الحكمة الرابعة والأربعون: ربما كنت مسيئاً فأراك الإحسانَ منك صحبتُك إلى من هو أسوأ حالاً منك

هذه الحكمة مرتبطة بالتي قبلها ومتممة لها.



زيد من الناس مؤمن بالله، يمارس إسلامه إجمالاً: يؤدي فرائضه الخمس، وينهض بالواجبات الأساسية من الدين، ولكنه مقصر في جنب الله عز وجل، منصرف إلى دنياه، منغمس في متعه وأهوائه، يصرف جلّ وقته لمصالحه الدنيوية العاجلة... وهو في الوقت ذاته يركن إلى صحبة أناس هم أسوأ حالاً منه، فاسقون، مارقون، لا يؤدون حتى الفروض الأساسية التي يؤديها هذا الإنسان.

إن من شأن هذه الصحبة أن تخيل إلى زيد هذا أنه نموذج للمسلم المستقيم على أوامر ربه، وأنه من النخبة الممتازة في المسلمين، وأنه يؤدي حقوق الله عليه، كاملة غير منقوصة!.. ولاريب أن هذا الخيال، إذ يستحوذ على صاحبه يجرّه إلى أخطر النتائج وإلى أسوأ الأحوال، إذ ينسيه مظاهر عيوبه وتقصيره في جنب الله.

إن المطلوب من الإنسان المسلم أياً كان في واقعه ومستواه، أن يتيقظ إلى نقائصه وعيوبه، وأن يتلمس في الناس الذين يريد أن يصطفيهم لصحبته، من يكون عوناً له في الكشف عن عيوبه ومظاهر انحرافه وتقصيره. وإنما يتيسر له العثور على هذه النخبة، عندما يحرص على أن لايصاحب إلاّ من هو أسبق منه في الاصطلاح مع الله، وأكثر التزاماً بأوامر الله. فإن هو تورط فوقع في نقيض ذلك، أعجبته نفسه بحكم النسبية التي تفرض ذاتها عليه، من خلال صحبته لأقرانه الذين هم أسوأ حالاً منه، فلم يجد ما يحفزه إلى النهوض بنفسه نحو أي إصلاح، بل الشأن فيه أن يتراجع شيئاً فشيئاً إلى التغلب وأن تجنح به النفس إلى حال من اللامبالاة!..

إن ثمة عوامل كثيرة من شأنها أن تدفع مسلماً ما، على غرار زيد هذا الذي وصفته لك، إلى مصاحبة من هم أسوأ حالاً منه. ولكن من أهم وأخطر هذه العوامل، ما يحدّث به هذا المسلم نفسه، من أنه سيتسرب إلى صفوف هؤلاء التائهين، فيصاحبهم، ويخلط نفسه بهم، ويلقاهم على موائد عصيانهم، وفي تقلبات لهوهم، ريثما يستأنسون به ويركنون إليه، وعندئذ يوظف استئناسهم به وركونهم إليه، في توجيههم إلى الله، وإبعادهم عن الآثام والموبقات.

ولكن الذي يحدث أنه يبتلى بأمراضهم، ويصيبه من رشاش انحرافاتهم، وأول هذه الابتلاءات أنه يزداد زهواً بنفسه وإعجاباً بها، كلما اختلط بهم ووقع على المزيد من انحرافاتهم وسوء أحوالهم، إذ يرى نفسه يصلّي ولا يصلون، ويصوم ولا يصومون، ويترفع عن الموبقات ولا يترفعون.

وعندئذ بدلاً من أن يستأنسوا به، يستأنس هو بسوء أحوالهم، وبدلاً من أن يركنوا إليه يركن هو إلى فسوقهم، وإنما يتم ذلك كله في غمار صحبته لهم، وفي ظل إعجابه بنفسه إذ يرى نفسه المتفوق عليهم والمتميز عنهم.

فهذا ما يقوله ابن عطاء الله من خلال حكمته هذه، إنه يقول: ربما خيلت صحبتك لمن هم أسوأ حالاً منك، أنك محسن في الالتزام بأوامر الله، مستقيم في السير على صراط الله، وحجبتك عن شهود نقائصك وعيوبك، وعن تقصيرك في جنب الله عز وجل.. وكلمة ((ربما)) هنا للتكثير، وليست للتقليل، فهي في الدلالة كقول الله تعالى: { رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ } { الحجر: 15/2 }.

ولعلك تقول: فإن صح هذا الذي يقوله ابن عطاء الله، فلا مجال إذن لتوجه المسلم إلى دعوة التائهين والمنحرفين إلى الله ونصحهم بالاستقامة على أوامر الله.

والجواب أن دعوة الضالين والتائهين إلى الله، لا تستدعي أن يركن إليهم بالصحبة التي يحذر منها ابن عطاء الله، إنها تستدعي الوقوف معهم، والحديث إليهم، ومحاورتهم في أمور الدعوة ومستلزماتها.. وكل هذا يمكن أن يتم دون حاجة إلى أن يمدّ الداعي إلى الله معهم علاقات صحبة.

إذن من شأن هذه العلاقات إغماض العين عن المنكرات، والسكوت على الموبقات، وفاء بحق الصحبة، وحماية لخيوطها أن تتقطع أو تهتز.. أما التوجه إلى التائهين بالدعوة والنصح، فإنما تستدعي نقيض ذلك، من مفارقة المنكر بعد التنبيه إليه والتحذير منه، وفاء بحق الغيرة على حرمات الله، والشفقة على عباد الله.

وانظر إلى فرق ما بين الحالتين:

إن الشفقة على عباد الله تقتضي ملاحقتهم بالتنبيه والتحذير والنصح، حتى إلى أوكار معاصيهم، وملتقى لياليهم ومجونهم.. أما الغيرة على حرمات الله فتستدعي عدم الاجتماع معهم على منكر، والافتراق عنهم لدى ظهور المحرم.. وانسجاماً مع هذين المطلبين: مطلب الشفقة على عباد الله، ومطلب الغيرة على حرمات الله، لا يرى الربانيون والدعاة المخلصون لله في دعوتهم، أي مانع من أن يقتحموا نادياً ليلياً من نوادي المجون واللهو، للتوجه إلى من فيه بالتذكرة والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن يتوجهوا أولاً إلى مدير إدارته أو المشرف على سير برامجه، فيطلبوا منه إعطاءهم فرصة لدقائق محدودة، يتوجهون فيها إلى إخوانهم بشيء من التذكرة والنصح، فيستجيب لهم، وعندئذ يدخلون إلى ذلك الوكر المظلم، غير مبالين بظلامه، ولا مبالين بمراكزهم التي تعلو عن الوجود في مثل ذلك المكان، شفقة على إخوانهم من عباد الله.. ولكنهم لا يجلسون مع منكر ولا يجتمعون معه دون إنكار له وتحذير منه، غيرة على حرمات الله... فذلك هو شأن الدعوة إلى الله، وتقديم النصح لعباد الله.

أما الصحبة التي يحذر منها ابن عطاء الله، فهي فارغة عن كلا القصدين، لاهي منطوية على دافع من الشفقة على الإخوة التائهين، ولا هي مصحوبة بالغيرة الصادقة على حرمات الله عز وجل.

وإنما هي حال من أحوال الصداقة، يُبتغى منها حظ النفس، وإزجاء الوقت، والاستئناس بالغير. وهي أبعد ما تكون عن أداء رسالة أو تنفيذ مهمة، فضلاً عن أن تكون رسالة تقربٍ إلى الله، وتنفيذاً لمهمة التعريف بدينه والاستجابة لأمره.

وربما استشكل بعضهم سبيل التوفيق بين هذا الذي ينبه إليه ويحذر منه ابن عطاء الله، مما أوضحت معناه ملخصاً، وما قد افترضه الله على عباده من مواصلة الأرحام والأقارب، حتى عندما يكونون أو يكون فيهم التائهون أو الفاسقون الذين هم أسوأ حالاً من قريبهم الذي أمره الله بمواصلتهم.

وسبيل التوفيق مقرر ومعروف. على المسلم أن يصل أرحامه، كما قد أمر الله عز وجل، مهما كان من علوّ المرتبة تمسكاً بأوامر الله واستقامة على نهجه وشريعته، ومهما كانوا من سقوط المرتبة، شروداً عن أوامر الله وعكوفاً على المحرمات.

غير أن صلته الواجبة بهم يجب أن لا ترقى إلى درجة الصحبة التي حدثتك عن معناها، وذكرت لك أنها حال من أحوال الصداقة، بل يجب أن تقف عند حدود ما يسمى في مصطلح الشرع ((صلة الرحم)). وهي أن يلقاهم في المناسبات التي تستدعي التزاور واللقاء، كالأعياد والأفراح والأتراح وأن يقدم لهم العون الممكن عند طروء الحاجات وعوارض الضيق.

فإن وافاهم في أي من هذه المناسبات، وهم عاكفون على معصية متلبسون بإثم، أدى بلقائه إياهم واجب التواصل، ونصحهم بالإقلاع عن المعصية والرجوع إلى جادة الشرع، فإن هم استجابوا فذاك، وإلاّ كرر النصيحة والتذكرة لهم ثم فارقهم، معتذراً بأن الشرع لا يخوّ له البقاء معهم على تلك الحال... فإذا جدّت مناسبة أخرى، عاد إلى مواصلتهم وزيارتهم تنفيذاً لأمر الله عز وجل.. فإن رأى في مجلسهم منكراً كالمرة الأولى، عاد إلى نصحهم وتذكيرهم وتحذيرهم من التعرض لسخط الله، فإن لم يجد آذاناً صاغية وبقي المنكر موجوداً، فارقهم معتذراً كالمرة الأولى.

وهكذا دواليك، يكرر المواصلة استجابة لأمر الله في صلة الرحم، ويكرر المفارقة، إن رأى منكراً ولم يتمكن من إزالته، استجابة لأمر الله أيضاً، في مفارقة المنكر وأهله.. وهو في كل ذلك مأجور ومثاب.

وليس هذا من الصحبة التي يحذّر منها ابن عطاء الله في شيء... الصحبة التي يحذر منها أن يتلاقى الأقارب في سهرات عائلية يتجاذبون فيها أسباب المتعة، ويركنون فيها إلى اللهو والأنس المتبادل.. وتلك هي التي يجب أن تنضبط بالآداب التي ينبه إليها ابن عطاء لله في هذه الحكمة والتي قبلها.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي