الحكمة الرابعة والثلاثون: اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف يناقض عبوديتك، لتكون لنداء الحق مجيباً، ومن حضرته قريباً

أوصاف البشرية هذا الجسم الترابي الذي كون الله الإنسان منه، بالإضافة إلى جملة الطبائع والغرائز التي ركبت في كيانه. وهي طبائع وغرائز كثيرة متنوعة، منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم.



فمن هذه الصفات أو الطبائع فطرة الشعور بمعنى العبودية لله، وحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والمأوى، وغريزة حب التملك، واستئناسه بأخيه الإنسان والتطلع إلى التعاون معه، وركون الجنس إلى الجنس.. ومن الصفات المذمومة التي من شأنها أن تتسرب إليه، استعداده للعجب بنفسه والاستكبار على الآخرين، والتكالب على المال، والحسد والضغينة والشحناء والبغضاء، والعصبية للذات أو القوم أو الجماعة..

تلك حقيقة معروفة وملموسة، يعرفها كل منا في نفسه، ولقد وصف الله الإنسان بجملة هذه الصفات، بعبارة جامعة، وذلك في قوله عز وجل: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)) [الشمس:91\7-8].

وجاء التعبير عن هذا المعنى ذاته، ولكن بشيء من التفصيل أو المستند العلمي، في قوله عز وجل: { إِنّا خَلَقْنا الإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً } { الإنسان: 76/2 } أي إن النطفة التي قضى الله أن يخلق الإنسان منها، تحتوي على أخلاط من الطبائع والصفات المختلفة، هي في داخل النطفة مجرد بذور ذات رموز وإشارات، فإذا تكامل الخلق، وتحولت النطقة إلى بشر سويّ، تفتحت البذور الخفية، وتكونت منها الطبائع الظاهرة الجلية، ويتبع الله عز وجل هذا البيان العلمي بالكشف عن حكمته عز وجل من تحميله الإنسان كل هذه الطبائع والصفات التي كثيراً ما تكون متعارضة بل متقادمة، وهي أن يزجّه الله عز وجل من ذلك كله في حالة من الامتحان والابتلاء.

وأنت تعلم أن كل ما يقوله العلماء اليوم عن الشريط الوراثي ((الكروموزومات)) لايعدو أن يكون شرحاً لهذا الذي يقرره بيان الله عز وجل.

إذا تبين هذا، فلنعد إلى هذه الحكمة الجديدة التي يخاطبنا بها ابن عطاء الله. إنه يقول: انظر إلى ما ركب فيك من أوصاف البشرية، وتبيّن كل ما لايتفق مع عبوديتك لله منها، فابتعد عنه وأخرج نفسك منه أي أبعد ذاتك عنه.

ويتبين لك بهذا أن ((من)) في قوله ((من أوصاف بشريتك)) للبيان وليست بمعنى التجاوز، لأن المعنى الذي يرمي إليه هو: انظر إلى ما تراه من أوصاف بشريتك، فأخرج نفسك عن كل ما يتناقض مع عبوديتك لله منها. أو تكون من بمعنى التجاوز، على أن يكون قوله: ((عن كل وصف مناقض لعبوديتك)) بدل بعض عن كل، أي يكون بدلاً عن قوله: ((من أوصاف بشريتك)). وهذا كما لو قلت: تحرر من صفاتك، من كل صفة سيئة منها.

إذن، فلسنا بصدد الحديث عن الصفات والطباع التي لا تتناقض مع عبودية الإنسان لله، مما يتوقف عليه أصل الحياة أو كمالها، بل المطلوب من الإنسان أن يرعى تلك الصفات ويحافظ عليها. إذ المحافظة على الحياة، برعاية ضرورياتها وحاجياتها وتحسينياتها مقصد من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، والمحافظة على ما به تستقر وتكمل الحياة، يدخل حكمها في المحافظة على الحياة ذاتها.

غير أن المهمة الخطيرة التي يجب أن ينهض بها المسلم، تتمثل في ضرورة التخلص من الطباع والصفات التي لا تتفق ومسالك عبودية الإنسان لله عز وجل كالكبر والعجب، والحسد والحقد والشح والتكالب على المال أي المبالغة في حبه بحيث يندفع إلى الحصول عليه أينما لاح ومن أي السبل أمكن.

ولعلك تسأل: أفتعد هذه الصفات، صفات جبلية فطر الله الناس عليها، أم هي صفات مكتسبة تتسرب إلى الإنسان لأسباب عارضة؟

 

والجواب أن الإنسان مفطور على قابليات واستعداد لها، يدل على ذلك قوله عز وجل: { إِنّا خَلَقْنا الإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً } { الإنسان: 76/2 } وقد مرّ بيان معناه، وقوله تعالى:  ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )) [الشمس: 91\7-8] وقوله عز وجلّ: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )) [النساء:4\128].

