الحكمة الرابعة والعشرون: لاتستغرب وقوع الأكدار، مادامت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ماهو مستحَقُّ وصفها وواجب نعتها

 

هذه الحكمة تقرر واقعاً مشاهداً, توالت على تأكيده الأجيال وعبر عنه الحكماء والشعراء. إذن فليس ثمة ما يدعو إلى حشد البراهين على هذا الذي يقرره ابن عطاء الله.



ولكن لماذا قضى الله أن تكون دارنا الدنيوية هذه مشوبة بالأكدار، وأن يكون نعيمها ممزوجاً بالغصص، وأن تكون ليالي السرور فيها مهددة بالمصائب التي قد تكمن وراءها؟

الجواب أن لذلك حكمة تتجلى في حقيقتين اثنتين:

والجواب: أن لله تعالى حكمة باهرة في ذلك، تتجلى في تذكرنا لحقيقتين اثنتين:

الحقيقة الأولى: أن الله عز وجل جعل من هذه الدنيا دار تكليف، بل جعل منها قاعة امتحان إن جاز التعبير. وقد علمنا في أكثر من مناسبة مرّت أن المهمة التي كلّف بها الإنسان في حياته الدنيوية هذه، هي: أن يمارس عبوديته لله بالسلوك الاختياري، كما قد خلق عبداً له بالواقع الاضطراري، وإنما يمارس الإنسان عبوديته لله بالسلوك الاختياري، من خلال تنفيذ أوامره، والانقياد لأحكامه والخضوع الطوعي لسلطانه. وبذلك غدا الإنسان مكلفاً.

فإذا فرضنا أن الحياة التي أقام الله الإنسان فيها، ليس فيها إلا النعيم الصافي من الأكدار، فيها السرور الذي لاتشوبه منغّصات، أنى التفت الإنسان لا يجد إلا ما لذّ وطاب، وكيفما تقلب وجد نفسه فوق مهاد من الرفاهية الصافية من كل شوب، إذن فمن خلال أي سلوك أو من خلال أي استجابة لأوامر الله تتجلى عبودية الإنسان هذه، أي عبوديته لله بسلوكه الاختياري؟

ممارسة العبودية ثمرة للتكليف، والتكليف لا يسمى تكليفاً إلا إن كان ملاحقةً للمكلَّف بما فيه كلفة أي مشقة. وإذا كانت الدنيا كما قد وصفت نعيماً مقيماً صافياً عن المنغصات، فأنى للمشقة أن تظهر، وفي أي أحوال هذا النعيم يتجلّى ويبرز؟

عندما يرى الإنسان نفسه معافى في بدنه لا يتهدده مرض، مستقراً في عهد شبابه لا يعاني من نذير كهولة ولا مشيب، قد حماه الله من أفواه الشامتين والساخرين، ومن أيدي الظالمين وفجور الطاغين، غارقاً في بحر من النعيم وأسبابه فلا يتهدده فقر ولا تدنو إليه فاقة ولا عوز، آماله محققة وأحلامه مزدهرة. ثم إن التكاليف الإلهية لم تنتقص له شيئاً من رغده ونعيمه هذا، بل جاءت متساوقة مسايرة لتيارات رغائبه وأحلامه، فكيف يسمى ذلك تكليفاً والكلفة لم توجد، بل كيف يسمى ذلك ممارسة للعبودية وسط مناخ لا موجب فيه لتذلل ولا انكسار، لا افتقار فيه لحاجة أو التجاء؟

ولقد علمت مما مرّ ذكره سابقاً أن الدعاء هو العبادة، وقد علمت أيضاً أن الدعاء ثمرة الحاجة والفاقة والخوف من الآلام والمصائب، فمن لم يكن خائفاً على نفسه منها، وكان واثقاً من أنه يعيش في كلاءة حياة ليس فيها إلا مقومات الرغد والنعمة والسرور، فهو أبعد ما يكون عن أن يمدّ يد فاقة أو ضراعة إلى الله. ولماذا يمدّها وهو لايعاني من فاقة ولا يخشى على نفسه من ضيم، وليس من حوله ما يهدد نعيمه بأي مكروه.

