الخجل وسبل علاجه

 

النمو الطبيعي السليم لشخصية كل إنسان يقتضي استثمار الطاقات الخلاقة التي حباه الله عز وجل بها ، لكن قد يعرقل النمو جهل بهذه القدرات أو بعض الاضطرابات  النفسية كالخجل. هذه الاضطرابات يحملها الخجول منذ طفولته و هي التي تعرقل تواصله في مختلف علاقاته الاجتماعية . الحاجة إلى العلاقات الإنسانية تنمو عند الخجول كما تنمو عند الإنسان العادي و لها أهمية عظمى في التأثير على الحالة النفسية للفرد.

 

تؤكد الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية أن عدد الأفراد الذين يعانون من الخجل هو في تزايد كبير نظرا للتحولات التي نشهدها على الصعيد الاجتماعي ومن أهمها ازدياد الفردية وتقلص الجوانب الاجتماعية.  وبالتالي جدير بنا الاهتمام بدراسة هذا الجانب من سمات الشخصية بهدف فهم الإنسان الخجول و التعامل معه بطريقة مختلفة. وبهدف مساعدته على التخلص من العوامل التي تسبب له معاناة نفسية قد تؤدي به  إلى إحباط وبؤس وتعاسة .



 

تعريف الخجل:

 لم تتوصل الدراسات النفسية لتعريف محدد للخجل رغم الأبحاث الأخيرة المتزايدة والتي توليه اهتماما بالغا ، لكن نكتفي بتعريف يتفق عليه أغلبية علماء النفس وهو أن الخجل نوع من" القلق الاجتماعي " ( COTTRAUX  ) والذي يتصف بنقص في الجرأة و في قوة القرار وفي تقدير الذات ، وحين نقول بأن الفرد خجول يكون الخجل ملمحا رئيسيا من شخصيته.

 

الخجل : مشاعر وسلوكيات سلبية  :

 

يعرض الباحث  راي كروزير في كتابه " الخجل " وصفا لإحدى السيدات عن ما ينتابها من خجل في حال وجودها مع مجموعة أفراد غير غريبين عنها فتقول: "أشعر بأنني لست على ما يرام، وأعتقد أنني من الضآلة والتفاهة بحيث لا أستطيع أن أقول أي شيء يمكن أن يلقي أدنى اهتمام من هؤلاء الآخرين، وأشعر بالعجز والارتباك كأنني غريبة عن هذا المكان حتى لو كنا جميعا معا، بحكم أننا أعضاء في النادي ذاته. وإذا سألني أحدهم عن أي شيء أشعر بالقلق والتوتر الشديد، ولا أعرف كيف أو بماذا أرد، ويصاحب ذلك شعور بالسخونة تسري في جسدي ويحمر وجهي.لقد حاولت ألا أكون كذلك، وأن أفعل أي شيء آخر غير هذا الذي يحدث لي ، ولكنني لم أستطع سوى الهروب والابتعاد عن الجماعة. وهذا الارتباك والخجل لا يحدث لي أبدا عندما أكون مع أي فرد من تلك الجماعة على حدة، بل فقط عندما أكون مع الجماعة."

  

إن من  المشاعر والسلوكيات المتكررة لدى الخجول أنه في أغلب الأحيان إنسان يقلل من قدر نفسه، ويعتقد أنه أقل من الآخرين، يشعر بالخوف والضيق والحرج في مواقف حياتية يكون فيها محل اهتمام أو ملاحظة الآخرين كما يميل إلى الصمت بل ينبذ التعبير عن رأيه وسط مجموعة من الأشخاص ، ويفضل الانزواء والعزلة ، وفي كلمات هذه السيدة تعبير واضح عن هذه المشاعر والسلوكيات السلبية التي تولي اهتماما بالغا بنظرة الآخرين وبتقييمهم وأحكامهم عنها فينتج عن ذلك  انشغال مركز بالذات يبعد الإنسان الخجول عن الإنصات للآخرين والتواصل معهم بكيفية سليمة، فيولد فيه الحاجة إلى الهروب.

كما نشير إلى أن بعض الخجولين رغم أنهم ينوون ما سوف يقومون به من أفعال لتفادي الخجل في مواقفهم الحياتية فإنه يصعب عليهم الانتقال من النية إلى الفعل، كحال هذه السيدة التي تقول أنها حاولت أن لا تكون كذلك.