ومعنى قولنا: إن الإنسان مفطور على الاستعداد لها، أن التربية والظروف الاجتماعية من شأنها أن تلعب دوراً كبيراً في ترسيخها أو القضاء عليها.

اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف يناقض عبوديتك، لتكون لنداء الحق مجيباً، ومن حضرته قريباً  - لماذا فطر الله الإنسان على الصفات المرذولة ثم أمره بالتخلص منها؟

 والجواب عن ذلك من خلال شطرين اثنين  وربما سأل بعضهم فقال: فلماذا فطر الله الإنسان على هذه الصفات المرذولة، ثم أمره بالتخلص منها؟

ولا يتكامل الجواب عن هذا السؤال إلا بشطرن اثنين:

الشطر الأول أن جوهر هذه الصفات، بقطع النظر عن الغلو فيها أو سوء استعمالها، ذو أثر إيجابي مفيد في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. فلولا سريان شعور الأنانية في كيان الإنسان لما اهتم بذاته ورعاية حاله، ولما توجه إلى امتلاك مال ولا إلى الدفاع عن حق.. ولولا شيء من الشح يتغلب عليه لأنفق كل ما قد تعب في تحصيله وجمعه.. ولولا حبه للمال لما بحث عنه ولما حصل على شيء منه، وما تعمر عندئذ أرض ولا تستقر الحياة. ولولا غضب يدافع به المظلوم عن حقه لاستشرى الظلم وضاعت الحقوق. ومن المعلوم أن الكبر والعجب والحسد والحقد، كل ذلك من فروعِ وآثارِ أساسِها الأمّ، ألا وهي الأنانية.

إذن فمادّة هذه الصفات لها فائدة ودور إيجابي في حياة الإنسان وعلاقاته الاجتماعية. ولله حكمة باهرة في تجهيز الإنسان بها.

غير أن فقد التربية وغياب عوامل ضبطها وتهذيبها، مع تسليط الرعونات النفسية عليها، يجعلها تتجاوز حدودها الصالحة وتتحول من جرعات دوائية مفيدة، إلى سموم قاتلة، وإنما تعدّ هذه الصفات مذمومة في ميزان الإسلام عندما تتحول من حدود الماء المحيي إلى الطوفان المهلك، وعندما ينسى الإنسان أنها جرعات محدودة من دواء للعلاج، فيقبل إليها على أنها غذاء للشبع.

الشطر الثاني من الجواب أن هذا السؤال ينبغي أن يصدر ممن لا يعلم أن الله سيحشر عباده غداً لنيل الجزاء، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.. أما الذي يعلم أن الإله الذي فطر الإنسان على هذه الصفات المذمومة، ثم أمره بالتخلص منها، قد أعدّ له الجزاء الأوفى يوم القيامة، نعيماً وسعادة للمحسنين وعذاباً وشقاء للمسيئين، فسؤاله من العبث بل الخلطِ الذي يتنزه عن الخوض فيه العقلاء.

إذا كان المطلوب أن لايكلَّف الإنسان بجهد يتحمله للتحرر من هذه الصفات الذميمة، ففيم يكون على موعد مع الأجر والجزاء؟

إذا كانت مقدمات التكليف في هذه الدنيا لا معنى ولا موجب لها، ومن ثم تستشكلها، فلماذا لا تستشكل نتائج الأجر والجزاء التي هي الأخرى لا معنى ولا موجب لها؟ لماذا تعلم كيف تمدّ يدك إلى الأجر الذي تناله، ولا تعلم كيف تؤدي الجهد الذي يستوجبه؟

متى عرفت أن هذه الدنيا دار تكليف، وأنها قاعة امتحان زُجَّ فيها الإنسان، وتأملت في البيان الإلهي القائل: ((يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)) [الانشقاق:84\6]، أدركت لماذا يكلَّف هذا ((المكلف)) بجهد التخلص من صفاته الذميمة، وعلمت أن حياة الإنسان فوق الأرض بدون هذا التكليف الذي يستتبع نتائجه وآثاره، عبث لا معنى له.

 

هذا بالإضافة إلى أن التخلص المطلوب من هذه الصفات لا يكون بامتلاخها من جذورها والقضاء عليها، فإن هذا لايتأتى ما دام الإنسان إنساناً، وما دامت إنسانيته تعني أن يكون مفطوراً على هذه الصفات التي علمنا في الشطر الأول من الجواب عن هذا السؤال، أنها في جوهرها الذاتي ومادتها الأساسية، ليست صفات سيئة، ولكنها تحتاج إلى إخضاعها لمنهاج من التربية والتهذيب كي لا تتجاوز حدّها، ولكي لا تتحول في حياة صاحبها من دواء يسعفه إلى سمّ يهلكه.

