الذكاء بين الوراثة و الاكتساب

 

كتب الدكتور فاخر عاقل في كتابه "أصول علم النفس و ميادينه " :
من الأمور التي شغلت علماء الوراثة و علماء النفس السؤال عما إذا كان الذكاء وراثياً أم كسبياً ؟! و بتعبير آخر السؤال عما إذا كان الانسان يولد بقدر محدود من الذكاء لا يستطيع تجاوزه مهما أُحسنت تربيته و أُتيحت له من فرص الاكتساب و التعلم ؟ أم أن حسن التربية و غنى المحيط و فرص التعلم قادرة على زيادة ذكاء الإنسان نفسه و تنمية قدراته العقلية وقابلياته الذهنية ؟!



للعلماء في طبيعة الذكاء نظريات يمكن إجمالها في أربع هي :
النظريات البيولوجية : فهي نظريات (داروين) و (سبنسر) و أتباعهما و هي تبني الذكاء على أساس بيولوجي و تعرفه بأنه ( القدرة على الإفادة من الخبرة و مواءمة المحيط و المرونة أو القدرة على التعلم ) . وهم يعتبرون الذكاء قدرة عامة و موروثة و يرون أن القدرات الأكثر تخصصاً تميزت بالتدريج أو نجمت عن القدرة التكيفية العامة خلال تطور كل من الأنواع و نمو الفرد معاً .


النظريات السيكولوجية : فتركز اهتمامها على الوظائف الادراكية التي تميز الإنسان عن سواه من المخلوقات و لا تهتم بتطور الذكاء في العالم الحيواني و قد قال العلماء المؤمنون بهذه النظريات بعدد من القدرات اعتبروها جوهر الذكاء من مثل القدرة على حل المشاكل أو القدرة على التفكير المجرد أو غيرهما وقد عرف العالم الانكليزي ( نايت ) الذكاء بأنه ( القدرة على التفكير في العلاقات تفكيراً بنائياً موجهاً نحو هدف ) و هو يميز بين هذه القدرة و بين مجرد الحصول على معلومات أو مهارات .


النظريات العاملية : فقد حاولت تجنب البحث في مشكلة طبيعة الذكاء بأن قالت : " ان الذكاء هو ما تقيسه مقاييس الذكاء " و واضح أن هذا النوع من النظريات لا يفعل أكثر من تجنب المشكلة على طريقة تفسير الماء بالماء ، ناسياً أن واضعي مقاييس الذكاء لم يكونوا ليصفوها على هذا الشكل أو ذاك لو لم تكن لهم نظرياتهم عن الذكاء .


النظريات النمائية : تعتبر أقرب النظريات الى الصحة و أكثرها توفيقاً في تفسير طبيعة الذكاء . و أشهر القائلين بهذه النظريات عالمان أحدهما أميركي اسمه ( هب ) و الآخر سويسري اسمه (بياجه) و بالرغم من أن معالجتهما للموضوع مختلفة جداً ، و ذلك على اعتبار أن ( هب ) يصرف جل اهتمامه الى سيكولوجية الحيوان و فيزيولوجيا الدماغ و أن ( بياجه ) يهتم أكثر ما يهتم بسيكولوجية الطفل و المنطق الصوري ، فإن النتائج التي توصل إليها كل منهما متناسقة متوافقة بشكل ملحوظ . و للعالم (هب) مساهمة أهم و هي تفريقه بين نوعين من الذكاء ، الذكاء - أ - و يقصد به الذكاء الوراثي بصورة كامنة ، الذكاء -ب -ويقصد به الكفاءة العقلية الحاضرة ويمثل القابليات العقلية التي بنيت أثناء الحداثة و الطفولة و الذي لا يمكن أن ينمو إلا في إثارة محيطية مناسبة .
أما ( بياجه ) فقد وصف كيفية انبثاق التفكير و الصور عن سلوك المحاولة و الخطأ الظاهر ، و التفكير الذكي لا يمكن أن ينمو إلا في سياق اجتماعي حيث يساعد الراشدون و الأطفال الأكبر سناً الطفل الأصغر على اغناء حصيلته من الأفكار و المفاهيم و ايضاح الصلة بينها عن طريق الكلام . أي أن الذكاء و نموه متوقفان على المجتمع الى حد كبير ، وفي رأي ( بياجه ) أن الطفل في السنين الباكرة ينحصر سلوكه ـ في معظم الأحيان ـ في الاستجابات الحسية المباشرة للخبرات العملية ، وهي تكيفات وحيدة الاتجاه و غير مرنة أما في المراحل المتقدمة من العمر حيث يتجلى التفكير المنطقي المجرد فيتصف تفكير الانسان بالمرونة و الحركة أي في القدرة على الانتقال الى المواقف الجديدة و سهولة تقليب الأفكار و الرجوع الى الخبرة الماضية و الانتقال منها الى الوضع الحاضر ، و فيما بين هاتين المرحلتين ـ الحسية و المنطقية ـ تقوم مرحلة يكون اليافع فيها متركزاً حول ذاته و تكون مفاهيمه فيها عن الزمان و المكان و السببية و الأخلاقية غير عقلانية و لا ثابتة و إنما حدسية متصلة بحاجاته الشخصية و اهتماماتها الذاتية


تلك هي خلاصة تفكير العلماء فيما يخص الذكاء أو كسبته ، و الذي يبدو لي أن الاتجاه الأخير – الاتجاه النمائي – هو الأقرب الى الصحة ، و الحق أن جمهرة علماء النفس اليوم أميل الى الأخذ به و الاعتقاد بأن ما قاله ( هب ) و ( بياجه ) يكمل أحدهما الآخر و يجعل من الذكاء قدرة موروثة في أصلها و لكنها قابلة للنمو و التطور ، و أن نموها إنما يتم في سياق اجتماعي ، وأن المجتمع الأغنى و الأقدار على تحدي الطفل هو المجتمع الأصلح لنمو الذكاء و تزايده و أن اللغة بالذات تلعب في هذا دوراً أساسياً .