الحلقة 6: التكوين القيادي...

حين نتحدث عن التكوين القيادي والإشارات والدلالات في السيرة، نحاذر من التبسيط الذي سببته مقاربات كثيرة في هذا السياق، لتحميل السيرة ما لا تطيق من دلالات واحتمالات، فهناك من يصل إلى نتيجة أن الإسلام وصل لجذور التكوين القيادي قبل الأمم الأخرى، وفي ذلك من المبالغات ما فيه، فغاية ما نستطيع القول به دون مجازفة أن بيئة الرسول والعناية الربانية هيئت له الأسباب دون تخطيط منه ولا نية، وإنها تمت في حدود طبيعة الزمان والمكان ونوعية الحياة في عصره عليه الصلاة والسلام. لا تعطينا السيرة المحفوظة بالسند الصحيح، مادة مبسوطة لأربعين سنة من عمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأمر أراده الله، ولكن يمكن استكشاف بعض الأوجه المفيدة في التكوين القيادي للرسول صلى الله عليه وسلم من خلال معطيات المكان والزمان كما تم شرحه في الحلقات السابقة وكما أفادتنا المعلومات الصحيحة المطروحة عن مرحلة ما قبل الوحي.



 

1.     خاصية التفكر والتأمل (صفة الصمت والعزلة الاختيارية)، ففكرة الخروج من المحيط والانقطاع شهراً كل سنة بعيداً عن صخب الحياة والتأمل في الكون وفي الخلق ومراجعة المشهد الكلي لهذه الحياة؛ تكاد تتكرر في حياة عدد كبير من قادة الإنسانية، وهي بنسبة من النسب لا بد من توفرها في القادة، فحين لا يمتلك القائد تلك القدرة على مراجعة الذات يفتقد تلك البصيرة التي يحتاجها التجديد. وكلما غرق في التفصيلات وضاعت الصورة الكبيرة كلما انحدر الأداء وانحرفت المسيرة.

 

2.     نزعة الأخلاقية والسلوكية العميقة (انظر وصفه بالأمين)، فالاستقامة الخلقية شرط من شروط قيادة الأمم والحضارات وخاصة في فجر انطلاقها وفي المشاريع ذات الطابع القيمي. وهذا لا يقتصر على الإسلام؛ بل أمر تقدره كل الحضارات وتشيد به، وحين يُذكر بناة الحضارات العالية يذكر منهم القادة الذين كانوا بشكل ما قدوات في الاستقامة والتجرد، انظر كم تحترم البشرية نماذج مثل غاندي ومانديلا ..وغيرهم ، وما ذلك إلا للنزوع التجردي عند هذه الشخصيات.

 

3.     القدرة على الاختيار الذاتي، وعدم الوقوع تحت دائرة الإكراهات الاجتماعية. وقد جاء القرآن ليقدم لنا منظومة لإصلاح التفكير، وليهاجم بشدة مبدأ "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، وقدم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته نموذجاً لعدم الانسياق وراء العادات والتقاليد. فشخص ابتعد بنفسه وبأخلاقه عن ممارسات مجتمعه الخاطئة وانتقى أحسنها لهو ممثل عظيم لنقيض فكرة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".

 

4.     القرب من موقع اتخاذ القرار السياسي لفترة طويلة (بحكم التكوين العائلي). لقد رتبت العناية الإلهية للرسول موقعاً عائلياً يسمح له بالتواصل مع صناعة القرار السياسي وضغوطه وما يحيط به من شد وجذب. فالقرارات في مكة تُصنع في دار الندوة، وهو قد تربى في بيت مشترك في القرار السياسي ومطلع عليه منذ نعومة أظفاره، سواء في كنف جده أم في كنف عمه.

 

5.     معرفة طبيعة الحرب) معاينة عبر حضور حرب الفجار، ومما يتناقله العرب في بيئتهم العسكرية، وذاكرتهم التاريخية)...إن الاقتراب من ساحة الحرب بمعناها الحرفي يعطي خبرات عميقة، ويولد مفاهيم وتصورات عن حسابات الحرب وتكاليفها وتوابعها، وقد حضر الرسول حرب الفجار، فشهد الهزيمة وآثارها والنصر وآثاره وتحركات تطويق الحرب وآليات تسكينها والتسويات التابعة لها، وهي تجربة قد لا تتوفر لكل من يطمح في قيادة أمة ما، كما كانت البيئة العربية في حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام ميدان خصب لأخبار الحروب والغارات وقصص النصر والهزيمة، كما لا يخفى على من يعرف بيئة الجزيرة العربية.

 

6.     معرفة طبيعة التحالفات الإنسانية النزعة وغيرها (معاينة عبر حضور حلف الفضول، ومما يتناقله العرب في بيئتهم القبلية، وذاكرتهم التاريخية)، وحلف الفضول هو أحد إفرازات حرب الفجار، وهو دعوة لقيمة عليا، قال عنها الرسول " لقد شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي به حمر النعم، وأني أنكثه"، وهو حلف يدعو لوقف الظلم بين البشر. وفيه إشارة لأهمية أي نوع من المعاهدات الإنسانية التي تدعو لوقف الظلم بين البشر.

