الخير المتعدي

 

في يوم من الأيام استمعت إلى حكمة قالها أحد الناس حيث قال لي: إن الشخص الذكي هو الذي ينشىء مشروعاً يدر عليه الربح دون أن يوجد فيه بشكل دائم ومستمر، وهاكم مثلاً لهذه الفكرة: هناك طبيبان أحدهما ليس له إلا عيادته الخاصة يمارس فيها مهنته. والآخر له أيضاً عيادته، ولكنه مساهم في مستشفى طبي ناجح، إن وضع الأول يحتم عليه الحضور الدائم والمستمر إلى عيادته لأنها مصدر رزقه – بإذن الله – الوحيد واليوم الذي سيقعده فيه مرض عن عيادته سيفكر فيه وفي تداعياته عليه وعلى عياله أكثر من الطبيب الثاني الذي ساهم في مشروع يربح منه، وهو ليس بالضرورة موجوداً ومستهلكاً فيه، كذلك العمل الصالح هناك بعض الأعمال التي لابد أن يقوم بها الشخص بنفسه وبكليته أقصد بنفسيته وعقليته وجسده جميعاً. حتى يحصل على ثوابها كالصلاة مثلاً.



 

وهناك بعض الأعمال التي من الممكن ألا تستدعي كل هذا الحضور المكثف للنفس وتكون كالمستشفى الاستثماري الناجح الذي يدر على المساهم فيه ربحاً، وهو في بيته كالصدقة والإنفاق في سبيل الله، إن الصدقة والإنفاق في سبيل الله من الأعمال متعدية الخير، فالمتصدق يحصل على الثواب من الله، والمتصدق عليه تفرج كربته وييسر حاله، فالفائدة هنا متعدية، وهذا مختلف – بشكل – عن فريضة الحج مثلاً، إذ أن خيرها تجاوزاً – مقصور على من أداها ونال ثوبها، نريد أن نكون أذكياء، وأن نركز على مثل هذه الأعمال متعدية الخير التي تدر الثواب بصفة مستمرة على أحدنا دون جهده الجسدي الدائم، نريد أن نركز على التصدق والإنفاق في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله يحتاج إلى يقين وثقة في الله لأنه أصعب على النفس، فالنفس الإنسانية مجبولة على البخل، قال تعالى "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" التغابن: 16.

 

واليقين والثقة بالله يهديان بالتعرف على وعده ووعيده من القرآن الكريم الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" سبأ: 39، لابد أن يكون عندنا يقين في أن الله تعالى يخلف على أحدنا ما أنفقه ويرده له قبل أن يثنيه عليه في الآخرة، إن الحديث الشريف يظهر هذه الحقيقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقه وما زاد الله عبداً إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل". وفي الحديث المتفق عليه " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم اعط ممسكاً تلفاً" إن الذي يمسك ماله ولا ينفقه في سبيل الله ولا يؤدي فيه حق الله – من منظور الإيمان - لا يكثر ماله إنما يبعثره ويضيعه، إن أحدنا بتصدقه وإخلاص نيته لله فيه يوسع على نفسه بالذي وبما يذهله يوم القيامة، خصوصاً إذا كانت صدقته هذه صدقة جارية خيرها متجدد مستمر.

 

ما رأيكم فيمن يتصدق بمال يشتري به مثلاً جهاز غسيل الكلى يعالج به مرضى الفشل الكلوي، إن كل مريض ينتفع منه إلى قيام الساعة له أجره وثوابه ودعاؤه ولا يظن ظان أن باب التصدق مقصور على الأغنياء فقط، أبداً من الممكن للمعدم أن يتصدق أيضاً ويحظى بثواب لا يعلم قدره إلا الله، كيف؟ يتصدق بدمه، إن الفقير الصحيح الذي يتصدق بدمه لإخوانه المحتاجين لدمه يتصدق بأغلى ما يمتلك، والله لا يجازي الإحسان إلا بإحسان يليق بكرمه وجوده، قال الله سبحانه وتعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" الرحمن: 60. إن الله تعالى لا يغيب عنه شىء صغر أم كبر، قال تعالى: "عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (3) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4)" سبأ. إن الله لا يكلف أحداً فوق طاقته لا في إنفاق ولا في غيره، فهو الذي قال سبحانه: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" البقرة 185.


إنما يفتح الباب لمن أراد أن يتقرب إليه ويجعل لنفسه مكاناً عنده سبحانه، ثم الناس بعد ذلك على قدر رغبتهم فيما عند الله وقدرتهم عليه، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ورب صدقة صغيرة أداها صاحبها من كسب طيب وبإخلاص تزن عند الله ما لا تزنه الجبال، قال صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبال" ألهمنا الله وإياكم فعل الخيرات وبارك لنا فيها وفي ثوابها إنه نعم المولى ونعم النصير. والجبال كما نرى ونعلم مختلفة الأحجام قال تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم" البقرة: 261.

 

المهم أن يكون هذا الإنفاق خالصاً لوجه الله كما قال تعالى عن الأبرار الذين يقصدونه: "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً" الإنسان 8-9. وألا يكون بعده أو فيه منٌّ ولا أذى، قال تعالى: "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" البقرة: 262. إن الإنفاق في سبيل الله مثال واضح للخير المتعدي الذي يسعف صاحبه في كل وقت وحين، وفي حياته الدنيا وفي آخرته، ففي الحياة الدنيا بالتوسعة عليه، وعلى عياله، وفي آخرته برفعة درجاته، لأن الذي يسبل شيئاً لله "يجعله في سبيله" لا يزال ثواب تسبيله يأتيه حتى وهو في قبره، فيطفئ عليه حر القبور، ويخفف عليه من فتنته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقه جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" نحن نحتاج أن نركز في مثل هذه الأعمال والإنفاق ويا حبذا لو كان هذا الإنفاق مما نحب. قال تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم" آل عمران 92، إن الموضوع يستحق التدريب عليه، حتى تنال به وعد الله تعالى.


إن أبا طلحة الأنصاري كانت له حديقة تسمى البيرحاء وكانت أحب أمواله إليه، وكانت قرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها يستظل بظلها ويشرب من مائها، فلما نزل قوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون". قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو يقول الله تعالى "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال له أبو طلحة: إن البيرحاء صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نح نح، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين، إنه رضي الله عن أهل القرآن الذين كانوا يعملون بما فيه، وجعل الله لنا فيهم الأسوة الحسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

كتبه أ.عمرو خالد مجلة المرأة اليوم بتاريخ 30 نوفمبر 2004