الحكمة السادسة والثلاثون: شعاع البصيرة يشهدك قربك منه، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجوده، لاعدمك ولا وجودك

هذه الحكمة تتضمن بيان ثلاث رتب، يتدرج في طريقها المؤمن إذ يسعى للوصول إلى درجة الإحسان التي نوّه بأهميتها، وأهمية الجهاد للوصول إليها، رسول الله (ص).



عبّر ابن عطاء الله عن أول هذه الرتب وأدناها، بكلمة ((شعاع البصيرة)) وعبّر عن الرتبة الثانية التي تليها، بكلمة ((عين البصيرة)) وعبّر عن الرتبة الثالثة والأخيرة بكلمة ((حق البصيرة)).

وقد نوّه بيان الله عز وجل في كتابه المبين، بهذه الرتب الثلاث، ومزية كل منها، وتفاوتها من حيث درجة القرب من الله عز وجل، كما سيتبين لك فيما بعد.

ولنشرح كل رتبة من هذه الرتب الثلاث على حدة، مع بيان أثر كل منها في حياة صاحبها، مستدلين على ذلك بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله (ص)، وسيرة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.

الرتبة الأولى، هي تلك التي يعتمد فيها الإنسان على ((شعاع البصيرة)) فما البصيرة؟ وما شعاعها؟..  المراد بالبصيرة العقل والإدراك، يقال: فلان يتمتع ببصيرة ثاقبة أي بإدراك أو ذكاء حاد.

شعاع البصيرة يشهدك قربك منه، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجوده، لاعدمك ولا وجودك  بيان المراد بشعاع البصيرة، وهو نور العقل، وهذه الرتبة تشكل الجامع المشترك لكل المؤمنين بالله  وشعاع البصيرة، أي العقلِ، نوره. ومن المعلوم أن نور العقل يتزايد ويقوى بواسطة العلم وقواعده. بل إن بينهما تفاعلاً دائماً، فالعقل يقوى بواسطة العلم، والعلم أيضاً يتنامى ويزداد بواسطة العقل، وكل منهما سند دائم للآخر.

فالمرتبة الأولى التي يتبوؤها السائرون في هذه الحياة إلى معرفة الحقيقة الكونية وكشف أسرارها، هي مرتبة اليقين بوجود الله ومعرفة صفاته، تحت أشعة العقل الهادي إلى العلم والعلم الدال على العقل.

هذه المرتبة تشكل الجامع المشترك لكل المؤمنين بالله عز وجل على اختلاف فئاتهم وتفاوت درجاتهم، إذ لابدّ للناس جميعاً أياً كانوا إذا أرادوا التعرف على الله والقرب منه، أن يسلكوا الطريق إليه من خلال باب واحد لاثاني له هو تحكيم العقل الهادي إلى العلم. وهذا هو السبب في أن الله عز وجل يحاكم الناس جميعاً (إذ يدعوهم إلى معرفته وإلى الإيمان به) إلى العقل والعلم، ويأمرهم أن يتخذوا منهما الأساس أو المنطلق إلى كل شيء. فهو يقول مثلاً منوهاً بأهميتهما معاً:

{ وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاّ الْعالِمُونَ } { العنكبوت: 29/43 } .

ويقول محذراً من اتباع ما لادليل عليه من العلم الذي هو شعاع العقل، ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)) [الإسراء:17\36].

ويقول، مستنهضاً الناس إلى إعمال العقل في كل ما يُدعون إليه، وفي كل ما يلوح أمامهم من المشاهد الكونية المتنوعة:

((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )) [البقرة: 2\164].

ويقول مهدداً أولئك الذين يطوون عقولهم عن النظر والتفكير والوصول بها إلى النتائج السليمة:

(() وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) [ الأعراف:7\179].