 

7.     معرفة طبيعة التحكيم والمرور بالخبرة العملية) معاينة في موقف وضع الحجر الأسود، ومما يتناقله العرب في بيئتهم القبلية، وذاكرتهم التاريخية). فقضايا التحكيم وفض المنازعات والتوفيق بين الرؤى المختلفة وإيجاد الحلول الإبداعية؛ واحدة من أهم الميزات القيادية، ولا شك أن البيئة المكية قد وفرت للرسول الكثير من المشاهد التي رأى فيها مثل هذه المواقف وعاينها بسبب طبيعة قربه من مواقع اتخاذ القرار في بيئة أشبه بالإمارة، ولا شك أن هذه البيئة كان فيها الكثير من المرويات الطبيعية عن قضايا التحكيم الناجحة والمفصل بين المختلفين، ولكن المرور بالخبرة العملية شئ آخر.

 

8.     معرفة طبيعة إدارة شبه إمارة) عبر المعاينة بحكم الموقع العائلي والخبرة المختزنة في الذاكرة الجمعية للعائلة)، وفي المجمل كانت شبه إمارة مكة وتنظيماتها بيئة خصبه لمعاينة مستوى من القيادة ذو سقف متفوق على إدارة مجرد قبيلة. وكلما كان السقف الثقافي للقائد متفوقا على الأتباع كلما كانت فرصة النجاح أكبر .

 

9.     معرفة طبيعة الحياة العملية )حياة اليتم – حياة الرعي والدخل الشحيح – حياة التجارة – الحياة الزوجية - حياة اليسر). ومن ألطاف الله عز وجل أن نشأ الرسول في أوضاع بالغة التعقيد، ورأى الحياة من مختلف جوانبها بعسرها ويسرها وحلوها ومرها، مما يولد في النفس مشاعر اتجاه المحرومين وتعاطفاً معهم وليناً ورحمة تهيئ الإنسان لرعاية مجتمع كامل يعرف احتياجات أدناه وأعلاه. فحياة اليتم تختلف عن حياة وجود الأبوين، وحياة الراعي والفاقة تختلف عن حياة التاجر وترقبه للربح والخسارة، وتختلف عن حياة الوفرة.

 

10. تعَرُّف مجتمعه على حياته (أنظر وصف بالأمين )، وسلوكه (انظر وصف خديجة له)، وكلما كانت حياة القائد صفحة مفتوحة مشرقة أمام من يخاطبهم؛ كان ذلك أعمق دلالة في الصدق ومخاطبة الضمير الجمعي للمخاطبين. ولا بد ان ننبه أن هذه المؤشرات ليست ديناً بالمعنى الحرفي ليتم التعاطي معها بمنطق "هذا ما جاء في السيرة وهذا ما سنطبقه" ؛ بل هي هدايات عامة يمكن الزيادة عليها والنقصان والتقديم والتأخير، وعصرنا اليوم يقدم منهجيات تحول الدلالات العامة إلى آليات عمل وبرامج تدريب، والحكمة ضالة المؤمن. فوجود الإشارات شئ وتحويلها إلى برامج عملية والاستفادة منها شئ آخر، وذلك أمر مطرد يجب التنبه له عند أية مقاربة. وغاية ما يقدمه لنا هذا النموذج هو جملة مفادها (أن قيادة الأمم تحتاج إلى إعداد مكافئ للمهمة كماً ونوعاً). فإن كانت المهمة جوهرها سياسي فهي تحتاج إلى معرفة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع في الحد الأدنى، وإن كانت دون ذلك فدون ذلك، فالإعداد لابد أن يكافئ المهمة.

 

وعند تجريد المشهد من الخصوصية الاسلامية:

فإعداد القادة على مستوى الحراك الاجتماعي النهضوي يحتاج إلى: التفكير التأملي كشرط للقيادة - الأخلاق التي تدعو للإتباع – القدرة على المفاضلة بين الخيارات – الوعي السياسي- الإلمام بموضوع الحرب والسلم – المعرفة بطبيعة العمل السياسي كوسيلة اتصالية وتفاوضية– تميز القائد بسقف ثقافي أعلى من البيئة – معرفة مجتمعه وما يحيط به.

وبالعودة لواقعنا المعاش يمكن استخدام كل ذلك كمؤشر على فرص نجاح القيادة للمجتمعات وبالتالي يتحدد ما نراعيه من شروط عند التصدير القيادي فلا تضطرب الموازين وتتحول لنوع من الغيبوبة العقلية التي تضع الامر في غير اهله .وعندها تحل النكبات بالمجتمعات والامم .