 

وهناك من الخجولين من يفرطون في تعويض هذا النقص بعدوانية أو ردود فعل دفاعية أكثر منها توافقية الشيء الذي يترك انطباعا سلبيا لدى الآخرين أنهم أشخاص باردين غير جذابين، مغرورين أو متكبرين، يقول الفيلسوف L.DUGAS أن «الخجل هو العجز عن التعاطف مع الآخر" و الكاتب الروائي كوستانت يقدم وصفا جميلا للخجل: "لا أتذكر أن أبي تحدث معي مرة واحدة حديثا جادا مدة ساعة واحدة، وذلك خلال السنوات الثماني عشرة الأولى من عمري. وعلى الرغم من أن خطاباته لي كانت مفعمة بالمشاعر الدافئة الفياضة والنصائح الحانية، فإنه ما من مرة نلتقي وجها لوجه، إلا وأجده متحفظا صامتا، وكأنه غير عابئ بي، ولا يحمل لي إلا مشاعر باردة. وفي تلك السنوات لم أكن أعرف ما هو الخجل، ذلك الألم الداخلي الشديد الذي يطاردنا ويضايقنا بشدة حتى في سنوات العمر المتأخرة، ويأخذ مشاعرنا العميقة ليحطمها ثم يضعها مهشمة في قلوبنا، ويجعل الكلمات على شفاهنا باردة متجمدة، ويعوق أي شيء نحاول أن نقوله، ويتركنا عاجزين عن التعبير عن أنفسنا، لا نشعر إلا بالمرارة والسخرية، كل ما نريده هو أن نثأر من مشاعرنا المؤلمة التي نعجز حتى عن التعبير عنها. لم أكن أدرك أن والدي يعاني الخجل حتى مع ابنه، وبعد أن ظل والدي سنوات طوالا ينتظر مني أن أبدي أي مشاعر دافئة نحوه، منعني عنها ما يبدو لي من مشاعره الباردة نحوي، تركني والدموع تملأ عينيه، متذمرا شاكيا، متهما إياي بأنني لا أحبه" (Constant , 1816 ;1964,PP.37-38).

 

 يقول الكاتب راي كروزير أن هذا " الوصف الذي قدمه كوستانت يكشف عما يمكن أن نسميه درجة حرارة العلاقات الاجتماعية، فكلمات الشخص الخجول متجمدة لا دفئ فيها ، وسلوكه بارد ومشاعره فاترة. وأعتقد أن مفهوم" درجة الحرارة" ملائم للتعبير مجازا عن العناصر الأساسية للخجل، ذلك لأن الصمت وقلة الكلام والارتباك تؤدي بالفرد الخجول إلى" التجمد" وعدم القدرة على فعل أي شيء. ومعنى ذلك أن تحفظ الشخص الخجول هو الذي يعطي الآخرين انطباعا بأنه شخص بارد المشاعر ولا يهتم بهم وينفر منهم."

 

الخجل وتقدير الذات :

 

 مفهوم "الذات " أخذ حيزا كبيرا في الأبحاث والنظريات النفسية نظرا لأهميتها ، وأبرز النظريات الحديثة التي اهتمت بدراسة الذات هي نظرية كارل روجرز"، يقول الدكتور هيثم راشد الريموني في كتابه :" أثر البرامج التدريبية لذوي صعوبات التعلم "أن هذه النظرية " تنظر إلى الذات على أنها كينونة الفرد التي تنمو وتنفصل تدريجيا عن المجال الإدراكي، وتتكون بنية الذات نتيجة للتفاعل مع البيئة. وتنمو ذات الفرد من خلال خبراته الأولى المبكرة بمرحلة الطفولة وتتكون نتيجة علاقاته مع المحيطين به ، فتمتص ذاته التراث القيمي من الآخرين، " وبالنسبة لروجرز النمو السليم للذات أو للشخصية ينبني على ثلاث نقاط بالغة الأهمية وأولها "النظرة الإيجابية"" le regard positif" التي تنبثق من المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، يعني أن الإنسان بطبيعته الاجتماعية يبحث عن اعتراف بكينونته بأفكاره وسلوكياته، وهذا يبدأ من السنوات الأولى للطفل وهنا منبع تقدير الذات الإيجابي.

 

 

ومع علمنا أن  الخجل هو شيء وراثي فهو كما رأينا  في نفس الوقت مكتسب، وبالتالي تشكل التربية عنصرا هاما في تشكيله ، فجل الأبحاث النفسية التي اهتمت بدراسة مفاهيم الأطفال في تقدير الذات بينت أن تكوين النظرة على الذات هي عملية متصلة بالعالم الاجتماعي للطفل أي بالعلاقات التي يربطها بالمحيطين به والراعين له، وإذا كان هناك نقص في تقدير الذات فله علاقة بنقص في تشجيع ومساندة الوالدين للطفل في مراحل طفولته، وفي كثير من الأحيان يكفي أن نوجه عتابا للطفل عن عيب خلقي أو خلقي كي يشعر أنه ليس كالآخرين ، أما إذا كان الطفل يلاقي دعما وتشجيعا وبالتالي علاقاته الاجتماعية مشبعة فسيكون أكثر قدرة على التكيف والتوافق مع مختلف المواقف الاجتماعية وأكثر قوة في إدارتها.

 

 استنادا على ما سبق ذكره نلاحظ أن الفرد الذي يعاني من الخجل يتصف بعمليات تفكير ونظرة على الذات  تساهم في ارتقاء واستمرار الخجل في شخصيته ، فبالتالي هو في حاجة إلى إعادة بناء معرفي "restructuration cognitive  " ( Beck ) يخول له التفكير بطريقة إيجابية وفي حاجة أيضا إلى ممارسات عملية كالتدريب على مهارات اجتماعية الهدف منه هو اكتساب ما يسمى ب "اللياقة الاجتماعية " وشخصية إيجابية خلاقة ومبدعة وتحقيق توازن عاطفي وانفعالي.