ما هي المرتبة التي ينالها، أولئك الذين يعتمدون في سيرهم إلى الله على ((شعاع البصيرة)) على حدّ تعبير ابن عطاء الله، أي على الدلائل العلمية المنبثقة من بصيرة العقل؟

تتلخص هذه المرتبة، في اليقين بوجود الله إلهاً مبدعاً خالقاً لهذا الكون، قائماً بأمره، مهيمناً على شؤونه. يلي هذا اليقين التعرف على‌ صفاته، وأولها وأهمها صفة الوحدانية. فإذا استقر لديه هذا اليقين، واصطبغ فكره وشعوره بصفاته عز وجل، أدرك عندئذ قربه الدائم من الله عز وجل، أينما حلّ وحيثما ارتحل، إذ قد علم من خلال ما عرفه ووعاه من صفات الله عز وجل أنه لايحده مكان ولايحصره زمان، إذ هو ربّ الزمان والمكان، ومنشئ كل منهما، وعاش مع قوله سبحانه ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )) [ق:50\16] وأدرك معنى قولة عز وجل: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) [ الحديد: 57\4].

ومن أولى وأهم ثمرات هذه الرتبة الأولى، تنامي مراقبة العبد للرب جلّ جلاله. أي إن يقينه بقربه الدائم من الله عز وجل، يجعله يصطحب شعوراً يساوره على الدوام بأن الله يراه.. يراه في سائر تقلباته وأطواره، بل يراه في خواطره وأفكاره التي تطوف برأسه، ولابدّ أن يحمله شعوره بهذه الرقابة الإلهية على الابتعاد عما نهى الله عنه وتنفيذ كل ما قد أمر به جهد استطاعته، فإذا جمحت به الغريزة وتغلبت عليه فانحرف إلى محرم أو قصر في واجب، طاف به من ذلك طائف من الخجل والخوف والندم، يدفعه إلى أن يترامى، بذل وانكسار، على أعتاب رحمته وكرمه، يلحف بالدعاء والرجاء أن يغفر ذنبه وأن يستر عيبه، وأن يرحم ضعفه الذي جرّه إلى ما قد تورّط فيه.

وما أكثر ما أراحت هذه الرقابة الإلهية، إذ تعمل عملها في كيان الإنسان نتيجةً لإيمانه هذا، الحكام في قصورهم، والقضاة في محاكمهم، والشرطة في دوائرهم. وعصر أصحاب رسول الله (ص)، ثم عصور السلف الصالح من بعده، خير شاهد على هذه الحقيقة. ولعلنا جميعاً لانزال نذكر ما حفظناه من دروس التربية الدينية والأخلاقية التي كنا نتلقاها بجد واهتمام، في المرحلة الابتدائية، من أن الهرمزان لما قدم المدينة يسأل عن القصر الذي يقيم فيه أمير المؤمنين عمر، دلوه على أرضٍ عراء كان يتمدد فيها، متوسداً نعله، بعد جهد طويل بذله إذ كان يهنأ! إبل الصدقة ((يطليها بالقطران)) فوقف ذاهلاً متعجباً، ثم أفاق من ذهوله قائلاً: ((عدلت فأمنت فنمت ياعمر)).

ولم يكن عدل عمر متمثلاً في فنّ اخترعه أو فلسفة اجتماعية ابتدعها، ولكنّ عدله كان ظلاً لما يثمره الإسلام في نفس صاحبه المسلم، إذ يوقظه إلى مراقبة الله عز وجل، فترتكز من ذلك محكمة ربانية تستقر جاثمة في طوايا قلبه.

والإسلام الذي أقام هذه المحكمة في نفوس المسلمين بالأمس، لايزال يقيم هذه المحكمة ذاتها في نفوس المسلمين الصادقين اليوم.. دعك من المسلمين التقليديين الذين يمتطون صهوة الإسلام بحثاً عن مصالح ومغانم شخصية لهم، ولكن قف معي أمام المسلمين الذين صدقوا مع الله في إسلامهم، ثم غذوا إيمانهم العقلي بهذا الذي سماه ابن عطاء الله ((شعاع البصيرة)) تجد عجيب تفاعلهم مع رقابة الله لهم في خلواتهم وجلواتهم وخطراتهم؛ كم وكم تلوح أمامهم فرص نادرة‌ لكسب غير مشروع، فيشيحون بوجوههم عنها، ويترفعون فوقها، تحسباً لرقابة الله لهم. وكم فيهم من عادت به رقابة الله إلى أيام شروده عن حماه وابتعاده عن صراطه ، فأخذ ينقب عما تسرب إلى جيبه آنذاك من المال الحرام، يلتقطه ويعود به إلى أصحابه، أو يضعه في مصالح المسلمين إن لم يعرفهم أو لم يتمكن من إعادته إليهم.

والعجيب أنك قد ترى الرجل يلحد في ذات الله وآياته، ولايقيم وزناً للدين ولا لأهله، فإذا احتاج إلى من يرعى له مصلحة مالية، أو يمسك له دفاتر حسابية، أو يأتمنه على صفقة تجارية، بحث للنهوض بهذه المهمة عن أكثر الناس تديناً والتزاماً بأوامر الشرع وأحكامه، ووضع ثقته فيه من دون الناس كلهم. فما سرّ هذه المفارقة؟.. وكيف يستقيم أن يستخف العاقل بالدين وأهله، ثم لايثق إلا بالمتدين الصادق ولايطمئن إلا إليه؟..

فهذه هي الرتبة الأولى، على صعيد معرفة الله والإيمان به والالتزام بأمره. إنها رتبة الاعتماد على العقل مشفوعاً بما يشع به من نور الحقائق العلمية.

 

أما الرتبة الثانية، فهي التي عبر عنها ابن عطاء الله بقوله: ((وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده)). وإليك خلاصة ما يعنيه بهذا الكلام:

الاستدلال على وجود الله ووحدانيته وصفاته، بالأدلة العلمية، مرحلة لابدّ منها، كما قد سبق بيانه في شرح بعض الحكم السابقة. فإذا أخذ صاحب هذه الاستدلالات نفسه، بعد ذلك، بورد دائم من الأذكار المأثورة، وألزم نفسه بزاد دائم من العبادات والنوافل يثابر عليها ويستزيد منها، وفطم فمه عن تناول المال الحرام، وبذل ما يملك من جهد للابتعاد عن المعاصي على اختلافها، تشربت نفسه حقائق الإسلام وعقائده، وغدا الإيمان بالله وصفاته جزءاً لايتجزأ من كيانه، ويقيناً مهيمناً على قلبه ووجدانه.

 

وإذا استقرّ به الأمر عند هذه الحال، لم يعد بحاجة إلى مقدمات منطقية يصوغها، ولا إلى أدلّة يعتمد عليها، إذ كان دور الأدلة والمقدّمات المنطقية متمثلاً في ردّ غائلة الشكوك وإبعاد الشبهات. ولكنه اليوم، وقد ثابر على التزود بما قد ذكرت، تحرر من كل تلك الشكوك والشبهات، إذ غدا إيمانه بالله وصفاته روحاً ثانية تسري داخل روحه، ففيم يبحث عن عصّي الدلائل والبراهين ليعتمد عليها، وقد عوفي من العرج وعادت قدماه تحملانه بكامل ما قد أودع فيها من قوة؟!..

إذن، فالفرق بين هذه الرتبة والتي قبلها، أن الأولى تتمثل في اليقين العلمي، أما هذه فتتمثل في الشهود العملي.

 أما المزية التي ينالها صاحب هذه الرتبة، فهي أن الوجود الذاتي للمكونات، يتلاشى أمام ناظريه، إذ إنه تجاوز المرحلة التي كان الوجود الذاتي للمكونات، مع الله عز وجل، مظهراً لثنائية الدليل مع المدلول، أمام بصيرته.. إنه اليوم لم يعد يرى في المكونات شيئاً ذا وجود مستقل حتى يرى فيه الدليل المستقل عن المدلول، ومن ثم يرى فيه البرهان الدال عليه. إنه الآن، وفي ظل هذه الرتبة، أصبح كلما نظر إليها، لم يجد فيها إلا صفات الخالق عز وجل.. إن نظر في النجوم والأفلاك المتلالئة في السماء، أو تأمل في البحار والأمواج التي تهدر بها المحيطات، أو نظر في الرياحين والزهور والنباتات والثمار، أو أتبع بصره حياة الوحوش والحيوانات العجماوات في الأدغال، لم يجد في شيء من كل ما يراه إلا صفات الله عز وجل. فهو يرى بعينيه المخلوق، ولا تريه بصيرته من ذلك إلا الخالق.. وهذه هي الرتبة التي يتبوؤها أصحاب وحدة الشهود، وقد سبق التعريف بها مفصلاً في شرح الحكمة الرابعة عشرة.

