الحلقة 3: استنتاجات شائعة من السيرة...

بعد أن تعرضنا لنظرات حول منهج دراسة السيرة، والضوابط التي نراها مهمة حتى تصبح السيرة أداة فعالة لدى الشاب المسلم؛ سنتناول بعض نماذج من الاستنتاجات التي شاعت في مرحلة الصحوة جراء دراسة السيرة، وكان لها تأثير كبير على العمل الإسلامي في تلك المرحلة.



 

المرحلة السرية: "علينا أن نتخفى ولا نجهر بالدعوة، فالمرحلة السرية جزء من المنهج النبوي"

شاعت في مرحلة الصحوة فكرة السرية على اعتبارها منهجاً نبوياً، فالدعوة بدأت سراً، ثم انتقلت لمرحلة العلانية، ولنتأمل ما كتبه المؤرخ والمفكر الإسلامي عماد الدين خليل عن المرحلة السرية في كتابه دراسة في السيرة " وقد أمر الرسول أتباعه بالتزام الحيطة والحذر والتخفي وعدم الإعلان …" ويذكر قصصاً مع ذكر المصدر وهو جواد علي وسيرة ابن هشام …والمفارقة هنا أنه لا يصح بمنهج المحدثين أياً من هذه الروايات، فإبراهيم العلي في كتابه صحيح السيرة لم يجد ما يعتد به ليدرجه في هذه المرحلة فاكتفى بتجاوزها، وكذلك الدكتور أكرم العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة والذي نقل تحديد ابن اسحاق والواقدي هذه المرحلة بثلاث سنوات بينما حددها البلاذري بأربع سنوات، وهمش على موضوع الثلاث سنوات من سيرة ابن هشام بدون إسناد، وأنه قد أورده ابن سعد في طبقاته من طريق الواقدي وهو متروك وشيخه مجهول ومدة الأربع سنوات من كتاب أنساب الأشراف، بدون تعيين لصحتها، وبالتالي نستطيع أن نقول بثقة أنه لا يصح شئ في مدتها ولا في محتواها. ولكننا نؤكد أن السياق الطبيعي لأي دعوة، ضعيفة، محاربة ..أن تكون بها سرية ما دامت الظروف تحتم ذلك، والأمر لم يكن يستدعي محاولة تضخيم جزء لا تقوم به الحجة في السيرة ..

 

ناهيك عن البناء عليه كاستخدام كلمات مثل "النظرية الأمنية" و "دقة التخطيط الأمني" "والأوامر الصارمة"، والأمر هنا كله مجرد تخمينات مبنية على روايات لا تقوم بها درجة من الحجة إلا في سياق استكمال المبنى القصصي للسيرة، أما أن ينتقل الأمر لتحويلها إلى حقائق ينبني عليها عمل وتقوم به حجة دينية على اعتماد مثل هذا الأسلوب باعتباره جزءاً من الدين واجب التطبيق، وأنه لابد من البدء به وتطبيقه في كل الأحوال والظروف ومهما كانت المرحلة ومهما كانت أحوال المجتمع، والاعتقاد بأن الإسلام سيبدأ من مرحلة الصفر من جديد وسيسلك نفس المسار الذي بدأ به، واستدعاء أحاديث الغربة (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) وإسقاطها على أي مجتمع مهما كان أهله مسلمون وكانت مآذنه تصدح بالأذان ويذكر فيه اسم الله ويعظم، فذلك أمر بعيد النجعة وشديد الخطورة. والخلاصة أنه عند التحقيق لا يصح شئ على وجه اليقين عن هذه الفترة سوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بإعلان الدعوة وإشهارها بشكل عام في المجتمع واختار له ربه أن يبدأ بالحديث لمن يثق به من الأفراد. وهناك فرق بين عدم الإعلان والسرية، وسنتحدث عن ذلك في حينه.

 

دار الأرقم "لقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية الصحابة في دار الأرقم، فلنفعل مثلما فعل"

ولدار الأرقم مكانة حركية كبيرة لدى قطاع من المسلمين، حيث أنه شكل ركيزة قامت عليها نظريات تربوية في جماعات إسلامية متنوعة. أسست لفكرة أن الرسول بدأ بتربية أصحابه في دار الأرقم، وأن هذه المرحلة كان لها دور كبير في صناعة العصبة المؤمنة. ولندع عماد الدين خليل يحدثنا عن دار الأرقم في دراسته في السيرة: "وليس في كتب الأخبار والسير والتواريخ تاريخ مضبوط للوقت الذي استخفى فيه الرسول والمسلمون في دار الأرقم. فالروايات في ذلك مضطربة، ولكن المرجح على ما يبدو من غربلتها أنه كان في أواخر السنة الثالثة من النبوة أو في السنة الرابعة أو في أواخر عهد الكتمان والروايات متضاربة عن مدة الاستخفاء في دار الأرقم فهناك من يجعل مدتها شهراً فقط...ثم إنها متضاربة كذلك في كيفية الاستخفاء هل كان استخفاء تاماً من الناس في تلك الدار فلا يخرج منها أحد؟ أم كان استخفاء في وقت من النهار وذلك في وقت اجتماعهم بالنبي مثلاً لأجل توضيح الإسلام والتبشير به من الله وقبول أحد فيه". ونحن هنا أمام حدث لعب خيال المستنبطين من السيرة فيه دوراً كبيراً في صياغته وتخصيصه بالأهمية، وعندما نبحث قضية مثل قضية دار الأرقم فإننا نلجأ وفق المنهج العلمي للتالي: هل لدينا أي دليل صحيح قطعي يؤكد لنا وجود هذه الدار كمركز للأحداث في فترة بعينها؟

 

إذا وجدنا من الصحيح ما يفيد وجود هذه الدار في مركز الحدث، فهل لدينا دليل صحيح قطعي يؤكد لنا المدة التي تمتعت فيها دار الأرقم بهذه المركزية؟؟ فقد يثبت الحديث ولا يثبت ما يدل على أنه علامة مميزة لمرحلة بعينها؟ وإذا ثبت الحدث ومدته بالدليل الصحيح القطعي، يأتي بعد ذلك سؤال حول مضمون ما كان يتم في دار الأرقم، فهل لدينا دليل صحيح قطعي يخبرنا عن مضمون ما كان يجري في دار الأرقم؟ وهل فعلاً عاشت ذكرى هذه المرحلة مع الصحابة الأوائل، أم أنهم لم يتغنوا بها كمرحلة أصيلة في تكوينهم الديني؟ في حدود بحثنا لم تشر أي من الكتب التي عنيت بصحيح السيرة إلي رواية يعتد بها في موضوع دار الأرقم، أو أي من المسائل التي طرحها عماد الدين خليل في تعليقه، ناهيك عن الحديث عن ما كان يدور فيها على وجه الجزم. ولا نجد كذلك دليلا صحيحاً على محتوى ما كان يدور فيه أو المدة. وبذلك يمكن القول أننا لم نجد دليلاً يقول بأن دار الأرقم تشكل حدثاً مفصلياً في تاريخ الإسلام، أو تمثل حجر أساس قامت عليه الدعوة الإسلامية، أو يجزم بأنها تشكل ملمحاً لنظرية تربوية اختارها الرسول لإعداد الصحابة. والمثير في هذا الموضوع هو حجم الكتابات المعاصرة التي ربطت التربية بفكرة الدار بناء على هذه الفترة، وضرورة العمل التربوي السري، بل وتحول الأمر إلى ما يشبه الحتمية الدينية، فقد أخذ الاستشهاد بقصة دار الأرقم وقصة إسلام عمر وحلقة فاطمة بنت الخطاب السرية حجماً كبيراً... وكلها روايات لا يصح منها شئ. والخلاصة أن موضوع التربية السرية ليس موضوعا دينياً أو منهجاً نبوياً يحتاج لشواهد من السيرة؛ بل هو موضوع إنساني عام يعتمد على درجة الشعور بالخوف من البيئة المحيطة سواء كان خوفاً مبرراً أم غير مبرر، وكذلك أنماط تقسيم العمل هي أنماط مصلحية وليست أنماطاً دينية نحتاج إلى العودة للنصوص فيها، والأمر لا يحتاج لكل هذا التكلف في استدعاء السيرة وتحميلها ما لا تتحمل.

 

نظرية التربية "علينا أن نربي الأفراد جيداً... وبعد ذلك سيصلح المجتمع"

شاعت كذلك في مرحلة الصحوة تلك المقولة، وتوهم الكثيرون أن فكرة تربية الأفراد ستقود في النهاية إلى إيجاد مجتمع مسلم، ولطالما اعتُبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أباً روحياً لهذه النظرية، والعجيب أن هذا الاستنتاج شاع استخدامه دون أي دليل قطعي عليه. فأي دليل تقوم به الحجة على أن الرسول في مكة اعتمد فكرة أكل المجتمع المكي فرداً فرداً وضمه إلى عصبته، فتتمدد عصبة الرسول بمرور الوقت لتصبح هي عين المجتمع، إننا نرى الرسول يتجه إلى زعماء مكة، فإن أسلم هؤلاء أسلم كل من وراءهم، كما حدث بعد ذلك مع أهل المدينة حين أسلم سادتها. فالتركيبة القبلية كانت تجعل الناس على دين ملوكهم، أو لنقل شيوخ القبائل.

 

وعندما لم يعر سادة قريش بالاً لدعوة الرسول، بل كذبوه وحاربوه، بدأ يبحث عن شريحة التغيير التي تمكن له، عن ذات الشوكة في القبائل، عن الذين إن لحقوا به تفوق ميزان قوته، فعرض نفسه على القبائل، وكان يتحرك طالباً النصرة، ونذكر ذلك الحديث الذي ذكره إبراهيم العلي في كتابه "صحيح السيرة النبوية": "ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس" والواضح من الحديث أن أبا بكر بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه الآن بين يدي شريحة التغيير المحتملة. فلم يتنكب الرسول صلى الله عليه وسلم سنن التحولات الاجتماعية، بل كان يميز بين شريحة البدء وشريحة التغيير، فمعه أبو بكر وعمر لكنه يعلم أنه في حاجة إلى قوة تكافيء أو تزيد على قوة قريش.

