الحلقات القرآنية .. نشأتها وتطورها

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (.. ما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه تعالى يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكَرَهم اللَّه فيمن عنده) [مسلم 2699]



الحلقة القرآنية هي: اجتماع في بيت من بيوت اللَّه، أو في أي مكانٍ طاهرٍ مرضي، لتدارس القرآن الكريم مدة من الزمن.

 
نشأة الحلقات القرآنية وانتشارها
 
حلقة القرآن في غار حراء:
لعلَّ أول حلقة قرآنية تشَرِّف الكون بانعقادها كانت حين بزغ أول شعاع من أنوار الإسلام، لتُعقد هناك أوَّل حلقة قرآنية في الأرض: الحلقة «النور» بين الأمينين: أمين أهل السماء جبريل -عليه السلام-، وأمين أهل الأرض محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ولتعلن بدء السنة الأولى من البعثة النبوية الكريمة.
روى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث -وهو التعبد- فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها، حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده).
 
إذن فقد كانت «اقرأ» هي أول كلمة افتتح بها ذلك اللقاء المبارك بين الأمينين، وكان «غار حراء» هو أول الأمكنة تشرفًا بذلك اللقاء، ثم تعددت أماكن اللقاء بعد ذلك، وتنوعت أزمنته وأشكاله، خلال ثلاث وعشرين سنة، هي مدة نزول الوحي.
 
فكان الصحابة يأخذون دَوْرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الاتصالات للوحي، ويأخذ -صلى الله عليه وسلم- دور جبريل في تلقينهم ما نزل من عند اللَّه سبحانه، وكانت دارُ الأرقم بن أبي الأرقم من أُولى الأماكن التي تشرفت بهذا الفضل. [سيرة ابن هشام 1/253]
 
وانتشر النور بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطفقوا يتلقون القرآن من فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يكتبونه في الصحف، ويحفظونه في الصدور، فكان من كُتَّاب الوحي: معاوية، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهما-، وكان من حُفاظ الصدور: ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي حدَّث عن نفسه فقال: (أخذت من فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين سُورة لا ينازعني فيها أحد) [البخاري 5000]
 
حلقات القرآن بالمدينة:
أمَّا في المرحلة المدنية -وفي المدينة المنورة: طيبة الطيبة- فقد كان انتشار هذا النور أوسع، فأهلها هم الأنصار الذين فتحوا قلوبهم للذكر والتنزيل، وأسلموا أرواحهم فداءً له.
 
ولقد كان أول سفير للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن الكريم إليها: مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، فقد اختاره -صلى الله عليه وسلم- مبعوثًا إليها قُبيلَ هجرته، يفقِّهُ أهلها في دين اللَّه، ويعقد فيها أولى الحلقات القرآنية مع أسعد بن زُرارة الخرزجي -رضي الله عنه- تاليًا على الناس ما معه من كتاب ربِّه، حَتَّى سمِّيَ عند أهلها بالمقرئ.
 
وزاد هذا النور انتشارًا بقدومه -صلى الله عليه وسلم- إليها، حيث تولى بنفسه مهمَّة الإقراء والتعليم لكتاب اللَّه تعالى، فقد روى أنس -رضي الله عنه- قال: (أقبل أبو طلحة -رضي الله عنه- يومًا فإذا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قائم يُقرئ أصحاب الصُّفَّة، على بطنه فصيلٌ من حجر يُقيم به صلبه من الجوع).
كما أثار توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه، يتلون كتاب اللَّه...) الحديث، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: (بلغوا عني ولو آية). هِمَمَ الصحابة وشَحَذَ عزائمهم في المسارعة إلى اكتساب هذا الخير ونشره، فطفقوا يعقدون حلقات القرآن الكريم، ويقرأ بعضهم على بعض، ويعلِّم بعضهم بعضًا آياتِ اللَّه سبحانه، حتى أنَّ الأكبر منهم سنًا وسابقة ليعرض القرآن على مَن هو أصغر منهم، فقد رُوي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: (كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف ذات ليلة ونحن بمنى). [البخاري: 7323]
 
وامتلأ مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحلقات الإقراء، يفتتحها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشرف على اختيار جِلَّة أصحابه لتوليها، فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وكان أنصاريًا، قال: (كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل مِنا يعلمه القرآن، فدفع إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً فكنت أُقرئه القرآن).
 
وقد افتتح -رضي الله عنه- حلقة للقرآن الكريم بين أهل الصُّفَّة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال في ذلك: (علمتُ ناسًا من أهل الصُّفَّة الكتابة والقرآن).
 
ويكفي دليلاً على سعة انتشار حلقات القرآن الكريم، وكثرة حفَّاظه من الصحابة في المدينة: إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة الرابعة من هجرته المباركة سبعين من الصحابة -على الصحيح- كانوا يسمَّون بالقراء، إلى خارج المدينة لنشر القرآن وتعليمه، فقُتِلوا -رضوان اللَّه عليهم- عن آخرهم ببئر «معونة»، وقنت النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الركوع شهرًا يدعو على مَن قتلهم، ثم تركه لمَّا جاءوا تائبين مسلمين [رواه البخاري 2999]
 
وقد أورد البخاري في صحيحه -بثلاث رواياتٍ- سبعة من الحفَّاظ على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- هم: عبد اللَّه بن مسعود، وسالم، مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء، -رضي اللَّه عنهم- جميعًا.
 
وهذا الحصر عن الإمام البخاري للسبعة المذكورين آنفًا، لا يلزم منه أنَّ سواهم لم يحفظ القرآن الكريم ولم يجمعه على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا سيما وأنَّ الصحابة كُثرٌ، وقد تفرقوا في البلاد وحفظ بعضهم عن بعض. قال الإمام ابن حجر -رحمه اللَّه-: «ولا يلزم من ذلك ألا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن، بل كان الذين يحفظون مثل الذين حفظوه وأزيد، منهم جماعة من الصحابة».
وقال القرطبي: «وقد قُتل يوم اليمامة زمن الصدِّيق -فيما قيل- سبعمائة من القراء» [تفسير القرطبي 1/73]
 
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العناية بالقرآن حفظًا وعلمًا وتعليمًا وعملاً لعلنا نكون من أهل الله وخاصته. آمين.
والحمد لله رب العالمين.
 

الموقع: حلقات تحفيظ القرآن الكريم