 

  

 خطوات تساعد على علاج الخجل:

 

1-    اعلم بأنه ليس مهما أن يحمل الفرد سمات من شخصية الخجول بقدر ما هو مهم كيف يديرها وكيف يعيشها في شخصيته.

2-    الكبت الاجتماعي ينتج عن الخوف من النقد ومن الأحكام وبالتالي من أن لا يكون الإنسان محبوبا... قلل إذن من حساسيتك  لنظرة الناس لك لأنها تعيق من تقديرك لذاتك وتجعلك غير قادر على استقلالك وتشل مواهبك.

3-    لا تبحث عن الإتقان في أي شيء إذا كان هو حالك فأنت تخاف أن تخيب آمال الآخرين، ولن تأخذ الكلمة إلا إذا كان لديك في ما ستقوله شيء جيد ولكن حذار هذه الطريقة تنقص من الثقة بالنفس لأن الإنسان يخرج دائما مخيب لآمال نفسه. أعط إذن لنفسك الحق في الخطأ لكي تصل إلى الإتقان وهناك مراحل وتدرج لكي يتم التعلم.

4-    حاول أن تتقبل ملاحظة ونقد الآخرين بصدر رحب بل استثمر ذلك النقد لتقوية شخصيتك.

5-    لا تستهن بالتواصل غير اللفظي فمحمود التعرف عليه في شخصيتك لأنك تمرر رسائل من حركاتك ونبرات صوتك وتعبيرات وجهك: احمرار، نظرات...تكلم بصوت يعينك على فرض نفسك عوض الصوت الحاني جدا...

6-    لا تتجنب النظر في عيون الآخرين وإذا شعرت بالخوف فحاول استبداله بسلوك: تكلم، اقترب منهم، بادر أنت، ولا تنتظر أن يأتون إليك، فقط اعمل على اختيار اللحظة المناسبة، وكن طبيعيا وتلقائيا ولا تتصنع.

7-    اعلم أن أغلب الناس يشعرون بالخوف أو بالانفعال مع الآخرين لأول مرة ...

8-    حاول أن تلزم نفسك على خلق اتصالات عوض تجنبها.

9-    ضع نفسك في سياقات أخرى.

10-           لا تتردد في خلق علاقات واكتشاف أوساط وتجارب جديدة .

11-           اعمل في الأول على اختيار رفقاء يتميزون بحسن المعاشرة ويبتعدون عن النقد غير البناء والتهكم .

12-           حاول أن تتميز بحوار داخلي إيجابي واعمل على تكرار العبارات التي من شأنها أن تؤثر إيجابا مثل" أنا قوي" " أنا أستحق النجاح" " أنا لي مهارات " تدفعك أو تشحنك إلى أن تبدأ بالتطبيق.

13-           من الصعب أن تواجه نظرة الآخرين لك إن لم تستطع مواجهة نظرتك لنفسك. واعلم أن  كثيرا من الناس في التاريخ برزوا وكانوا يعانون من الخجل: منهم نابليون .

14-           لاحظ الأشخاص المتفوقين والذين لهم تقدير كاف للذات والذين يتمتعون بثقة في النفس كافية..لا تحاول تقليدهم بل لاحظ مواقفهم وسلوكياتهم واستراتيجياتهم واستفد منها.

15-           بالتدرج ستتعلم كيف تتأقلم مع سياقات وبيئات جديدة.

16-           اختر أهدافا تستطيع تحقيقها، قسم هدفك إلى مراحل فالنجاح في تجاوز المراحل يساعدك على تحقيق ما تبتغيه لكن شرط أن تبقى في حدود المعقول.

17-           كن واقعيا، هذه من مفاتيح الثقة بالنفس: تعرف على نقاط قوتك، قدراتك ونقاط ضعفك....

18-           تعرف على أخطائك لكي تعدلها، أي قيم خبراتك السلبية أو إخفاقاتك في التواصل مع ذاتك ومع الآخرين في كل مجالات حياتك : الدراسية والعملية والأسرية......

19-           داوم على ممارسة الاسترخاء الذي يساعد على تبديد الأعراض الناتجة عن مواقف الخجل من ضيق تنفس واحمرار وجه وارتعاش أطراف..وكذلك طرق التنفس السليم لتنشيط الدماغ وتغذيته.

 

مراجع :

 

- راي كروزيز( 2001) .الخجل . ترجمة : أ.د.معتز سيد عبد الله .عالم المعرفة .مارس 2009.

- د.هيثم يوسف راشد الريموني ( 2008) .أثر البرامج التدريبية لذوي صعوبات التعلم ( في الإنجاز الدراسي ومفهوم الذات ) دار الحامد.

 

Dr. Jean COTTRAUX (2001) .Les thérapies cognitives. RETZ

Michel HANSENNE. (2003) Psychologie de la personnalité. De .Boeck 

http://www.francois-sittler.fr/pdf/timidite/Dugas.pdf