 

والذي يؤكد ذلك هو حديث رسول الله في رحلة عرض الإسلام وطلب النصرة على القبائل، فعندما ذهب إلى قوم شيبان قال لهم " أدعوكم إلى شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى أن تؤوني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله..." ثم تلا عليهم أوامر الإسلام. ولم يكن الرسول لينتظر حتى يحسن إسلام هؤلاء، فلو كانت نظرية التربية التي سادت في عصر الصحوة هي الأساس لاكتفى بعرض التوحيد عليهم حتى يختبر إيمانهم لفترة، ثم يبدأ بعد ذلك بقضية النصرة. لقد كان يتحرك بواقعية وعملية.

 

وهنا نؤكد أنه لا يصح شيء في الاستنتاجات التي تقول أن الرسول منهجه هو تربية الأفراد أولاً حتى يحسن إيمانهم، ثم تكوين المجتمع، ولو كان هذا المنهج صحيحاً لبقي في مكة يدعو أهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ويلتحق بدعوته سادتها. وهذا لا يقلل من أهمية التربية، ولكنها أحد المقومات المستمرة وليست خطة لإحداث تحولات، فهي تأتي قبل التحولات، وأثنائها، وبعدها.

 

العقيدة "علينا أن نعلم الناس العقيدة أولاً، فإن صلحت عقيدتهم أصبحوا قادرين على الفعل"

هذه إحدى المقولات التي سادت في مرحلة الصحوة، وعندما نستكمل قصة الرسول في خطابه مع بني شيبان سنجد أنه دعاهم أولاً إلى التوحيد والنصرة "أدعوكم إلى شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى أن تؤوني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله..." ثم ذكر لهم المحرمات "فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى "فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" (الأنعام: 151-153) ثم أمرهم بالقيم العليا للإسلام "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" (النحل: 90) فالعقيدة في الإسلام هي الغراء اللاصق لكل مكونات الفعل الإنساني، ولا توجد سورة اسمها "العقيدة"، بل إن المصطلح نفسه لم ينحته الرسول أو الصحابة، والمتأمل في القرآن يجد أن آيات التوحيد والعقيدة مشتبكة مع الواقع، ومع العبادات، والأخلاق، فتكاد لا تجد آية في القرآن إلا وتختم بذكر الله والثناء عليه. فهي بذلك تعتبر الغراء اللاصق لمفردات المطالب الربانية.

 

وإذا نظرنا إلى أول ما نزل من القرآن سنجده "اقرأ" وهي آية تدعو إلى امتلاك مقومات الفعل الحضاري، ثم "باسم ربك الذي خلق" وهي آية تربط الفعل الحضاري بالإيمان. ومن ثم تأتي الآيات بعدها لتشتبك بالواقع "إن الإنسان ليطغى". وهكذا تبدو عظمة القرآن في هذا الربط الطبيعي بين مفردات الحياة والتعريف بالله بدون تعقيد أو تكلف. ذلك هو منهج القرآن المباشر والمشاهد.

 

أما التقريرات البشرية اللاحقة فهي عبارة عن أفهام فرضت نفسها على خطة القرآن العملية في مخاطبة الإنسان، فاستبدلتها بنمط معقد من التفكير، لو عُرض على أهل الأرض حينها لما فهمه إلا أقل القليل ، ويقول تعالى "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" (القمر: 17)، فأين هذا من تعقيدات ما كتبه البشر في موضوع العقيدة وصراعاتهم حولها؟ ناهيك عن الجزم بوجوب أن يمر الإنسان بمرحلة معتبرة يتلقى فيها العقيدة، بدعوى أن هذا هو منهج المرحلة المكية، والمرحلة المكية منه براء. كما أننا سنلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقس درجة إيمان القوم قبل أن يكل إليهم مهمة إيوائه ونصرته، لقد عرض عليهم الإسلام بمحكم تعاليمه، فإن قبلوه أولاً "كفكرة"، كان لهم حق وشرف النصرة، وليزكوا أنفسهم بعد ذلك مع ممارسة التعاليم، وممارسة الإيواء، وممارسة النصرة.

 

أي أن الإسلام يعترف بتنوع الملكات، وتنوع أبواب الطاعات، ولا ينتظر حتى يصنع بشراً مثاليين يتفاعل بهم مع الواقع، إنه دين يقدم النموذج، قادر على اختراق الواقع بالبشر على اختلاف درجات طاعتهم، حيث يعيد للإنسان الثقة في نفسه باعتباره مجبولاً على التضحية والبذل من أجل فكرته، أما علاقته الخاصة بالله فأمرها إلى الله ووظيفة الدين التذكير لا غير. كانت هذه بعض النماذج التي شاع استخدامها في السيرة، وبنيت عليها نظريات عمل، وسنتعرض لبقية النماذج في سياقها الطبيعي من السيرة في حينه.