إن تهذيب هذه الصفات، وضبطها بالكوابح التي تقطع شرَّتها وتقضي على ضراوتها، هو المعنيّ بالتزكية التي يطالبنا بها البيان الإلهي بأساليب شتى وفي مواقف متكررة. وهو المعني بكلمة ((الجهاد)) في السور المكية حيثما وردت.

والمنهج إلى ذلك وإن كان داخلاً في معنى التكليف، ومتوقفاً على شيء من الجهد، إلا أنه ليس خارجاً عن وسع الإنسان وليس داخلاً في حدود العسر المحرج. وآثاره الحميدة في حياة الفرد والمجتمع تفوق أتعابه المتطلبة. وذلك هو شأن التربية أياً كانت وأياً كان نوعها، في حياة الإنسان.

ثم إن الذين يطرحون هذا السؤال، ويستشكلون السبيل إلى التخلص من هذه الصفات الذميمة، يغيب عن بالهم أن العقيدة الإسلامية إذا ترسخت في العقل وغذِّيت بغذاء العبادة والطاعات والأذكار، تكفلت هي وحدها بتهذيب هذه الصفات وقطع شرّتها، وإعادتها إلى حدود المصلحة والاعتدال.. وعندما يغيب عن بالهم هذا العلاج الذي لابدّ أن يأخذ كل عاقل نفسه به، بقطع النظر عن وجود هذه الصفات وخطورتها، يخيل إليهم أن معالجة هذه الصفات أو الطباع لتهذيبها وإعادتها إلى حدّ الفائدة والاعتدال، جهد ضائع وسعي غير مفيد، وربما استشهدوا في هذا بما يزعمه بعض المتفلسفين من أن الأخلاق غير قابلة للتبدل.

ولعلّ أحدهم يقول لك، مؤكداً ضياع أي جهد يُبذل في سبيل التخلص من هذه الطباع أو الأخلاق البشرية، إن سائر علماء الفلسفة والأخلاق بدءاً بأقدمهم من أمثال أبيقور وزينون، إلى فلاسفة العصر الحديث من أمثال هوبز وكانت وستوارت ميل، بذلوا جهوداً كبيرة للتصعيد بالأخلاق الإنسانية وتهذيبها وتقويم المعوج منها، فلم يصلوا من جهودهم إلى أي نتيجة.

ونحن نقول لهم: حقاً إن جهودهم ضاعت سدى ولم تأت بأي نتيجة، ولكن لأنها لم تتجه إلى حيث العلاج الذي رسمه الله تعالى لهذا الأمر، لا لأنه يستعصي على المعالجة والإصلاح.

 والعلاج الذي حدثنا الله عنه وأمرنا به، هو ما تضمنته الرسالات الإلهية التي جاءت تتوالى إلى الناس منذ فجر الحياة الإنسانية فوق هذه الأرض، من التنبيه إلى فطرة العبودية لله والكامنة في نفوس الناس جميعاً، والأمر الصادر إليهم بوضع هذه العبودية لله، من حياتهم الاعتقادية والسلوكية موضع التنفيذ، مع التنبيه إلى ضرورة تغذية معاني هذه العبودية بغذاء الطاعات والعبادات المتنوعة التي شرعها الله عز وجل، فبذلك ينتقلون من معرفة أنفسهم إلى معرفة الله عز وجل وإلى اليقين  بأنه المالك لهم وأنه المتصرف بهم، وأنه وحده النافع والضار، والمعطي والمانع، والمحيي والمميت، وأن مردّهم إليه للحساب ثم الجزاء.

فما الذي تتصوره من آثار هذا اليقين إذ يهيمن على العقل، ثم يزداد رسوخاً بغذاء العبادات والأذكار والطاعات المستمرة؟.. في كل صلاة يلهج اللسان بالتوحيد، ويعلن عن وحدانية المعبود بالحق، ويعترف بضعف العابد وعجزه وحاجته إلى المعونة الدائمة، قائلاً: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) [ الفاتحة:1\5].