والمهم أن تعلم أن المؤمن يتجاوز في هذه المرحلة الحاجة إلى وساطة الأدلة، إذ لايجد بعين بصيرته أمامه إلاّ المدلول وهو الله عز وجل أما المكوَّنات التي كان يرى فيها مظهر البرهان والدليل، فهي الآن في حكم بصيرته معدومة.

وليس المراد هنا بالعدم، العدم الذاتي، وإنما المراد به عدم الفاعلية والجدوى، ذلك لأن المخلوقات لاتكون مخلوقات إلا وهي موجودة، ولكنها مجرد أشباح لاحراك بها ولا فاعلية لها ولا قوة فيها.

وهذه عقيدة كل مؤمن سار في معتقده على هدي القرآن والسنة. ولكن المؤمن إذ يكون في الرتبة الأولى التي مرّ بيانها، يخزن هذا الاعتقاد في عقله، وينساه عند الخوض في معترك الدنيا والتعامل مع المكوّنات. أما في هذه المرحلة الثانية، فإن عقيدته هذه تظل مهيمنة على وجدانه ومشاعره في أحواله وتقلباته كلها. ومن ثم يظل في كل أحواله وأوضاعه وتقلباته الدنيوية والمعيشية، أمام مشهود واحد هو الله عز وجل. وبعبارة أخرى: إنه مهما تقلب في أموره الدنيوية والمعاشية لايتعامل إلا مع الله ولا يرى أمامه إلا فاعلية الله وسلطانه. وربما هيمنت عليه هذه الحال فزجته فيما يسمونه ((الفناء)) أي الفناء حتى عن ذاته، أي زجته في حالة من عدم الشعور بها وبالآخرين.. وهذه الحال إذ تهيمن على صاحبها، إنما تكون مظهراً من مظاهر الضعف التي ينبغي أن يتجاوزها السالك إلى الله عز وجل.. وعندئذ يرقى إلى المرتبة الثالثة التي سنتحدث عنها بعد قليل، والتي يسمونها ((البقاء)).

ومصدر هذه الرتبة بشطريها في السنة النبوية حديث رسول الله الذي رواه مسلم بسنده من حديث عمر بن الخطاب إذ تحدث عن الإحسان، وعرفه بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).

ذلك لأن هذا الإحسان أثر من آثار وحدة الشهود التي نحن بصدد بيانها وشرحها. فإن الحجاب الذي يحول دون بلوغ المسلم رتبة: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) رؤيته للمكونات موجوداتٍ ذات أهمية وفاعلية. إنه، والحالة هذه، مهما وقف متبتلاً في المظهر بين يدي الله، ومهما خاطبه بقوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } { الأعراف: 7/175-176 } لابدّ أن يشرد به الفكر والخيال إلى هذا الذي يقوم أمام ناظريه من الحجب الكونية الكثيفة، المتمثلة في الدار والأهل والتجارة والمال.. ونحو ذلك. ومن ثم فلن يستطيع أن يعبد الله مشدوداً ببصيرته وفكره ومشاعره إليه، كأنه يراه.

