الدنيا مُبّشرة

 

ما الذي يجبر أحد الناس على أن يسافر سفراً طويلاً ويقطع طريقاً وعرة، ويقود في يوم تسوده شبورة ضبابية؟ لم يفعل ذلك بنفسه؟ إن قطع الطرق في مثل هذه الأجواء محفوف بالمخاطر الآكدة، والصعوبات التي لا يختلف عليها اثنان، هل هناك من شك في أن الذي يسافر في مثل هذه الأجواء سيضطر لتبطئ السرعة جداً وسيقطع ما كان يقطعه من المسافات في أضعاف الوقت الذي كان يقطعه في اليوم الصحو؟



 

وهل هناك من شك في أن هذا الأمر سيرهقه ويرهق من معه وسيستهلكهم جميعاً نفسياً وعصبياً وجسدياً وسيوتر العلاقة بينهم ويجعلهم أكثر قابلية للاشتباك فيما بينهم؟ وهل هناك من شك في أن مثل هذه الأجواء تزيد من قابلية انحراف السيارة عن الطريق الصحيح وغرسها في الرمال، الأمر الذي يعني عطلة فوق عطلة، وإرهاقاً فوق إرهاق لإعادتها على الطريق الصحيح؟ وهل هناك من شك في أن الأمر قد يتطور لأكثر من ذلك ويصل إلى التصادم المميت الذي تزهق فيه الأرواح؟


أعتقد أن كل ذلك ليس فيه أدنى شك، لأنه بطبيعة الحال واقع نسمع عنه في كل يوم، ونشاهده في كل حين! إن نتائج هذا اليوم وهذه الأجواء معلومة ومعروفة سلفاً، ومع ذلك فالمرء عجب أشد العجب، عندما يرى أصنافا وطوائفا من الناس تصمم على ركوب الطريق وخوض غمار السفر في مثل هذه الظروف! ولأنني أحب أن أجد تفسيرا منطقياً لما أشاهد من أحداث وتصرفات فقد رحت أتفرس هذه الطوائف لأقف على دوافعها التي أدت إلى هذا المسلك! وأعتقد أنني قد وصلت لتحليل أغلب ظني فيه أنه صائب، فما هو هذا التحليل؟

 

لقد وجدت أن دوافع هذه الأصناف متعددة وليست دافعا واحدا، فبعضهم خاض هذه التجربة بغير سابق خبرة للتعامل مع هذه الأجواء يعني لم يقدر الوضع، وبالتالي فوجئ به وليس أمامه إلا أن يصبر عليه ويحاول اجتيازه بأي شكل كان، والبعض الآخر رغم معرفته بخطورة الوضع صمّم على اجتيازه من باب الغرور! إنه مغرور ويعتقد أنه قادر على أن يتعامل مع أي وضع وأن يجتاز كل المشاكل وأن يقهر كل الظروف والبعض الثالث دفعه العناد فهو لا يحب إذا صمّم على شيء أن يعود فيه، وإن كان فيه هلاكه وهلاك من معه، وعلى أقل تقدير مشقته ومشقة من معه، والبعض الرابع دفعة التفاخر والمراءاة أنه يريد أن يشار إليه بالبنان وأن تتناقل الألسنة شجاعته وجراءته وهكذا.. فهل نجا واحد – من هؤلاء – على اختلاف دوافعهم مما ذكرت من مصير في بداية المقال؟


للأسف أو قل من الطبيعي، لا لم ينج أحد. أتدرون من هي الطائفة التي نجت؟ إنها الطائفة التي رفضت أن تقطع الطريق أصلاً في مثل هذه الأجواء الضبابية وانتظرت حتى اتضحت لها الرؤية بشكل تام سَهَّل لها كل شيء لقد قطعت الطريق بسرعة وبارتياح، ولم تُسْتَهْلك لا نفسيا ولا عصبيا ولا جسديا ولم تنبث الاشتباكات بين أفرادها نتيجة للضغط الذي كان يمارس عليهم جميعاً ولم تَضِل الطريق ولم تسقط في عطلة كثبان الرمال المعيقة، ومع ذلك كله وقبل كل ذلك كله فقد وصلت إلى هدفها وحققت مبتغاها بأمان ودقة وسلامة.

 

إن هذين الوضعين بآثارهما بالضبط ما يحدث في كل المجالات لأي طائفتين، إحداهما مصابة بانعدام الرؤية أصلا، أو مصابة بالرؤية المشوشة الضبابية، أو تشكو من البعثرة الذهنية، أو يسيطر عليها سطحية التحليل أو قلة الخبرة، أو محصورة في غرورها، أو مقيدة بغباء القائمين عليها، والطائفة الأخرى التي تمتاز بالتخطيط، وربط النتائج بالمقدمات، وتقدير الظروف والملابسات، ووضع الأمر في محلة وغير ذلك من الملكات المحترمة، إن الذي يخبط في الحياة خبط العشواء، سينكفي على وجهه، وساعتها لا يَلُومنّ إلا نفسه!

 

إن التخطيط في الإسلام أصل من أصوله، وملامحه ثابتة في كل جزئياته، والمطلع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدرك ذلك من أول مطالعة: فالرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر خطط لهجرته بالشكل المعروف ولما حارب في بدر، خطط للمقابلة وكذلك فعل في كل غزواته، بل في كل حركاته ومن ورائه صلى الله عليه وسلم كل الخلفاء الراشدون وغيرهم ممن قادوا الأمة وعلا نجمها على أيديهم أما غيرهم من منحطي الهمة منعدمي الذكاء فلم تجن الأمة من ورائهم إلا كل ذل وهوان.

 

إن التخطيط أمر بديهي ولا يسأل عن قيمته أو يحط من جدواه إلا مفقود العقل معتوه، إنني أدعو قراء المقال إلى قراءة قصة ذي القرنين التي وردت في آخر سورة الكهف، وسيندهشون من تخطيط ذي القرنين وأخذه بالأسباب في كل شيء قال تعالى: "كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا" (الكهف 91 – 92) إن الأخذ بالأسباب والتخطيط على المستوى الفردي، والجماعي هما صماما الأمان لأي مجتمع طموح يسعى للتطور والترقي وبدونهما ستحطمه الحوادث والمصائب التي تقصم الظهر! صدقوني! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله.

 

الأستاذ/ عمرو خالد لمجلة اليقظة بتاريخ 21 يوليو2004