إن الأثر الذي لابدّ أن يحققه هذا اليقين في نفس صاحبه، مع استمرار هذا الغذاء، هو أن تتنامى فيها مشاعر عبوديته ومملوكيته لله فتتحرر بذلك من أحقادها وأضغانها، وتتساقط منها حوافز الكبر والأنانية، وتصفو من كدورات الأهواء الجانحة، ذلك لأن يقين الإنسان بكونه عبداً مملوكاً لله عز وجل، خلقه الله ليمارس هذه العبودية له عملاً وسلوكاً مع بني جنسه، يتناقض بشكل حادّ مع هذه الأخلاق الذميمة التي من شأنها أن تتسرب إلى النفس الإنسانية في غفلة عن التنبه لهويتها وعن معرفة ذاتها.. ومن ثم فإن الإنسان ما يكاد يصحو إلى عبوديته لله عز وجل، ثم يعمد فيغذي هذا الصحو، بل هذه المعرفة، بوظائف العبادات، حتى ترتد هذه الصفات والكدورات عن نفسه شيئاً فشيئاً، لتعود إلى خط الاعتدال ولتقف عند حدود الفطرة الصالحة للإنسان. وتلك هي التزكية التي يتحدث عنها الفاطر الحكيم، ويأمر بها، في كثير من المناسبات، من مثل قوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) [الأعلى:87\14-15]، وقوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )) [ الشمس:91\9-10].

 

وفي قول ابن عطاء الله ((لتكون لنداء الحق مجيباً، ومن حضرته قريباً)) إلماح إلى أن المسلم مهما أكثر من الطاعات وداوم على العبادات، لا تدنيه طاعاته وعباداته من حضرة الحق جل جلاله، إن بقي مثقلاً بتلك الصفات التي تتعارض مع عبوديته لله عز وجل.

وإنما يتمتع صاحب هذه الصفات المرذولة، من تلك الطاعات والعبادات بصورها ومظاهرها فقط، إذ لو امتدت لها جذور من الإخلاص لله عز وجل إلى القلب، لتحقق لها من تلك الجذور حرارة بل حرقة تقاوم تلك الصفات الذميمة حتى تذيبها وتقضي عليها.

فالصلاة التي يعبّر بها المصلّي عن عبوديته لله عز وجل، ثم يواظب عليها مندفعاً إليها ينسب عبوديته له عز وجل، لابدّ أن تنمّي مشاعر عبوديته هذه من خلال صلواته وركوعه وسجوده، وإذا اصطبغ الكيان بحقائق العبودية لله عز وجل، لم يبق للشعور بالاستكبار في القلب مكان.

كذلكم سائر الطاعات والعبادات على اختلافها وتنوعها، إن مارسها الإنسان بنية خالصة وقصد متجرد، لابدّ إذن أن تقضي على هذه الصفات السيئة أو تقضي على شرّتها وتعيدها إلى حدود الفائدة والصلاح. وبذلك يكون العبد لربه مجيباً ومن حضرته قريباً.

 وإن لم يمارسها الإنسان، أو أداها على غير وجهها، أو أداها مجتـثّة من جذور الإخلاص لله عز وجل، فلسوف تكون عوناً على رسوخ تلك الصفات عنده، بدلاً من أن تكون أداة للتخلص منها، ومهما داوم على صور هذه الطاعات فلن يكون لنداء الله مجيباً ولن يكون من حضرته قريباً.

 ثم إن هذه الحقيقة تؤكد ما هو ثابت ومقرر، من أن الإسلام بأصوله الاعتقادية، وفروعه السلوكية من عبادات وتشريعات، إنما شرّف الله به الإنسان، ليستعين به في التخلص من هذه الطباع  والانعتاق من أسرها.. وبذلك يرقى الإنسان إلى سدّة التكريم التي ارتضاها الله له.

فإن هو بقي مستسلماً لتلك الطباع، يركن إليها ويخضع لسلطانها، لم تنفعه مظاهر طاعاته وقرباته الشكلية، ولابدّ أن تهبط به تلك الطباع إلى شر من الدرك الذي تعيش فيه الوحوش والسباع، وهذا الفريق هو الذي عناه البيان الإلهي بقوله عز وجل: ((ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)) [التين:95\5].

إذا تبين لك هذا، فاعجب معي ممن يمعن في تجميل ظاهره با(لديكورات) الإسلامية، بياناً وفصاحة في اللسان، وعبادات يروض لها الأعضاء، ومعارف يرددها عن تاريخ الإسلام وعظمة الإسلام، وغيرة يهتاج بها، على حدوده أن تضيع، وسلطانه أن يتقلص، فإذا اخترقت هذا الظاهر منه، رأيت إعجابه بنفسه، واستكباره على الآخرين، وتلهفه على المال وسعيه إلى جمعه بشتى السبل، وتنظر فإذا هو يجتر مشاعر الحسد والشحناء تجاه الآخرين، ولايتردد في التعبير عنها كلما انعقد مجلس لغيبة وسنحت بذلك الفرص.

 والقلب السليم الذي دعا به خليل الرحمن لنفسه، يتناقض مع هذا كله مناقضة حادّة. ألم يدع الله عز وجل، فيما حكى الله عنه، قائلاً: ((وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ )) [الشعراء:26 \87-88].

اللهم طهر قلوبنا من كل وصف يبعدنا عن مشاهدتك ومحبتك، وأدم علينا عين عنايتك، واسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي