل محل الكلمات العادية استخدامٌ لغويٌ جديدٌ مخصصٌ لتحقيق أهدافه، وهذا مستطاعٌ بصفةٍ عامةٍ نتيجة ما تتميز به الرياضيات من طبيعةٍ عامةٍ مجردةٍ.

على سبيل المثال، المعادلة "س = ج(د)" تعنى بالعلاقات الشكلية بين "س" و"د" وهي ليست أشياء فرديةً معينةً؛ بل أشياء مهما تكن فإنَّها تنطبق عليها العلاقة الوظيفية، وإنَّ استخدام مثل هذه اللغة الخاصة يحرر الفرد من تحديدات الأشياء الخاصة ويسمح بحرية العمل في عالمٍ من التجريد.

إقرأ أيضاً: علم الإحصاء: مفهومه، وأهميته، وأنواعه، وفروعه

في الختام:

لقد تعرفنا في هذا المقال إلى ماهية علم الرياضيات، وتعريف الفلاسفة له وتاريخه بشكلٍ موجزٍ، وتَحدَّثنا مفصلاً عن قيمه التربوية.

المصادر:

  • 1،2
  • كتاب التربية العامة للدكتور أنطون حبيب رحمة.




مقالات مرتبطة