إذن، فحياة هي الرغد الصافي عن الشوائب، مع الابتلاء بالتكاليف التي خاطب الله بها عباده، بينهما من التشاكس والتناقض ما لا يخفى على ذي بصيرة قط.ومن المعلوم أن سَدَى ولحمة التكاليف الإلهية هما الصبر والشكر. فمن خلالهما تستبين العبودية الطوعية لله تعالى.

وإنما يكون الصبر أمام الشدائد والمصائب والآلام. في حين أن الشكر يكون باستخدام النعم التي أسداها الله تعالى للإنسان للمهام والوظائف التي خلق من أجلها. فمادّة الصبر هي المصائب والشدائد، ومادة الشكر هي النعم والرغائب، إذن فحياة التكليف هذه ينبغي أن تكون مزيجاً من هذه وتلك.وقد نبه البيان الإلهي الإنسان إلى ما لابدّ أن يواجهه في حياته الدنيوية هذه، من هذا المزيج، ولفت نظره إلىالحكمة من ذلك. كي لا يفاجأ منها بما لم يتوقع.

من ذلك قوله جل جلاله: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذَىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } { آل عمران: 3/186 }

 ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: { وَلَنَ بْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } { البقرة: 2/155ـ157 }

 ومن ذلك قوله تعالى: { وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً } { الفرقان: 25/20 }

وفتنة الناس بعضهم ببعض، تتمثل في الخصومات والأذى ينال بعضهم من بعض، كما تتمثل في ابتلاء الغني منهم بالفقير والفقير بالغني.

والبيان الجامع لأشتات هذه الابتلاءات كلها قول الله تعالى: { تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } { الملك: 67/1ـ2 }

 وإذا تبين لك أن الحياة الدنيا هي دار التكليف أو الابتلاء والامتحان، بان وظهر لك أن الحياة الآخرة هي دار المثوبة والجزاء. انظر إلى هذا الربط بينهما من خلال قوله عز وجل: { وَانَ بْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ } { الأنبياء: 21/35 }

الحقيقة الثانية: أن الشأن في هذه الحياة الدنيا إذن، أن تكون محدودة بميقات معين، هو ميقات الامتحان الذي قضى به الله عز وجل لعباده فيها، وبعبارة أخرى: الشأن فيها إذن أن تكون ممراً امتحانياً إلى مقرّعاقبة وجزاء. وقد قضى الله تعالى أن تكون البوابة التي يعبر منها الناس، من حياتهم الدنيا هذه، إلى حياتهم البرزخية التي هي مقدمة لحياتهم الآخرة، بوابة الموت!..

إذن فالموت هو عاقبة كل حيّ في هذه الحياة الدنيا، وقد علمت أن الموت ليس عدماً كما قد يتوهم بعضهم، وإنما هو انتقال من حياة إلى حياة أخرى.

أفترى إذن أنّ من الحكمة أن يجعل الله من هذه الحياة الدنيا التي هي ميقات الامتحان، ومن ثم فهي أشبه ما تكون باستراحة في طريق مسافر، مثابةَ نِعَمٍ صافيةً عن الشوائب والكدورات، ولذائذَ ومتعاً تتسامى فوق كل الغصص والمعكرات، وأن لا يبتلى منها الإنسان بآفة، ولا يتهدد شبابه كهولة ولا شيخوخة، ولا يتهدد عافيته ألم ولا مرض؟...

تخيل أنك تتقلب متنعماً في حياة من هذا القبيل، إذن فلسوف تزداد تعلقاً بها كلما امتدّ عمرك فيها، فكيف تكون حالك إن جاءك الموت ودُعيت إلى الرحيل من هذه الحياة؟..

سيكون فراقك لها وانتقالك منها، أشبه ما يكون بكتلة من الحرير تعلقت من سائر أنحائها بنبات كثيف ذي رؤوس يابسة شائكة، جاء من اجتذبها بيده جذبة واحدة بشدة، فتقطع منها في يده ما تقطع، وتناثر منها ماتناثر بين الشوك.

كل شيء في كيانك سيكون متعلقاً بالحياة التي عشقتها وبالدنيا التي استهوتك الإقامة الدائمة فيها. ولن يكون لديك أي استعداد لفراقها... وفيم تفارقها، وكل ما رأيته وسمعته وذقته منها جعلك تركن إليها ركون الماء في العود والروح في الجسد، والعاشق إلى المعشوق؟!..

فكان من عظيم لطف الله بعباده، أن جعل نعيم الناس في دنياهم بمقدار احتياجهم إليه على طريق تحقيق المهام التي كلفوا بها، وجعل عافيتهم أداة يسخرونها في هذا المضمار، وآتاهم من القدرات والإمكانات والأموال ما يسخرونه لإنجاز الوظيفة التي أقامها الله عليها.

ثم إنه عز وجل جعل إقبالهم إلى الدنيا واستشرافهم لنعيمها أشدّ ما يكون في زمن شبابهم إذ يكونون حديثي عهد بالإقبال إلى الحياة والتعرف عليها، فإذا دخلوا في مرحلة الكهولة تناقص إقبالهم إلى متع الدنيا وأهوائها، تحت وطأة القوة المتراجعة والغرائز التي تميل إلى الملل أو البرود.. فإذا دخلوا في مدارج الشيخوخة، ازداد ذلك الإقبال تراجعاً، وعادت علاقتهم بأكثر متع الدنيا كمن طال عهده بالجلوس إلى مائدة عليها ألوان من الطعام، تذوق من كل لون منها ثم عاد يتذوق ويطعم منه، إلى أن تبرّم به وملّه، واتجهت منه الرغبة إلى جديد ومستحدث غير منظور.

هذا بالإضافة إلى غصص الآلام والأسقام والمصائب التي تنال منه بين الحين والآخر.

كل ذلك يُهَيِّئُهُ نفسياً لساعة الرحيل التي يوشك أن يحين ميقاتها، فإذا طرق الموت بابه فعلاً، بعد هذه المقدمات، لم يأسف على الدنيا التي يرحل منها، ولم يفارقها مفارقة العاشق معشوقه، بل يفارقها مفارقة ذاك الذي طال عهده بالمائدة التي ظل جالساً إليها، لاشك أنه قد ملّ منها، قبل أن تملّ هي منه.

ولا تنس أنني أتحدث عمن بدأ حياته فتعرف على هذه الدنيا وعلاقته بها من خلال معرفته، بل يقينه بالحقيقة الأولى التي شرحتها لك قبل قليل.

إنه يتخذها استراحة في طريق، ومنزلاً موقوتاً يريح فيه جسمه، ويجدد نشاطه ويتناول ما قد يحتاج إليه من طعام وشراب، ليواصل سيره بعد ذلك إلى غايته، غير آبه بما قد رآه في تلك الاستراحة من ملهيات، وغير متأثر بما قد ناله فيها من موحشات.

ذلك لأنه قد تشبع ببيان الله لهوية هذه الحياة الدنيا، ووقف طويلاً يتدبر أمام قوله تعالى: { إِنَّما هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ } { غافر: 40/39 }

 المهم أن كلاً من المنطق والذوق يقتضي أن يكون المنزل الذي يقيم فيه النازل لمدة موقوتة، مطبوعاً بطابع التوقيت، وأن تكون وسائل الراحة فيه بالقدر المتفق مع طبيعة الإقامة المؤقتة، كي يتاح للراحل عنه أن يتركه دون أي تعلق به ودون أي أسف على فراقه.

على أن هذا النظام الذي أقامه الله في علاقة الإنسان بالحياة الدنيا فيه قدر كبير من الرحمة واللطف، حتى لمن عاش حياته ثم رحل عنها دون أن يتعرف على حقيقتها وعلى واجباته فيها، وعلى علاقته بمولاه وخالقه الذي استودعه فيها إلى حين، ثم نقله عنها إلى المصير الذي لا بدّ أن ينتهي إليه هو وأمثاله من أفراد هذه الخليقة.

إذ الكهولة والشيخوخة بعد الشباب.. والآفات والأوجاع التي تتسرب إلى الجسم.. ومصائب الدنيا وابتلاءاتها، كل ذلك جامع شترك يواجه المؤمن والملحد والفاسق، ومن ثم فإن من شأن هذه الآفات إذا تسربت ثم تزايدت، أن تعكر صفو العلاقة بين الإنسان ودنياه التي كان بالأمس شديد التعلق بها، فإذا حان رحيله عنها لم يكن له بها من تعلق، أو يكون له بها تعلق من يرى فيها ذكريات أيامه الجميلة الخوالي.

فابن عطاء الله يلفت النظر في حكمته هذه إلى ضرورة معرفة الإنسان لهذا كله، كي يكون على بيّنة من الدار التي أنزله الله فيها وعلاقتها بالوظيفة التي خلق الإنسان من أجلها، ولكي لايفاجأ منها بما لم يكن يتوقع. فإنّ ذلك أحرى بأن ينسجم معها، وبأن لايركن إليها ركون الهائم بها المعتمد بكليته عليها.

وانظر في هذا إلى الفرق مابين المؤمن والكافر

أما المؤمن الذي فتح عينيه على الدنيا التي أقامه الله فيها، من خلال تعريف القرآن بها: دار ابتلاء، يتمازج الخير فيها بالشر، يُفتتن فيها الإنسان بأخيه الإنسان، يُبتلى فيها بالنعمة ليشكرها فلا يطغى ولا يبطر بها، ويبتلى فيها بالمصيبة ليصبر عليها، ويحتسبها بأجر من الله، فلا يضجر منها. ثم إن الله سيوفي كل إنسان حقه لقاء شكره عند النعمة، ولقاء صبره عند المصيبة، يوم الجزاء، عندما يقوم الناس كلهم لرب العالمين، تماماً كما يؤكد بيان الله عز وجل القائل: { كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ } { آل عمران: 3/185 } والقائل: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ  )) [أل عمران: 3195] أقول: أما المؤمن الذي عرف هذا كله عن الدنيا قبل أن يتعامل معا, فإنه لن يفاجأ منها بأي مجهول, ولن يضيمه منها أي مكروه. بل يقبل عليها إقبال الموظف إذ يدخل دائرته لأداء وظيفته... أو إقبال الطالب أدخل إلى قاعة الامتحان, لأداء الامتحان الذي هو بصدده.

 إذا أقبلت إليه النعمة استقبلها عالماً بواجبه تجاهها، بل تجاه من أسداها إليه، فاستعملها ونعم بها على الوجه الذي شرعه الله، دون بغي ولا طغيان.

وإذا واجهته المصيبة أياً كان نوعها، استقبلها متجملاً راضياً صابراً محتسباً أجره على ذلك عند الله، ملتجئاً إليه عز وجل أن يعينه على الثبات والصبر، وأن يكرمه بالعفو والعافية.

وهو في كلا الحالتين يمارس عبوديته لله تعالى بصدق. فلا هو يُخدع بالنعم والمتع ومباهج الدنيا ولذائذها، إذ يعلم أنها ظلال زائلة، ولا هو يجزع من المصائب ويشقى بسببها، لأنه يعلم أنها ابتلاءات من الله عز وجل يمتحن العبد بها، ثم إنه يؤجر الأجر الأوفى عليها إن هو نجح في امتحانه بها فصبر وتجمل وسأل الله العون والتوفيق.

ثم إنه ينظر إلى الدنيا، طال أو قصر أجله فيها، من خلال المنظار الذي يتجلى له في محكم بيان الله عز وجل، وإذا هي أيام قليلة تافهة، بالنسبة لما هو مقبل إليه من بعد، فلا خيرها إن غاض أو غاب مأسوف عليه، ولا شرها إن أقبل أو استفحل مشكلة ذات بال.. ذلك لأنه قد تشبع بمثل قول الله تعالى:

ـ { قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } { النساء: 4/77 }

ـ { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادِ } { آل عمران: 3/196-197 }

ثم إنه يدرك إلى جانب ذلك أن الله الذي أقامه؟ في دنيا هذا الابتلاء، أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، فلا يضيع للإنسان جهداً بذله في سبيل خير، ولا يهمل له حقاً اغتصبه منه ظالم، ولا يترك له أي ظلم اقترفه أو جريرة اكتسبها، بل يقضي بين عباده في ذلك كله يوم الجزاء الموعود طبق قانونه عز وجل الساري على عباده جميعاً: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } { الزلزلة: 99/7-8 }

فهذا المؤمن الذي استقبل حياته الدنيا هذه، واستقبل معها بوعي ويقين هذا التقرير الإلهي عنها، سيعيش حياة هنيئة على كل حال، سواء تنقل في ظلال النعمة والرخاء، أو تقلب بين أمواج الشدائد والبأساء، إنه سيكون فعلاً كما قال رسول الله عنه:

((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له))

أما الكافر ، ونقول بعبارة أشمل: أما غير المؤمن، فهو إنسان وفد إلى هذه الدنيا، وتعرّف على واقعها وهويتها، من خلال غرائزه ومشتهياته، فهو يريدها كما يهوى ويتمنى، ويصرّ إصراره على أن يكافح ويناضل في فجاجها، ليخضعها لما يشتهي ويريد... وهو إذ يصرّ إصراره هذا يرى ويوقن في قرارة نفسه أن حياته هذه التي يعيشها هي اليوم الذي لا غد من ورائه، فهي حظه الأوحد من الحياة التي تفتحت عيناه عليها، ومن ثم فإن عليه أن يغامر جهد استطاعته ليجعل حظه منها سعادة ورغداً وهناء، وليبعد ظلال المصائب والمآسي عنه بكل ما يملك إلى ذلك من سبيل.

ولكنه، إذ يسعى سعيه هذا، يفاجأ بأن هذه الدنيا ما كانت ولن تكون كما يريد، بل لابدّ أن يكون هو ـ شاء أم أبى ـ كما تريد!...

غير أنه وقد تجاهل أو جهل التقرير الإلهي الوارد عن حقيقة هذه الدنيا وشأنها، وعن المهمة التي خلق الإنسان من أجلها، وعن المستقر الذي ينتظره بعد أن يمرّ في هذا المستودع القصير، غير مستعدّ لأن يخضع بطواعية منه لنظام الدنيا وما يفاجأ به من أحداثها معه ومواقفها منه... وإنما ينساق إلى نظامها هذا قسراً وعلى مضض شديد منه وكره.

والسبب، أنه غير مستعد لأن يقيد نفسه بواجب الشكر عند مجيء النعم، ولا لأن يلزم نفسه بواجب الصبر عن ورود المصائب والآلام، إذ هو لا يؤمن بالثمرات التي ينالها على الشكر في الحالة الأولى، ولا يؤمن بالثمرات التي ينالها على الصبر في الحالة الثانية، لأن الدنيا فيوهمه هي يومه الوحيد الذي لا يملك أيّ غد من ورائه، ومن ثم فهي حظه الذي لا بديل له عنه ولا ثاني له من ورائه. فلمن يشكر؟ وفيم يصبر؟

فكيف تكون مشاعر هذا الإنسان الذي جاء يحمّل الدنيا أوقاراً من أحلامه وآماله الوردية الرائعة، وعندما يفاجأ منها بالغصص المنكرة، وبالمآسي والمصائب الموحشة؟ ما يكاد يفرح بساعات من لهوه الذي يطوف به ومشتهياته التي ترقص بين يديه، حتى تغيب عنه إشراقة هذه الساعات، وتتحول الدنيا من حوله إلى نقيض هذا الذي كان يفرح ويمرح فيه: سلسلة من المصائب والآلام المتنوعة تأخذه ولا تردّه..

ثم كيف تكون مشاعره عندما يجد أن ليل الشباب قد فارقه بكل ما كان يفيض به من قوة وغرائز ورغبات وأحلام مقبلة... وقد أقبل إليه من ورائه المشيب فالشيخوخة بكل ما فيها من ضعف وذبول، وبكل ما تحمله إليه من بشائر الموت ومقدماته؟..

كيف تكون مشاعره آنذاك، وهو لا يزال موقناً بأنه سيرحل من دنياه هذه إلى عدم مطبق، وأنه إنما يمرّ بالأسطر الأخيرة من قصة وجوده في الحياة؟

وما هو معنى الصبر بالنسبة إليه؟ وما قيمته؟ وماجدواه؟ إن الصبر في حقيقته ليس أكثر من تعلق الأمل بخير متوقع. فإن لم يكن ثمة أمل يتعلق بيقين لا ريب فيه بالحياة الآخرة، فلا معنى للصبر في هذه الحال. وإنما هو الخضوع القسري لعذاب لا ثمرة من ورائه ولا مناص منه. وجدير بمن كانت هذه حاله أن يختنق أو ينفجر.

 وإني لأشبّه حال كلٍّ من المؤمن والكافر في فرق ما بينهما في هذا الأمر، برجلين قضي عليهما أن يدخلا فيسيرا في نفق مظلم ذي اتجاه واحد، أحدهما يوقن أن النفق طريق لا بـدّ منه ينتهي إلى واحة غناء فيها كل ما لذّ وطاب، والآخر يوقن أنه ينتهي إلى سدّ لا يمكن اختراقه. من الواضح أن الأول منهما كلما أوغل سائراً في ظلمات ذلك النفق انتعشت نفسه وازدهرت آماله وأحلامه إذ يعلم أنه غدا على مقربة من الواحة التي تكمن في نهايته.. وأن الثاني منهما كلما أوغل سائراً فيه أطبق الهم على خناقه وازدادت ظلمات النفق ضيقاً عليه، وتصور أن عاقبة ذلك النفق أن يتحول إلى قبر يختنق فيموت فيه.

ولعلّ بوسعك الآن أن تعلم السبب فيما يلجأ إليه جيل الضياع والتطوح في الغرب، من الركون إلى أنواع المخدرات، والاستسلام لغول المسكرات، والسبب في الأمراض النفسية المستشرية هناك، وفي الشذوذات المرهقة التي تنقلهم من شقاء إلى شقاء، ثم في النسبة المرعبة المتزايدة للمقدمين على الانتحار.

لديّ إحصاء يعود إلى ما لا يقل عن عشر سنوات، يقول إن عدد المنتحرين كل عام من طلاب وطالبات جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، مابين (12 ـ13)ألف شخص، ولا أدري إلى أي حدّ ارتفع العدد في هذه الأيام.

بقي أن تعلم أنه لا النعم والمتع التي تتسابق إلى الإنسان وتغمره بلذائذها هي مصدر السعادة التي تهيمن على النفس وتنعش القلب،ولا المصائب والأسقام التي قد تتكاثر لديه هي مصدر الشقاء الذي تصطبغ به النفس ويسيطر على الشعور.

رب إنسان لا تعلم المصائب سبيلاً إليه، تفيض داره بالمتع والنعم، ويفيض جسده بالصحة والعافية، ولكن قلبه لا يعلم مع ذلك طعم السعادة والسرور!.. يضيق بالدنيا كلها ذرعاً دون أن يشكو أي ألم، ويعاني من وحشة متلاحقة وهو في أبهى ساعات مرحه وتراقص الدنيا من حوله.

ورب إنسان غابت عنه متع الدنيا ونسيته مباهجها وأهواؤها، ابتلي بالفقر في جيبه وبالأسقام في جسده، وتنظر إليه فإذا البسمة الصادقة لا تفارق وجهه، والسرور الحقيقي يغمر قلبه.ألا فلتعلم أن الأمر ليس فيه أي مفارقة، وليس فيه ما يدعو إلى العجب. مصدر الشعور بالسعادة والشقاء هو القلب..

والقلب هو مكان تجليات الله عز وجل الذي أضحك وأبكى، والذي إن شاء شرح من خلال ذلك صدرك، وإذا الدنيا كلها ترقص على إيقاع سرورك، وإن شاء بعث من خلال ذلك أيضاً فيه الوحشة والضيق، وإذا بمتع الدنيا كلها تتحول إلى ظلل داكنة سوداء تنفث في كيانك شعور التشاؤم، وتملأ قلبك بثقل الهموم.

إذن فاستخدم ما تطوله يداك من الدنيا وأسبابها لأَوَدِ حياتك وإقامة عيشك. ثم اطرق بيد الإيمان الحقيقي باب الله تعالى لإسعاد قلبك ولشرح صدرك. وابذل كل ما تملك من جهد في سبيل أن تكون مم نال عنهم رسول الله في الحديث الذي مرّ ذكره، وأعود فأختم به شرح هذه الحكمة:

 ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)).

 

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.