الدماغ و البحث عن آثار الذاكر

مـقـدمـة :

البحث العلمي المتداولة في جل ميادين العلوم البحتة . أما العلوم النفسية فقد اهتمت بدراسة السيرورات و الآليات السيكولوجية الكامنة وراء معالجة المعلومات و اكتسابها و تخزينها وفق محددات مضبوطة كما وكيفا . أما الباحثون في ميادين علوم الأعصاب فقد انصب اهتمامهم في البحث على لم تعد الذاكرة تلك القلعة المستعصية أو الوظيفة العقلية المستحيلة المنال .



لكن و بالرغم من التقدم الحاصل فإن الباحثين لم يتوصلوا بعد إلى حل كل الرموز ، و الدواليب الدقيقة ، و الميكانزمات العصبحيوية المتعددة، و التعرف على الأنساق المتشابكة و المعقدة للذاكرة و التعلم . فحوالي ما يناهز أربعة عقود ، بدأ الباحثون في ميادين علوم الأعصاب( فيزيولوجيا الأعصاب ، علم النفس الفيزيولوجي ، علم جينات الأعصاب ...) و علوم النفس ( علم النفس التجريبي و علم النفس المعرفي ...) في البحث عن مكونات الذاكرة التي تشكل إحدى الوظائف العليا للإنسان و التي بدونها لا يمكن أن يكون له ماض يعتمده كمرجعية لحياته اليومية و لا مستقبل يتوقعه غنطلاقا من ماضيه و حاضره .ويتسم البحث في هذه الميادين باعتماد مقاربات ممنهجة و خاضعة لشروط دقيقة التقصي و تجريب لمقاييس و مبائ الآليات و الميكانزمات و السيرورات العصبحيوية و العصبكيمائية و العصبتشريحية التي تمكن الجهاز العصبي من معالجة المعلومات و اختزانها و استرجاعها و استغلالها للتعبير عن مشاعر و مواقف و مبادئ حياتية و اخرى لبناء أنماط سلوك فردي أو اجتماعي يمكن الفرد من الشعور بأنه ينتمي إلى مجتمع أو مجموعة ما . شكل البحث على آثار الذاكرة و الجزئيات الخلوية النشيطة بالجهاز العصبي و ما يزال يشكل ميدانا خصبا في ميادين علوم الأعصاب خاصة فيما يتعلق بتحديد :

·         النوى الدماغية و الباحات القشرية التي لها دور مباشر أو غير مباشر في معالجة المعلومات وتخزينها و تذكرها .
تفترض الفرضيات التي بلورت في هذا المجال أن الذاكرة تتموقع بعد النوى و الباحات القشرية الدماغية التي يجب تحديدها ومعرفة نوع المعلومات الخاصة بكل منها .
·         النواقلneurotansmetteurs أو الوسائط العصبية ‎ ‎ neuromédiateurs
التي تشكل الجزئيات العصبكميائية النشيطة و المزامنة لمعالجة المعلومات بالخلايا العصبية . تميزت الفرضيات التي صيغت في الميدان العصبكميائي و العصبفيزيولوجي بتعددها و تنوعها ، بحيث أنه افترض أن لكل ناقل أو وسيط عصبي دورا أو أكثر ، منها ما هو أساسي و ما هو ثانوي . تعدد الأدوار هذا ناتج عن اكتشاف مستقل récepteur أو أكثر لكل ناقل أو وسيط عصبي بالخلية العصبية البعد مشبكية ‎‎‎ Post-sny-optique .
·         الجزئيات الوراثية البروتينية و الحامض نووية التي تتدخل في سيرورة المعلومات و تخزينها و استرجاعها .
بنيت جل هذه الميادين على فرضية نظرية أولية اقترحها عالم النفس الفيزيولوجي دونالد هيبDonald Hepp سنة 1949 انطلاقا من الأعمال التشريحية للدماغ قا بها العلم الاسباني رامون إي كخال Ramon Y Cajal و الذي بلور النظرية العصبية التي تؤكد أن الخلايا العصبية وحدة تتواصل مع الخلايا العصبية الأخرى عبر الارتباطات المشبكية . وقد اقتسم "رامون إي كخال" جائزة نوبل في الطب مع العلم الإيطالي غولجي Golgi سنة 1906 . يمكن تلخيص نظرية دونالد هيب في ما يلي : يترك مرور المعلومات آثارا بمكونات الخلايا العصبية النشيطة . وتحصل التغيرات بمشابك الخلايا العصبية . هذا ، وقد اقترح الفيزيولوجي سيرينكتن sherrington مصطلح مشبك Synapse في أواخر القرن التاسع عشر . ‎
سنقدم في ما يلي المعطيات الفيزيوعصبية الأساسية المتوصل إليها في ميدان دراسة الذاكرة و التذكر .
·         الذاكرة و الميكانيزمات العصبحيوية :
 
شكل الاهتمام بالتغيرات الحاصلة بمشابك الخلايا العصبية فرصة كبيرة سنحت للباحثين التعرف على عدد من الميكانزمات العصبحيوية المزامنة لعمليات اكتساب الدماغ للمعلومات . وهكذا
رسم رقم 1
إثارة مسلك عصبي لأول مرة . تنشط الخلية العصبية رقم 1 بواسطة التدفق الكهربائي وتفرز كمية طفيفة من الوسيط العصبي بالحيز المشبكي . بعد ذلك يتم تلاحم الوسيط العصبي بالمستقبِل العصبي الموجود بالخلية العصبية 2 . على ترتيب مونو كسيد الآزوط ‎‎‎Noالذي يؤثر بدوره على الخلية العصبية 1 .
رسم رقم 2 :
بظهور التنبيه الثاني يلاحظ أن الخلية العصبية 2 تفرز كمية كبيرة من الناقل العصبي أو الوسيط العصبي وذلك تحت تأثيرNo الذي يثير الحويصلات الإفرازية . كمية كبيرة من المادة المستقبِلة تمكن من ترسيخ عدد كبير من جزئيات الوسيط العصبي ويتولد عن ذلك تنشيط أكثر للخلية العصبية الثانية .
هكذا تنشط الميكانزمات العصبكيميائية الخلايا القبل و البعد مشبكية وتمكن من نرسيخ الذكريات السارة و الغير السارة وكذلك المعلومات الأدبية و العلمية و الثقافية ، و بالتالي تمكن دماغنا من نسج ذاكرة معقدة ومتنوعة المعلومات و المعطيات .
أظهر عدد من الباحثين أن مرور جهد العملPotentiel d'action بمسلك عصبي موجود بالحصين أو قرن آمونHippocampe يرفع لمدة طويلة نشاط وفاعلية مشابك هذا المسلك . بعبارة أخرى ، يترتب عن إفرازات المواد الناقلة أو الوسيطة تمرير معلومات كهروفيزيولوجية من خلية إلى أخرى بكيفية أكثر سهولة . وهكذا فالماسلك العصبية التي تم تنشيطها بمرور المعلومات التي هي في مرحلة التخزين تصبح أكثر فاعلية وترسيخا للمعلومات المعالجة . وتؤكد التجارب أن المرور المكرر لجهد عمل خاص بنفس المعلومات المعالجة يجعل المسالك المعنية أسهل و أسرع لتعزيز هذه المعلومات من مرور معلومات جديدة . ـ رسم 1 و 2 بين المعطيات العصبكيميائية التجريبية المكتشفة بالحصين ـ .
وبينت نفس التجارب أن هذه التغيرات الفيزيوكيماوية يمكن أن تدوم لعدة أيام . ولهذا افترض أنها قد تشكل آثارا أو بصمات خلوية خاصة بالذاكرة الطويلة المدى . لكن لابد من طرح سؤال يتعلق بتنظيم المسالك التذكرية . هل هذه الآثار و البصمات هي التي تمثل فعلا ، الميكانيزمات العصبكيميائية المنظمة للمسالك العصبية الرابطة بين الأنظمة العصبية النشيطة و الخاصة بنوع المعلومات التي يعالجها ويحاول تخزنيها المتعلم ؟.
هناك سؤال آخر لابد من طرحه وهو يتعلق بفهم الميكانزمات و السيرورات الخاصة بالتخزين المستمر بالقشرة الدماغية . ويتعلق هذا بمحاولة فهم نوعية تخزين المعلومات بالجهاز العصبي .هل تخزن المعلومات فعلا على شكل آثار ؟ و ما هـي هذه الآثار ؟ هل بصمات لمرور الدفعات الكهروفيزيولوجية أو أنها آثار للنقال العصبي النشيط أثناء مرور هذه الدفعات أو أن الأمر يتعلق بشيء آخر يمكن افتراضه على نحو تفاعلات بين الدفعة الكهروفيزيولوجية و الناقل العصبي الموظف في النشاط العصبي المزامن لمعاجة المعلومات و اكتسابها ؟
إن كل هذه الأسئلة مقبولة ، خاصة و أن الأمر يتعلق بتحديد آليات وميكانزمات الخلايا العصبية ودورها في اكتساب المعلومات و اختزانها . بعبارة أخرى يمكن أن نتساءل عن شكل ونوع الآثار العصبفيزيوكيميائية التي تمكن من اكتساب وتخزين المعلومات بالجهاز العصبي . إذن ، هل تخزن ذكرياتنا بتراكم المواد الكيميائية أو بدفعات كهروإيقاعية ؟ هل تدرج أو تدمج الذكريات بكيفية مستديمة أو أنها تنتج وتبرز بكيفية موازية ومتزامنة مع إثارة صورة الحاضر ؟ لا بد أن نكون حذرين بالنسبة للتفسيرات و التأويلات التي يمكـن أن نصدرها في هذا المضمار . أولا لأننا لازلنا نجهل الكثير عن ميكانزمات الجزئيات العصبية المرتبطة فعلا بالذاكرة . كما أنه ليس لدينا لحد الآن سوى فرضيات تم تمحيصها بواسطة مقاربات محدودة وتقنيات جزئية لم تمكننا من تحقيق التوقعات النظرية التي صيغت في جل ميادين علوم الأعصاب وخاصة علوم الأعصاب المعرفيةNeurosciences congnitives ويبدو هذا طبيعي لأن ميدان البحث العلمي يتغذى بما هو نظري قبل أن تثبت التجارب صحة أو عدم صحة التوقعات النظرية . فالفرضيات إما أن تعزز وتفسر أو ترفض وتعاد صياغتها وفق المعطيات التي أبانت عدم صحتها . وهذا ما يجعل المعرفة العلمية تبنى انطلاقا ليس فقط على التفسير و التأويل و التنطير بل كذلك على المعطيات التطبيقية التي تعطي للتنظير المصداقية و المتانة المعرفية ، وذلك وفق معايير علمية متفق عليها إبستيمولوجيا .
·         الذاكرة قصيرة المدى :
تظهر المعطيات الإكلينيكية و التجريبية أن الذاكرة قصيرة المدى تتشكل من حيز زماني لا يتعدى بعض مئات جزء من الثانية ، وهي تكون سجلا تذكريا يتميز بمعلومات هشة وسريعة الاندثار و النسيان . ويتلاءم هذا مع المعطيات التجريبية التي تبين أن جهـد العمل المتنقل عبر المسالك العصبية النشيطة و الخاصة بهذا السجل التذكري هو الذي يجسد المعلومات الخاصة بالذاكرة القصيرة المدى وهي معلومات كهروفيزيولوجية محصنة . كما تبين هذه المعطيات التجريبية الواضحة أن ميكانيزمات مرور الدفعات الكهروبائية من خلية عصبية إلى أخرى لا يمكن تصورها دفعات لها نشاط مستديم .بالفعل ، يتميز جهد العمل بنشاط جد محدود حيث إنه لا يتعدى بعض آلاف أجزاء الثانية . ويفـسر هذا "هشاشة" وسرعة اندثار المعلومات ونسيانه في الذكرة قصيرة المدى . لقد أجريـت التجارب كثيرة في علم النفس التجريبي وعلوم الأعصاب على الإنسان و الحيوان لدراسـة هذه الظاهرة . فمثلا ، إذا قدمنا لمتعلم ما معلومات لكي يحفظها ، مباشرة بعد ذلك طلبنا منه القيام بعمليات حسابية كالضرب أو الجمع أو أي عملية لا تترك له الفرصة لتكرار المعلومات المقدمة للحفظ أو قمنا بإعطائه ومباشرة بعد تقديم المعلومات صعقة كروبائية وطلبنا منه أن يسترجع المعلومات الأولى، يلاحظ أن المبحوث لا يستطيع تذكر العلومات التي كان عليه استرجاعها . بالفعل ، نجد أن المبحوث يفاجأ بالنسيان السريع للمعلومات التي قدمت له للحفظ . كما يلاحظ من خلال ملامح وجهه وحركاته التعبير عن القيام بمحاولات لايجاد المعلومات المقدمة . وقد تطول مطاردة المعلومات لمدة تستغرق بضع ثواني . وفي الأخير يصرح المبحوث أنه يعرف ماهي المعومات المطلوبة ولكنه يعجز عن تذكرها.
ولقد أجريت تجارب مماثلة على الحيوان . حيث تم وضع فأر أو قردة في متاهة سهلة أو معقدة وتم تمكينه من معالجة جد محدودة كالاتجاه نحو ضوء أزرق ليجد قطعة جبن أو أكلة مفضلة لديه ، ومباشرة بعد ذلك يفاجأ بصعقة كهربائية ثم يوضع في نفس الحالة التجريبية ، فالفأر أو القردة لا يتمكن من تذكر السبيل الذي يؤدي إلى قطعة الجبن أو الموز مقارنة مقارنة مع الحيوان الضابط للتجربة ، أي الحيوان الذي لم يخضع للصعقة الكهربائية .
تتلائم هذه المعطيات التجريبية مع المعطيات الكهروفيزيولوجية المسجلة بالمسـالك العصبية النشيطة و المزامنة لعملية معالجة المعلومات بالذاكرة قصيرة المدى . وهكذا تم افتراض أن الذاكرة قصيرة المدى خاضعة لميكانزمات و آليات تقتصر على النشـاط الكهروفيزيولوجي .
·         الذاكرة طويلة المدى :
أما بالنسبة للذاكرة الطويلة المدى ، فهي تبدو نتاج ميكانزمات و أليات فيزيوكيميائية مختلفة حيث أن مجموعات من الخلايا العصبية التي تشكل مسالكا أو أنساقا ، تتميز بارتباطات جديدة مزامنة للمعلومات المعالجة و الذكريات المتولدة عنها . و الشيء الذي يظهر هو أن الذاكرة طويلة المدى تستلزم آليات و ميكانزمات كهروفيزيولوجية و عصبكيميائية متعددة ومعقدة تمكن من ترسيخ واسترجاع المعلومات لمدة تفوق الدقيقة إلى سنوات أو عقود متعددة . و الميكانيزمات الكهروـ فيزيوـ كيمياءـ عصبية تشكل عمليات معقدة لكل منها دور جوهري في ترسيخ المعلومات بالمسالك الموظفة وتذكرها و استغلالها في السياق الملائم .
هذا ، وقد أظهرت تجارب أجريت على الفئران و الأرانب وحلزون البحر مثلا ، أنه بعد كل عملية تعلم أو معالجة معلومات توظف مسالك عصبية وتتشكل بها ارتباطات جديدة بين عدد من الخلايا العصبية المكونة لهذه المسالك . غير أنه لوحظ إذا لم تكرر أو تعزز المعلومات أو لم تحدث إتارة هذه المسالك بعد وقت معين ، فإن الارتباطات المشكلة تندثر وتختفي . و ما يمكن استخلاصه من هذه التجارب هو :
 
أولا : تأكيد ما قدمناه بالنسبة لذاكرة قصيرة المدى .
ثانيا : يظهرأن التكرار عملية أساسية للتعلم و ترسيخ المعلومات وتخزينها بالذاكرة . لكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن عملية التكرار هي عملية ديناميكية و وظيفية وليس كما اعتبرها "تورندايك" في الأربعنيات من القرن العشرين أن ليس لها دور . لكن المعطيات التجريبية تبين عكس ما افترضه "تورندايك" و بالفعل قد بينت كثير من التجارب الحديثة التي أجريت في الميادين التي تهتم بظاهرة الذاكرة و التعلم أن للتكرار دورا أساسيا في عمليات التعلم و الذاكرة . وهذا لا يعني أنه ليس هناك عمليات ووظائف أخرى جوهرية تتدخل في ظاهرة التعلم . فالعمليات تختلف وميكانيزماتها و آلياتها الوظيفية تتدخل في اكتساب المعلومات وفق طرق سيكولوجية متعددة ومواد عصب ناقلة وعصب مستقبلة مختلفة . مثلا : ترتيب المعلومات ، إدماجها وفهمها ولكل من هذه العلمليات مميزات عصبحيوية خاصة ...
إذن ، لا يمكن إنكار أن للتكرار دورا أساسيا في التعليم ، حيث إنه كلما كرر المتعلم معالجة قطعة شعرية مثلا ، فإنه يعزز بذلك ارتباطات بين عدد من الخلايا العصبية التي تشكل بدورها أنساقا أو أنظمة شبه مستقلة تظل نشيطة لمدة زمنية طويلة . فقد يعمل مرور المعلومات للوهلة الأولى على تنظيم المشابك و المسالك و الأنساق الخاصة بالمعلومات الشعرية المعلجة من طرف المتعلمين ، أما بالنسبة للمعلم فإن ما يقوم به يقتصر على إعادة تنشيط المشابك و المسالك و الأنساق الحديثة التشكيل عند المتعلم أكثر سرعة ومرونة مقارنة مع المعلجة الأولى . هكذا ، وبعد كل معالجة للمعلومات الشعرية ، فإن المشابك و المسالك و الأنساق تنشط بكيفية شبه آلية ، مما يجعل التذكر أكثر سلاسة وسرعة ودقة . و لابد من الإشارة هنا إلى أنه كلما عمد فقيه أو عالم أو مدرس مثلا إلى إثبات شيء أو تبريره وتفسيره وتأويله ، فإنه يلجأ إلى سرد سورة أو حيث أو مقولة أو أنه يذكر بتعريف المصطلحات و القواعد و المبادئ المؤسسة للمعلومات التي عالجها ويعالجها . وتقوم عملية اللجوء إلى هذه الوظائف العليا على إثارة معلومات اختزنت منذ مدة طويلة أو قصيرة ولحقب عديدة في ذاكرة الفقيه و العالم و المدرس . وهي ناتجة عن إعادة تنشيط مسالك و أنساق خلوية تذكرية بنيت وفق آليات وميكانيزمات كهروفيزيولوجية وعصبكيميائية تمكن من ترسيخ إعلامي " ‎ Informationnel "قد يستمر لعدة عقود.تمكن هذه المعطيات من تفسير ثبات عدد مهم من الذكريات التي تظل راسخة بأذهان الراشدين حتى سن متقدم من شيخوختهم . معنى ذلك أن ما يقوم به المتعلم أو أي فرد يتذكر إنما هو إعادة تنشيط الارتباطات الخاصة بالمسالك و الأنساق العصبية المبنية أثناء آليات حفظ القرآن أو الحديث أو صيغة شاملة مفادها أن الفقيه أو العالم أو المدرس يشكلون أشخاصا في حالة تعلم مستديمة ولو أنهم يقومون بتعليم الآخرين . في الواقع ، يمكن اعتبار عملية التدريس عملية تعليم مستديمة ، و يتلاءم هذا مع التعريف العصبي لظاهرة التعلم . ولهذا لا يمكن أن نستغرب أنه كلما عمد مدرس إلى تكرار بعض المعلومات ، فهذا لا يعني أنه أصبح عاجزا عن إيجاد معلومات حديثة أو جديدة ، بل إنه يدرك ، في الكثير من الأحيان ، تمام الإدراك أن تدريس الاشياء يمكمن في تكرارها ، وبهذا يمكننا اقتراح افتراض مفاده أن عملية التكرار هي جوهر التدريس . ويحصل هذا في جل ميادين المعرفة . وليس بغريب أن نعتبر لأن الذاكرة ترتاح لهذا . ولتبرير ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الغبطة التي يشعر بها الآباء كلما تمكن طفل لهم من سرد معلومات حفظها عن طريق تكرار لسورة من القرآن الكريم أو أبيات شعرية معينة ... وتؤدي بنا هذه المعطيات إلى طرح السؤال التالي : أين توجد وترسخ المعلومات و آثار التذكر و الذكريات بدماغنا ؟
تستلزم الإجابة عن هذا السؤال اللجوء إلى المعطيات العصبحيوية النظرية و التجريبية التي تم التوصل إليها . بكيفية عامة ، تبين الدراسات التي أجريت على الجهاز العصبي المركزي عند الانسان و الحيوان أن الذاكرة تتموقع بعدد من جهات ونوى الدماغ . ويمكن انقاء المعطيات الأساسية من الأعمال التشريحية للدماغ حيث مكنت هذه الأعمال من بلورة معطيات تشخيصية عند بعض المرضى الذين يعانون من أعراض تختلف في النوع و الحدة . مثلا ، هناك من يعاني من أعراض خاصة بالذكرة قصيرة الأمد أو من أعراض تهم الذاكرة طويلة الأمد . وقد تشمل الاضطرابات معلومات جزئية أو شاملة أو تكون مركزة بسجل تذكاري معين أو بفترة زمنية محددة . كما أضهرت الدراسات التشريحية أن الأعراض ترتبط بمناطق قشرية أو نوى دماغية ، و أن لهذه المناطق أو النوى دورا إما أساسي أو ثانوي بالنسبة للوظيفة التذكارية المعنية بالاضطرابات . وفي ما يلي سنحاول دراسة بعض الباحات و النوى الدماغي التي لها دور في التذكر و الذاكرة
 
·         الحصين ( قرن آمون (
يشكل الحصين ـ قرن آمون ـ قشرة دماغية توجد بأسفل الفص الصدغي للدماغ ( انظر رسم رقم 3(
رسم رقم 3 : الحصين من الجهة البطنية مع التشكيلات المجاورة .
يشكل الحصين أو قرن آمون الجهة الدماغية التي حظيتباهتمام كبير من الدراسات التشريحية منذ أواخر القرن التسع عشر وخاصة في أوائل القرن النصرم . ويرجع الاهتمام إلى المعطيات التي قدمها طبيب الأعصاب بابيز Papez ، حيث أظهر هذا الباحث أن للحصين دورا هاما في اكتساب المعلومات ، ، و افتراضها من الجهات الأساسية و الضرورية للتذكر و الذاكرة . و بالفعل ، أكدت الدراسات فيما بعد أن للحصين دورا في معالجة المعلومات الخاصة بالتذكر و الذاكرة طويلة المدى . وزيادة على كون هذه الجهة الدماغية تشكل الممر الضروري للمعلومات ، فإن لها دورا آخر لا يقل أهمية عن الأول بحيث أنها تخزن المعلومات التي هي في طريق الترسيخ لمدة زمانية تصل إلى عدة أسابيع قبل أن تبعث أو تمرر إلى نوى أو باحات قشرية دماغية أخرى . ويستغرق تخزين المعلومات بالنوى و الباحات الأخرى حيزا زمانيا يدوم في بعض الأحيان بعدة باحات أو نوى لكل منها دور ونشاط عصبحيوي يهم وظيفة معلوماتية معينة . ويمكن توضيح ذلك من خلال المثالين التاليين :
كل ما يتعلق بالمعلومات اللغوية موزع على جهات دماغية ( نوى وقشر دماغية ) عديدة مثلا :
المعلومات الخاصة بالنطق ومخارج الحروف تعالج وتخزن بباحة بروكاBroca أما كل ما يتعلق بفهم المصطلحات و العبارات فهو مرتبط بأنشطة باحة فيرنيكيWernike رسم رقم 4 و 5 .
رسم 5 : الباحات القشرية المتحكمة في بعض الوظائف اللغوية : النطق الفهم .
رسم رقم 6 : باحات حسية ابتدائية بالقشرة الدماغية و المخيخ و الجسر الذي يحتوي على التكوين الشبكي .
كل ما يتعلق بشكل وحجم و اتجاه و تموقع الأشياء يختزن في الباحات القشرية التي تعالج المعلومات البصرية و الحسية البصرية و الباحات الارتباطية الخاصة بهذه الوظائف ( رسم 6 ) .
هكذا يتضح بأن للحصين وظيفة أساسية تكمن في كونه مركزا رئيسيا لإدماج و إدراج المعلومات المكتسبة و إرسالها إلى جهات أخرى لها اختصاص أدق وفق المعطيات ونوع المعلومات المعلجة و المكتسبة ؛ هذا ما يؤكده المثالان الأخيران .
إذن يشكل الحصين الممر الإجباري للمعلومات التذكيرية ‎‎mnésique . و إذا حصل خلل أو تورع أو جروح متفاوتة الخطورة بهذا الممر ، فإن المعلومات الجديدة لاتمر و لا يتم إدراجها و إدماجها و بالتالي
لا يتم تخزينها كمعلومات مكتسبة يمكن تذكرها وتوظيفها مستقبلا . وقد أكدت دراسات عديدة اضطرابات من هذا النوع تحول دون الاسترجاع الشعوري ولو بالنسبة لمعلومات مختزنة قبل حدوث هذه الاصطرابات . تهم هذه الاضطرابات تسمية الأشياء و الأحداث أو دلالتها . مثلا ، يعجز الفرد عن تسمية الفرشة أو المشط و يلجأ إلى شرح وطيفتهما أو يقوم بالحركات المعبرة عنهما . ولا يصاحب هذا الاضطراب التذكري الشعور بالخجل أو الارتباك ، الشيء الذي يبين عدم ارتباط وظيفة الانفعال و التأثر بهذه الاضطرابات . يتعارض هذا مع ما يلاحظ عند القرد الذي لا يعاني من هذه الاضطرابات ، بحيث أنه تظهر عليه علامات التوتر لكونه لا يستطيع تذكر الأشياء . يمكن إذن أن نفترض أن الاضطرابات التذكرية قد لا تكون مشحونة عاطفيا و انفعاليا في هذه الحالات .
يمكن أن نتصور الحصين كجهاز بيني أو "مواليس" له وظيف خاصة بتمرير المعلومات إلى جهاز قشرية ونوى داخلية و استرجاعها أثناء عمليات التذكر . و بالفعل فإن هذه الجهة الدماغية تشحن المعلومات المكتسبة بكل ما هو عاطفي وجداني . ويحدث هذا لأن للحصين ارتباطات وطيدة بباقي الجهاز العصبياللمبيقي système limbique أو النظام الحوفي . ويمثل الجهاز الحوفي الدماغ البدائي و العتيق الذي يدبر ويتحكم في أنماط السلوك " العطفي و الوجداني و الانفعالي" ويتحكم فيها .وهو جهاز مكون من عدد من النوى التي تتحكم في عدد مكن أنماط السلوك التي لها دلالة مميزة بالنسبة للإنسان مثلا ؛ حيث أنه يدير كل ما يتعلق بالسلوك الجنسي و السلوك الغذائي و الشرب ، مما يمكن من إدراك العلاقة الموجودة بين العطفة و الوجدان وكل ما يتعلق بالتعبير الانفعالي :
على عكس ما تم تقديمه بالنسبة للذاكرة طويلة المدى يبدو أن ليس للحصين دور بارز بالنسبة للذاكرة قصيرة المدى أو ذاكرة التشغيل كما يلقبها عدد من الباحثين النشيطين في ميدان علم النفس التجريبي وعلم الأعصاب المعرفي
·         الذاكرة و الأجهزة الدماغية الأخرى :
هناك أجهزة أخرى لها كذلك دور أساسي في وظائف الذاكرة وتخزين المعلومات المكتسبة و استرجاعها . و تتموقع هذه الأجهزة بين الدماغ و النخاع الشوكي (انظر رسم رقم 7) . هناك التكوين الشبكيFormation réticulaire الذي يتكون من جهتين التكوين الشبكي المنشطFormation réticulaire activatrice و التكوين الشبكي التثــبيطيFormation réticulaire inhibitrice و الذي يلعب دورا في الحفاظ على اليقضة و التنبيه أو يؤدي إلى النوم . فاليقضة و التنبيه يساهمان بكيفية فعالة في رفع مستوى تنشيط الجهاز العصبي مما يسهل عمليات معالجة المعلومات واكتسابها و بالتالي تسهيل وظائف التذكر و الذاكرة . أما بالنسبة للتكوين الشبكي التثبيطي فمشاركته في وظائف النوم و الحلم فإن له دورا فعالا في ميكانيزمات ترسيخ المعلومات المكتسبة خلال النهار . ولقد أكدت التجارب التي حاولت الوقوف على العلاقة الموجودة بين الذاكرة و النوم و الحلم دور هذه الجهة في ترسيخ المعلومات المكتسبة .
هناك كذلك المخيخ ( انظر الرسم رقم 7 ) وهو جهاز يشبه "الكرومب" ووظيفته الأساسية هي التحكم في الحركة تحت قيادة الجهاز العصبي المركزي وخاصة القشرة الدماغية . ويشكل المخيخ جهازا متميزا حيث إنه يحتضن الذاكرة الآلية الخاصة بالحركة و المنعكسات الشرطية . و أظهرت دراسات حديثة أن له دور في وظائف تذكرية أخرى .
·         الذاكرة بين استرجاع المعلومات ونسيانها :
تبين جل المعطيات التي قدمناها أعلاه أن الذاكرة هي في الواقع ظاهرة ووظيفة عليا أعقد مما قد يتصوره الباحث ، حتى بالنسبة لذلك الذي مارس البحث لمدة تفوق عقودا من الزمن . إذن ، يمكن الاعتراف بأن الذاكرة من أخطر الظواهر النفسية و الوظائف العصبية ؛ و بأنها تستلزم ميكانزمات وسيرورات مختلفة وجد معقدة ، و بالتالي لا يمكن الإحاطة بكل مكوناتها الحيوية و النفسية إلا عن طريق اعتبارها ظاهرة متعددة الجوانب و الأنساق و السجلات . ولهذا ومن باب المسموح به في إطار التناوب العلمي للظواهر المعقدة كمثل الذاكرة ، علينا أن نقتصر على استقراء الاستنتاجات التي تفسر و تؤول علاقة الظاهرة بميدان معرفي معين و بالتالي التي تعمق فهم و إدراك الدلالة الوظيفية التي تبين أهمية الظاهرة خاصة بالنسبة لميادين الحياة المعرفي الخاصة بالإنسان و الحيوان . وانطلاقا من هذا المنظور ننتقي الحديث عن الذاكرة الانسانية و التطبيقات الممكنة في مجال معالجة المعلومات وبناء المعرفة وعمليات ترسيخ الخبرات وصقل الكفايات .
اعتبرنا أعلاه أن الذاكرة من أخطر الظواهر التي لها علاقة وطيدة بالدماغ ، و المعطيات الفيزيوكهربائية و العصبكميائية و العصبتشريحية التي توصل إليها البحث العلمي تثبت ذلك . فالخطورة تكمن في طبيعة الميكنيزمات و الآليات و السيرورات الكامنة وراء ذاكرتنا . حيث يمكن أن نعترف بأنها من أعقد الأنشطة العصبية ، ليس فقط في كونها تمكننا من اكتساب المعلومات و المعارف و استرجاعها و استغلالها و توظيفها في حياتنا اليومية ؛ بل تكمن ، خاصة ، في كل ما يحدد ماهية التفاعلات المجسدة و المشكلة لكل ما هو مادي ومجرد في بنية ذاكرتنا . ويجب الاعتراف بأننا نلج مجالا فلسفيا من أصعب المجالات الفكرية ويتعلق الأمر بماهية الذاكرة و الوظائف العليا ، عضوية أو سيكولوجية ، التي تشكل المواد الخام لبنية التذكر . يمكن محاولة تقريب بدل توضيح ذلك من خلال السؤالين التاليين :
1.       كيف تتمكن مواد كيميائية و أنشطة كهروفيزيولوجية من توليد نشاط معلوماتي تذكري له دلالة سيكولوجية وتواصلية بأجهزة عصبية معينة إنسانية أو حيوانية ؟ سؤال من هذا القبيل يدفعنا إلى اقتحام ميدان تخزين المعلومات من طرف الحاسوب ، لكن المقارنة تبقى بعيدة كل البعد عن إدراك الحقيقة لأننا نتحدث عن التخزين ليس عن النظامين أو "العضوين" ، الدماغ عضو و الحاسوب آلة !
2.       مَنْ مِنْ المعلومات أو المواد و الميكنيزمات العصبية يشكل ويجسد الآخر ؟
يجب الاعتراف بأن الإجابة عن هذين السؤالين هي من الصعوبة بمكان . أولا ، لأننا سنغامر في مجالات معرفي وفكرية تحاول الوقوف على العلاقة الموجودة بينة ماهو سيكولوجي وما هو عضوي . ثانيا ، يستعصي علينا في الوقت الراهن بلورة وبناء أفكار تقربنا فعلا من الحقيقة ما هي العلاقات الترابطية المحددة لميكانزمات ظاهرة التذكر و الذاكرة و التي تجسد في السلوك الباطن ( استرجاع المعلومات باطنيا ) أو الظاهر ( توظيف المعلومات في عملية تواصلية كتابة أو شفويا(
لا تكمن الصعوبة هنا في دراسة ظاهرة التذكر ولكن في تفسير و تأويل ماهية العلاقة الموجودة بين ما هو عضوي و ما هو سيكولوجي الخاص بالذاكرة . و هذا لا يعيق البحث عن هذه الماهية ، خاصة إذا أضفنا إلى مجال بحثنا ظاهرة النسيان .
بالفعل ، كيفما كانت قوة ذاكرتنا فإننا نندهش في بعض الأحيان بنسيان بعض المعلومات ، خاصة في الفترات التي نكون فيها مرهقين أو نشعر بتعب كبير وكذلك مع تقدم السن أو نعيش حدثا مفزعا . وقد يكون اندهاشنا أكثر حين نكون في أشد الحاجة إلى المعلومات المنسية . وفي الحقيقة لابد من الرجوع بالذاكرة إلى تلك الحالات التي قد يعيشها الفرد حين يكون يتخبط في لحظة من أفزع لحظات حياته . فالتجارب اليومية تبين بوضوح أن الذاكرة فعلا من أهم الوظائف العليا ليس فقط عند الانسان بل كذلك عند الحيوان . و أهمية الذاكرة تظهر حين يحاول شخص معين أن يذكر رقم هاتف أو عنوان صديق وه في مأزق ببلد آخر فقد فيه كل ما يملك من نقود و أوراق تعريفه وجواز سفره . كم تزداد الحيرة ويشتد القلق وتكفهر الأمور إلى الدفع بالفرد إلى التوتر و الفزع و الهلع كلما تبين له أن المعلومات التي يرغب فيها هي مستعصية الظهور ورغم الجهود المبذولة و المحاولات المتكررة التي تتخذ سبلا عديدة لإبراز أي رقم أو كلمة أو رمز يمكنه من القبض عليها و تطويعها للسياق المعلوماتيinformationnel الذي يريد فيه توظيف الرقم المنسي أو ســرد العنوان المنقد . وقد يحدث به النسيان فزعا و تورات يمكن الاعتراف بأنه يكون في بعض الأحيان أقوى من الفزع و التوتر الذين يحدثهما فقدان النقود و أوراق التعريف . يعتبر النسيان في كثير من الحالات عدو للفرد ، وهذا ما يعبر عنه بالمقولة :
"خانتني الذاكرة" وسرعان ما تندثر كل التوترات الغريبة التي خلخلت كيان الفرد حينما يتمكن من استرجاع الرقم أو العنوان
إذن يبدو النسيان ظاهرة قد تكون في بعض الحالات من أفضع الظواهر الخاصة بمعالجات المعلومات ، ويمكن أن نتوقف عند ذلك من خلال ملامح الطلبة الذين يستعصي عنهم تذكر المعلومات الخاصة بسؤال معين في الامتحان وما يحدثه بهم من النسيان الآني و المؤقت وكيف تنشرح وجوههم كلما توصلوا إلى بعد جهد وعناء إلى تذكر المعلومات المعينة . نستعمل كلمتي الجهد و العناء للتعبير عن كل العمليات السيكولوجية التي يوظفها الطالب أو أي فرد لاسترجاع المعلومات ، وهي متنوعة و متعددة . نذكر على سبيل المثال اللجوء إلى توظيف المعلومات الخاصة بالمكان الذي تم فيه معالجة وحفظ المعلومات المعينة ...
إن اعتبار النسيان ظاهرة فظيعة هو اعتبار ينطلق من وجهة نظر الفرد الذي لا يستطيع تذكر معطيات لها دلالة مصيرية بالنسبة لحياته ومستقبله ؛ لكن بالنسبة لعلوم الأعصاب و العلوم النفسية فالنسيان ظاهرة أساسية لبنيات ووظائف الذاكرة . ويمكن إدراك وظيفة النسيان من خلال الصور التالية : لنعتبر نهر جاف في فصل الصيف ومع سقوط الأمطار يسترجع النهر كيانه وترجع الحياة إلى مجراها الطبيعي . وكلما طال هطول الأمطار كلما امتلأ النهر وازدادت قوة تدفق مياهه . و إذا ظلت الأمطار تتهاطل يخرج عن مجراه العادي ويتسرب إلى الأراضي المجاورة محدثا أضرارا بالبيئة المحيطة . ويمكن تحليل العلاقة الموجودة بين الذاكرة و النسيان انطلاقا من صورة هذا النوع من الأنهار . يمكن اعتبار مرحلة الجفاف تلك التي تمر منها ذاكرة الإنسان ابتداء من شهور قبل ولادته . ومع نموه وتزايد خبراته تتوسع ميادين معلوماته ومعارفه المختزنة إلى حد يصعب قياسها وتحديد حجمها . وبما أن الإنسان يعالج يوميا المعلومات المعالجة ، فمن المعقول أن نقبل أن تزايد المعلومات المعالجة وتخزينها يؤديا حتما تسرب المعلومات إلى وظائف و ظواهر أخرى لها علاقة بأنماط سلوكه مما يجعله في متاهة تفاعلية وسلوكية غير صائبة أو هادفة و متسمة بالعشوائية ، الشيء الذي يعيق حياته اليومية و التواصلية . ومما يعزز ما افترضناه هو المبدأ الأساسي الذي يميز الظواهر الحيوية و الوظائف العليا الخاصة بأنماط السلوك و الانفعال و التفاعل و العطفة و الوجدان ويمكن تعزيز الافتراض الذي مفاده نسبية الوظائف الخاصة باكتساب المعلومات و اختزانها . ومن هنا يمكن أن نعتبر أن هذه الوظائف لا يمكن أن تعرف الوجود الكلي أو الغير المحدد لطاقة استيعابها للمعلومات ، بل أنها تخضع إلى مبدأ النسبية . وهكذا يمكن أن نتصور أنه كمثل مياه النهر الفائض فإنه لو لم يكن لظاهرة النسيان دور في توازن الطاقة الاستيعابية و التخزينية لكان ا لجهاز العصبي يعاني من اضطرابات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تتداخل في كل الوظائف العليا وتتسرب إلى جل الميادين المعرفية حيث تجعل الفرد عاجزا كل العجز إن يتحكم في الميكانزمات و الآليات الشعورية المتخصصة في استرجاع وتوظيف و استغلال المعلومات بكيفية مضبوطة في معظم الحالات .
وبكيفية جد مقتضبة لابد من أن نشير إلى المعطى الأساسي و الذي مفاده أن لحد الآن ورغم بعض المعطيات النظرية (نظرية شانجو Changeux في الثمانينات و النظرية التي اقترحناها سنة 1986 و التي تفترض أن للنسيان دور حيويجيني خاص بصيانة الحياة العصبسيكولوجية) لا زلنا نجهل الميكانزمات و الآليات و السيرورات العصبحيوية التي يوظفها الجهاز العصبي في ظاهرة النسيان . هناك النسيان الشعوري و المعمد و النسيان لاشعوري . لكلا النوعين من النسيان وظيفة أو وظائف يعيرها التحليل النفسي و علم النفس المرضي و الإكلينيكي الاهتمام اللازم في إطار العلاج النفسي . أما بالنسبة للتحليل النفسي فقد يفترض دورا ديناميا للنسيان بحيث يعتبر أن الإنسان لا ينسى أي شيء ابتداء من طفولته المبكرة . وهذا ما يفسر بناء التحليل النفسي على العمليات النفسية الديناميكية التي تمكن الفرد من إبراز كل الذكريات المتعلقة بالماضي المؤلم و المسبب في الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الفرد .
و أخيرا يمكن افتراض أن ذاكرة الإنسان وجل الكائنات الحية لا يمكن أن تكون إلا بالنسيان و أن النسيان لها بمثابة ما هو الظلام للنور ، فلا ذاكرة إلا بالحديث عن النسيان و لا حديث عن النسيان إلا بالرجوع إلى الذاكرة .
 
·         خــاتــمــة :
 
هذا وتجدر الإشارة في نهاية هذا العمل إلى أن البحث في ميدان علوم الأعصاب و علم النفس التجريبي قد مكن من إبراز عدد هام من الميكانزمات و الآليات و السيرورات الكهروفيزيولوجية و العصبكيميائية و العصبتشريحية الكامنة وراء الوظائف الدماغية بمعالجة المعلومات و تخزينها و استرجاعها و استغلالها وفق مستلزمات السياق الماضي أو الآني أو المستقبلي وذلك على مستوى المعطيات الملموسة و الواقعية و المجردة . وتشكل جل هذه العمليات ماهية الذاكرة و التذكر . وقد حاولنا من خلال بعض المعطيات أن نبرز أن الذاكرة وظيفة عليا جد معقدة ومتعددة الميكانزمات و الآليات و السيرورات . و أن الدماغ ، وبعبارة أوسع الجهاز العصبي . بجهاته المختلفة ونواه المتشابكة وباحاته القشرية المحدودة ، ومشابكه المعقدة التشكلة ومسالكه و أنساقه الكثيفة ، يمكن الكائن الحي ، إنسانا أو حيوانا ، من بناء ذاكرة لازال العلم يجهل الكثير عن ماهيتها و مواطنها العصبجزئية (neuromoléculaires ) ووظائفها التذكرية وخاصة علاقتها بظاهرة النسيان . و النسيان يشكل تلك الظاهرة التي يتحدث عنها كل إنسان دون أن يستطيع أن يفسر ماهيتها ومغزاها ، ويكتفي بإدراجها في أحاديثه الخاصة و العامة : " الزمان يساعد على النسيان " . هل ننسى فعلا ؟ المهم في الأمر ، على الأقل ، هو أننا لا نستطيع استرجاع بعض المعلومات شعوريا . وهذا يدفعنا إلى افتراض أخير مفاده أن ما تبقى جهله عن الذاكرة يزيد الباحث حماسا . و التقدم الحاصل في عدد من ميادين علم الأعصاب و خاصة الميدان العصبجيني سيسمح في المستقبل العاجل أو الآجل بتمحيص فرضيات تمكن الدماغ الباحث من حل رموز إضافية لذاكرته و ذاكرة الكائنات المصاحبة له في هذا الكون . أسنا نعرف بأن للفيلة ذاكرة خارقة وذلك كلما عمدنا إلى أن نشابه ذاكرة شخص معين بذاكرة الفيل
 
للدكتور أحمد أوزي

المصدر : مجلة المدرس