 

ولكن إذا أخذ العبد نفسه بما قد ذكرته من الوظائف التربوية والسلوكية، واستقام على ذلك مدة من الزمن، استيقظت بصيرته لصاحب الوجود الحق الذي لاثاني له، وغابت فاعلية الموجودات الوهمية أو الظلّية كما يقول علماء هذا الشأن، عن بصيرته، واضمحلت كثافتها، وارتفع معنى الحجاب عنها، إذ تغدو عندئذ أمام ناظريه مجرد مظهر لصفات الله عز وجل. فإذا وقف يناجي الله في عباداته، خاطبه متجهاً إليه بكل مشاعره وكيانه، كأنه يراه. وربما أوقعه الضعف تحت سلطان هذه الحالة في الفناء عن الذات، كما قلت، إلاّ أنه أمر عارض، يمرّ ويزول، ولسوف يستقر به الحال عند الوضع الذي كان عليه رسول الله،  غياباً عن الأغيار مع الشعور بالوجود الظلي لها.

فإن قلت: فهل كانت حياة رسول الله العملية في أصحابه، خاضعة أو متأثرة بوحدة الشهود هذه بقطع النظر عن حالتي الفناء والبقاء؟ ألم يكن يتعامل مع الدنيا ويتقلب في غمارها، كأي واحد من عامة الناس؟ أقول لك في الجواب:

إن المهمة التشريعية التي كلف الله رسوله بالقيام بها، والتي شاء الله أن يجعل من رسوله نموذجاً لأصول التعامل الإسلامي السليم والدقيق، مع الكون والحياة، اقتضت أن يكون في علاقاته بالدنيا وأسبابها، وسيلة إيضاح للنهج الإسلامي السليم الذي ينبغي أن يسلكه المسلمون في حياتهم المعيشية.. وهذا لايتم إلا بإقباله إلى أمور المعايش وأسبابها طبقاً للنهج الذي ترسمه شريعة الله عز وجل، وحسب ما هو داخل في طوق عامة المسلمين؛ وبوسعك أن تعلم أن رسول الله (ص)، كان يتقلب في غمار الدنيا وشؤونها في ظاهر أمره، تنفيذاً لهذه الوظيفة. أما سريرته الداخلية، فكانت مع الله عز وجل في كل التقلبات والأحوال.

وآية ذلك مواقفه وأوضاعه الشخصية إذ كان ينفرد بها مع ذاته عن الناس، خارج نطاق تعليمهم وإرشادهم، فلو تأملت في مواقفه تلك، لرأيته سابحاً في بحر لا ساحل له من شهود الله عز وجل، لايعكر عليه شهوده ذاك أي من المظاهر والصور الدنيوية التي تحيط به، مع إيمانه بوجود شكليّ لها.

تأمل فيما يرويه البخاري من حديث عبد الله بن المغفل، من وصف حال رسول الله (ص)، إذ كان على مشارف مكة متجهاً إليها يوم الفتح، كان مستغرقاً في حالة من شهود الله عز وجل، يقرأ سورة الفتح يرجع في تلاوتها، دون أن تجد نشوة النصر والظفر العظيمين إلى نفسه أو مشاعره من سبيل. ويزيد في تصوير هذه الحقيقة ما رواه ابن إسحاق من حديث أنس من أنه (ص) لما وصل إلى ذي طوى، كان قد طأطأ رأسه تواضعاً لله واستغراقاً في شكره وشهود إنعامه وفضله، حتى إنّ عثنونه ليكاد يمسّ واسطة رحله.. لقد كان مندمجاً بكل مشاعره في حالة من العبودية لله عز وجل، ذاهلاً بل غائباً عن كل مايبدو حوله من مظاهر النصر النادر الفريد، وصَغار الشرك وصناديد المشركين من حوله وبين يديه… كان مستغرقاً في حالة فاض الزمان كله فيها بمعنى العبودية التامة لله وحده.

فهل تتألق وحدة الشهود التي تترجم معنى الإحسان في كيان المسلم، بأبهى وأجلّ من هذا المشهد؟!.

 ثم تأمل في سيرة رسول الله إذ كان يختلي مع نفسه، بعيداً عن المعالجات والعلاقات الاجتماعية، في ليل أو نهار، تجده مستغرقاً في هذه الحالة ذاتها من الشهود والانصراف بكليته إلى الله عز وجل.

أما الصحابة، فيجمعهم جامع مشترك يتمثل فيما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، من اتصافهم بالعدالة، ونزاهتهم عن الفسق وموجباته.. ولكنهم يتفاوتون بعد ذلك في هذه الرتب التي يتحدث عنها ابن عطاء الله. لن تجد فيهم من تدانت درجته الإيمانية عن الرتبة الأولى التي تم بيانها وشرحها، ثم فيهم الكثير ممن ارتقى إلى رتبة الإحسان هذه، رأوا الله بعين البصيرة، دون احتياج إلى أي سند من أشعتها أي من البراهين والمقدمات العلمية، التي نحاور ونناقش الملاحدة اليوم بها.. ولعل هذا هو الشأن بالنسبة لأكثرهم.. وفيهم من تبوؤا الرتبة الثالثة التالية التي سنتحدث عنها الآن.

الرتبة الثالثة هي التي يعبر عنها ابن عطاء الله بقوله: ((وحق البصيرة يشهدك وجوده، لاعدمك ولا وجودك)).

ينبغي أن تعلم أن هذه هي الرتبة الثانية ذاتها، مع ملاحظة أن يعود صاحبها من الفناء إلى البقاء.. أي أن يعود من حالة الغيبوبة عن ذاته، وعن المكونات التي من حوله، إلى ملاحظة الوضع الواقعي، الذي يتركز مجمله على وجود الله سبحانه وتعالى، قيوماً على كل شيء، إليه وحده الخلق والأمر، تقوم السماوات والأرض بأمره، يمسكهما وما بينهما بحكيم تدبيره أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما أحد من بعده. مولياً هذه الحقيقة الكونية إدراكه وفكره كله، غير ملتفت إلى شيء من الظلال والآثار لابحكم وجود عليها ولا بحكم عدم… فإن التفت إليها أو تعامل معها فبأمر من الله يلتفت إليها وتنفيذاً لشرعه يتعامل معها.

وهي الرتبة التي إذا تبوأها الإنسان أصبح رباني المشاعر والنزعة والسلوك. يتعامل مع الدنيا خادماً لديّانها، ويعبّد منها طريقاً يمشي فوقه إلى مرضاة مولاه وخالقه، فكل شيء فيما يراه بعينه وفيما يدركه بعقله من الله مبدؤه وإليه منتهاه، وفي سبيله التعامل معه والإقبال عليه.

وهي الرتبة التي كان الرسل والأنبياء أول المتبوئين لها والمصطبغين بها، يليهم الصديقون والربانيون، الذي كان يفيض بهم عصر السلف الصالح، ثم امتدت منهم قلة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أولئك هم الذين قال الله عنهم: ((ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ)) [ الواقعة:56\13-14].

فهؤلاء، لايتجهون في تعاملهم، إلا إلى الوجود الحق الذي هو وجود الله عز وجل، إذ كل ما عداه فهو بالله، ويستحيل أن يكون له وجود مع الله. وهؤلاء معافون من حالة ((الفناء)) التي قد تضطرهم إلى قول ((ما في الجبة إلا الله)) أو ما يشبهها. لأن استغراقهم في شهود الذات الإلهية لم يغيبهم عن المكونات، ولم يبق في نفوسهم أي قيمة أو فاعلية لها. فهم موقنون بوجودها، ولكنهم غائبون عنها.

ومن وعى معنى قول الله عز وجل: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الأعراف: 7\54]. أدرك أن كل ما قلته عن هذه الرتبة الثالثة مندرج في هذه الجملة القرآنية الجامعة: له الخلق. والمخلوق موجود.. وله الأمر، والمأمور مغيَّب في حكم الآمر وتدبيره.

اللهم بصّرنا بحقائق كتابك، وأرنا مظاهر خدمتها لشرعك، وحققنا اللهم بذلك يقيناً وسلوكاً، ولاتجعل قصارى نصيبنا من ذلك نصاعة القول وبراعة البيان.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي