الحكمة السابعة والثلاثون: كان الله ولا شيء معه. وهو الآن على ما عليه كان

أما الفقرة الأولى من هذه الحكمة، فحديث ذكره رسول الله، وهو موجود في الصحاح. وقد أورد البخاري في ذلك ثلاث روايات: إحداها جاءت بلفظ ((كان الله ولم يكن شيء غيره)) والثانية بلفظ ((كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء)) والثالثة بلفظ ((كان الله ولم يكن شيء قبله)) ومن الواضح أن المعنى الذي تدلّ عليه الرواية الثالثة هذه من مستلزمات المعنى الذي تقرره الروايتان الأولى  والثانية. فإنا إذا علمنا أن الله كان ولم يكن شيء غيره، علمنامن باب أولى أنه لم يكن قبله شيء. إذ الشيء الذي لاوجود له مع الله، ليس له وجود قبله من باب أولى. إذن فهذه الروايات الثلاث متآلفة متوافقة، ولعله (ص) أكد هذه الحقيقة الاعتقادية الكبرى، بهذه الصياغات الثلاث ذكرها في مناسبات عدّة.



ثم إن هذه الحقيقة نصت عليها بعبارة كلية جامعة الجملة القرآنية من كلام الله عز وجل: { اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } { الرعد: 13/16 } .

وقد أفاض علماء العقيدة في بيان الأدلة العلمية، العقلية والنقلية، على أن كل ما عدا الله عز وجل مخلوق وحادث. وأن القدم صفة ذاتية خاصة بالله عز وجل. وقد أطالوا في بيان أسخف ما توهمه الفلاسفة القدامى، من أن جزئيات الموجودات هي التي تتصف بالمخلوقية والحدوث. أما كلياتها، أي الأنواع التي تفرعت تلك الجزئيات منها، فهي قديمة قدم الله عز وجل، أي إنها كانت ولاتزال موجودة معه منذ الأزل الذي لا أوّل له.

وحسبي أن ألفت نظرك إلى البرهان الذي ما ينبغي أن يغيب عن إدراك عاقل، من أن العجز الذي تعاني منه جزئيات الموجودات، والذي يحوجها إلى موجد ينقلها من ظلمات العدم إلى ساحة الوجود، هو ذاته العجز الذي تعاني منه كليات تلك الأجزاء، بل إن العجز لم يسر إلى الجزئيات إلا من كلياتها.. ثم إن الشادين من طلاب الفلسفة والمنطق، يعلمون أن الكلي لايتقوم إلا بجزئياته. أي فحيثما وجد الكلي لابدّ أن تكون جزئياته ماثلة في قوامه. فإذا صحت دعوى القدم النوعي، أي الكلي، للأشياء، إذن لابدّ أن تتبعها بالضرورة دعوى قدم الجزئيات بل الأجزاء أيضاً، التي لايستقيم وجود ما هو كلّي إلاّ بها.

إذن، فالفقرة الأولى من هذه الحكمة، ترسيخ وتأكيد لحقيقة من أهم حقائق العقائد الإسلامية، ولسنا الآن بصدد ذكر أدلتها العلمية التي تتمثل في بطلان تسلسل العلل غير الذاتية إلى ما لانهاية، وفي ‌بطلان الدور، وفي بطلان القول بترجيح الشيء على غيره بدونمرجح. وإن كنت حريصاً على الرجوع إلى تفاصيل هذه البراهين، فارجع إلى بحث ((سرمدية العالم ووحدته)) من كتابي (نقض أوهام المادية الجدلية)، أو إلى الصفحات من 78 إلى 96 من كتابي (كبرى اليقينيات الكونية).

أما الفقرة الثانية التي جاءت الأولى تمهيداً وتأسيساً لها، فهي قوله رحمه الله ((وهو الآن على ما عليه كان)).

أي كما أن الله عز وجل لم يكن معه شيء في ظلمات الماضي القديم، قبل أن توجد المكونات، فهو الآن أيضاً ليس معه شيء. لم يختلف الزمن الحاضر عن الأزل والماضي السحيق في هذه الحقيقة قط، بل لن يختلف الماضي والحاضر في ذلك عن المستقبل الآتي أيضاً.

وأصحاب الاستعراضات السطحية العاجلة لما يقرؤون أو يسمعون، لابدّ أن يستنكروا هذا الكلام، وأن يعدّوه تحدياً باطلاً للمشاهدات المحسوسة. فهاهي ذي السماوات والأرض والأفلاك والحيوانات موجودة أيضاً مع وجود الله عز وجل.

ولكي تتجلّى الحقيقة الكامنة وراء هذه النظرة السطحية العجلى، يجب أن نتساءل: أتشترك المخلوقات التي نراها مع الله عز وجل في صفة الوجود؟ لاتستطيع أن تقول في الجواب: نعم، إنها تشترك معه في صفة الوجود، إلا إن استطعت أن تقول عن الطفل الصغير الذي يوقفه والده على قدميه بيديه إذ يمسكه بهما: إنه يشترك مع والده في صفة الوقوف على القدمين.

إن من الأمور البدهية أن الطفل في هذه الحال إنما يقف على قدميه بإيقاف والده له، فهو ما دام يمسكه بيده، يشدّه إلى الأعلى، يظهر بمظهر الواقف كأبيه، فإذا تركه خرّ واقعاً على الأرض، إذن فوقوفه متحقق بأبيه، لا مع أبيه. وكم بين العبارتين من الفرق الشاسع الكبير.

 

فكذلكم المخلوق بالنسبة للخالق، إن الله هو الذي أمدّه بصفة الوجود ابتداء، وهو الذي يمتعه بهذه الصفة دواماً، أي إن استمرار وجود المخلوق أياً كان، باستمرار إمداد الله له بالوجود لحظة فلحظة، فلو تخلّى الله عنه فلسوف يتحول في اللحظة ذاتها إلى هلاك وعدم.. فكيف يكون المخلوق شريكاً مع خالقه في صفة لايملك أن يستبقيها عنده لحظة واحدة؟

ومن هنا قال رسول الله (ص): أصدق ما

قاله لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ……………………

أي كل شيء ما خلا الله في حكم المعدوم، وليس بينه وبين أن يتبين لك هلاكه وبطلانه، سوى أن يتخلّى الله عنه، أي سوى أن ينتهي الإمساك الذي عبرّ عنه بيان الله بقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا } { فاطر: 35/41 }.

ولكن فما المعنى السلوكي أو التربوي الذي يذكّر به ويدفع إليه ابن عطاء الله، من وراء بيان هذه الحقيقة؟

المعنى التربوي الذي ترسخه هذه الحقيقة في نفس المؤمن، هو حصر الربوبية، ومن ثم الألوهية، في ذات الله وحده، فلا يرجو الخير إلاّ منه، ولايخاف الضرّ إلا منه، وإذن فلايتكل إلاّ عليه، ولا يتخذ لنفسه ولياً من دونه. له وحده كل حبّه، ومنه فقط كل رجائه.

ومن شأن هذا المعنى التربوي، أن لايشغله شيء من المكونات التي يراها حوله عن الله عز وجل، ولايحجبه عنه، بل الشأن فيها أن تذكره بالله عز وجل إن نسيه، وأن يعيش منها مع صفاته ومظاهر آلائه كلما رآها أو تعامل معها.

ولايتحقق العبد بتوحيد الله عز وجل، إلاّ إن أدرك الحقيقة التي يقولها ابن عطاء الله بيقينه العقلي، وهي أنه ليس مع الله أي موجود لا اليوم ولا من قبلُ ولا من بعدْ، ثم اصطبغ وجدانه بهذا المعنى التربوي.

وملاك هذا الأمر أن تكون على بينة من الفرق بين الوجود مع الله وهو باطل ومستحيل، وبين الوجود بالله وهو ثابت وحق.

 المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي