الحكمة الخمسون: لا صغيرة إذا قابلك عدله. ولا كبيرة إذا واجهك فضله

يقسم العلماء المعاصي إلى كبائر وصغائر. وأساس ذلك قول الله  تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } { النساء: 4/31 } .



ولهم في تعريف الكبائر وتحديدها كلام كثير. وأنا أوجزه في تعريفها ثم في ذكر أنواعها:

أما تعريفها، فهو: كل ما جاء فيه وعيد من الله بعذاب في الآخرة، أو أنيطت به عقوبة في الدنيا كالحدّ ونحوه.

وأما تعدادها وذكر أنواعها فهي المعاصي التالية:

الشرك بالله. والوعيد الذي جاء في حقه، قول الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } { النساء: 4/48 } .

عقوق الوالدين. والوعيد الذي جاء في حقه، المفهوم المخالف لقول الله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً } { الإسراء: 17/23 }.

قتل النفس بغير حق، والوعيد الذي جاء في حقه، قول الله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها } { النساء: 4/93 } هذا إلى جانب القصاص الذي أنيط به.

قذف المحصنات المؤمنات، ومثله قذف المحصنين من المؤمنين، والوعيد الذي جاء فيه، قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ } { النور: 24/23 } هذا إلى جانب الحدّ الذي أنيط به.

أكل الربا... والوعيد الذي جاء في حقه قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ } { البقرة: 2/275 }.

الفرار من الزحف. وهو أن يولي المسلم في القتال ظهره للغزاة المهاجمين بينما يزحف إخوانه مقبلين

مهاجمين؛ والوعيد الذي جاء في حقه، قول الله تعالى: { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحِيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } { الأنفال: 8/16 }.

أكل مال اليتيم، والوعيد الوارد في حقه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامَى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } { النساء: 4/10 }.

الزنا... والوعيد الوارد في حقه قوله تعالى: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً } { الفرقان: 25/68-69 }.

  كتمان الشهادة، لقوله تعالى: { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه } { البقرة: 2/283 }.

اليمين الغموس، وهو أن يحلف الإنسان على شيء أنه فعله، وهو لم يفعله أو العكس، أي أن يقسم على شيء يعلم أنه كاذب فيه. لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ } { آل عمران: 3/77 }.

شرب الخمر، وحسبك من الوعيد عليه أن الله قرنه بالوثنية، فقال: { إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { المائدة: 5/90 } هذا إلى جانب الحدّ الذي أنيط به.

 

ترك الصلاة: لقوله تعالى في حقه { ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } { المدثر: 74/42-43 } هذا إلى جانب الحد المنوط به.

نقض العهد وقطيعة الرحم، لقوله تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصارَهُمْ } { محمد: 47/22-23 }.

يضاف إلى ذلك الإصرار على الصغائر مما دون هذه الأمور التي جاء الوعيد في حقها أو أنيط الحدّ والعقاب الدنيوي بها، فقد اتفق جمهور العلماء على أن الإصرار على صغيرة ما يدخل صاحبه في زمرة الفاسقين، قال صاحب الجوهرة:

والعدل من لم يرتكب كبيرة ولم يكن ملازماً صغيرةً ومن المعلوم أن الفسق نقيض العدل.

وإنما عُدَّ الإصرار على الصغيرة من الكبائر، لأن الشأن فيمن يصرّ عليها الاستهانة بتعاليم الله وأوامره، والدخول في مداخل المكْرِ به عز وجل، إذ يتوب ويجعل من توبته مقدّمة أو مبرراً للرجوع إلى المعصية التي تاب عنها. والله عز وجل لايُمَكَرُ به، وقد توعد الماكرين بالعقاب الذي سماه مكراً على سبيل المشاكلة التي مر بيانها، فقال عز وجل: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ } { آل عمران: 3/54 }، وقال تعالى: { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ } { فاطر: 35/43 }.

إذا تبين هذا، فكل ما عدا الذي مرّ ذكره، مما توعّد الله عليه بعقاب في الآخرة، أو أناط الله به عقاباً أوحداً في الدنيا، فهو من الصغائر؛ وقد تسمى بالسيئات، وقد تسمى لمماً، وهما من الأسماء الواردة لها في القرآن.

والآن.. يجب أن نعلم أن هذا التصنيف الذي انقسمت المعاصي بموجبه إلى كبائر وصغائر، إنما هو ناظر إلى ميزان الشريعة الإسلامية التي أقامها الله تعالى في عباده لرعاية مصالحهم ودرء المفاسد عنهم.

إن الكبائر التي توعد الله عليها بالعقاب يوم القيامة، لم تصنَّف في الكبائر، إلا لما فيها من إهدار لحقوق العباد.. وإن الصغائر التي وعد الله بالصفح عنها والمغفرة لها، لم تصنّف في الصغائر إلاّ لأنها خادمة لحقوق الله أو دائرة على التحسينات من حقوق العباد.

والقاعدة الفقهية المعروفة تقول: ((حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحّة)).

إذن فهذا التصنيف الذي مرّ بيانه، ناظر إلى مصالح العباد في الدنيا، وليس ناظراً إلى حق الربوبية في أعناق العباد.. وفي هذا من اللطف الإلهي بالعباد ما لايغيب عن بال عاقل.

فأما إن نظرت إلى حقوق الربوبية في أعناق عباد الله عز وجل، بقطع النظر، عن الأنظمة والشرائع التي تتوقف مصالحهم على الأخذ والانضباط بها، فلن تجد عندئذ أثراً لهذا التصنيف، بل لابد أن تستوي المخالفات كلها عند حدّ من الخطورة والجسامة واحدة. إذ من أهم حقوق الله على عباده أن يطاع ولايُعصى. بقطع النظر عن نوع الطاعات وأهميتها، وعن نوع المعاصي وخطورتها.. إذ العصيان بحد ذاته، أي من حيث هو عصيان، جريمة كبرى، عندما تصدر من العبد في حق الرب. وإلى هذا المعنى الذي أقول، يشير قول الله عز وجل: { وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلَى ظَهْرِها مِنْ دابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً } { فاطر: 35/45 }.

فالمعاصي المعنية بقوله تعالى: { بِما كَسَبُوا } { فاطر: 35/45 } أعم من خصوص الكبائر أو الصغائر، إذ هي شاملة لها جميعاً. وها أنت ترى كيف اختفى هذا التصنيف فيها أمام قوله عز وجل: { ما تَرَكَ عَلَى ظَهْرِها مِنْ دابَّةٍ } { فاطر: 35/45 } وهو وعيد كبير مخيف، ولكنه مطوي عن التنفيذ في تلافيف فضل الله وكرمه، والإحالة إلى ما قد قضى الله به في يوم المعاد.

إذن، فالمعاصي كلها، من حيث هي خروج عن طاعة الله تبارك وتعالى، ذات درجة واحدة في السوء والتعرض لعقاب الله تعالى. ولكن الله، تفضلاً منه وإحساناً، جعل مناط الإثم في المعاصي ما يتسبب عنها من الفساد في حياة الإنسان الفرد، أو في التركيبة الاجتماعية، ولما كانت درجة الفساد في كل منهما متفاوتة، استتبع ذلك تفاوت المعاصي في الإثم الذي يتسبب عنها، وانقسامها إلى كبيرة وصغيرة.

ونتيجة ذلك، أن الله عز وجل إذا أراد أن يحاسب عباده طبقاً لما يقتضيه ميزان العدالة الذي يبرز حقوق الرب عز وجل على عباده، فلسوف تكون المعاصي كلها من الكبائر الموبقة، دون أي تفاوت بين مايسمى كبيرة وصغيرة ولمماً.. أما إذا أراد أن يحاسبهم طبقاً لما يقتضيه فضله وتجاوزه وكرمه، فلسوف تضؤل المعاصي كلها ويهون خطبها، حتى لايبقى فيها ما يجدر أن يسمى كبيرة.

ولكن ماهو السبيل الذي إن سلكه الإنسان كان على موعد مع فضل الله وكرمه وتجاوزه، وماهو السبيل الذي إن سار فيه الإنسان كان على موعد مع ميزان العدالة الإلهية التي ترعى حقوق الربوبية كاملة غير منقوصة؟..

السبيل الموصل إلى مواجهة فضل الله وكرمه، هو أن يعزم العبد على أن يطيع الله في كل ما قد أمر به، وأن ينتهي عن كل ما قد حذّر ونهى عنه، موقناً أنه لايملك لنفسه حولاً ولا قوة، ومن ثم يستمد القدرة والتوفيق وأسبابهما من الله عز وجل.. فإذا حالفه التوفيق وأمدّه الله بالحول والقوة لتنفيذ أوامره والانتهاء عن نواهيه، حمد الله موقناً أن الفضل في ذلك لله، وأن ثواب طاعته له إنما يتمثل في الشكر الذي يجب أن يصدر منه لله عز وجل، لا في الأجر الذي يتوقع أن يصدر من الله إليه. ونظراً إلى أن واجب الشكر لله عز وجل يتوقف هو الآخر على توفيق الله وعونه، فإن الشأن في حال هذا العبد إذا رحل إلى الله أن يقبل إليه خائفاً من عواقب تقصيره لا طامعاً في الأجر الذي يرى أنه يستحقه على طاعاته. مصداق ذلك قول الله عز وجل: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ راجِعُونَ } { المؤمنون: 23/60 }.

وأما إن لم يحالفه التوفيق، وزلت به القدم في حمأة المعاصي، وجمحت به نفسه إلى ارتكاب الآثام، فسبيله إلى ذلك أن يصحو بعد تجاوز المعصية وارتكابها إلى ذلّ عبوديته لله، وأن يقف متضائلاً متصاغراً تحت مظلة عفو الله ومغفرته، وأن يخاطبه بقلب متلوع، لابلسان مفصول عن مشاعر فؤاده، قائلاً: اللهم إني ما عصيتك حين عصيتك استكباراً على أمرك أو استهانة بحكمك، ولكن لسابقة سبق بها قضاؤك فالمغفرة منك والتوبة إليك.

فإنه إن فعل ذلك واجه من الله فضله، بدلاً من أن يقابله منه عدله.. ولا فرق عندئذ بين أن تكون المعصية التي تورط فيها كبيرة أو صغيرة.

ومهما عاد بعد ذلك فزلت به القدم ثانية وثالثة في المعصية أو المعاصي، فسلك هذا السبيل ذاته صادقاً مع الله في مشاعره وخطابه عازماً على أن لايعود، فإن الله لن يعامله إلا بفضله، وقد سبق تفصيل ذلك في الحكمة السابقة.

ولايقولن قائل إن عمري الذي مضى ملئ بالفواحش والكبائر وأن احتمال صفح الله عنها ومغفرته لي بعيد غير مأمول.. فإن هذا الاعتقاد بحدّ ذاته معصية حذّر القرآن منها.

ألم تقرأ قوله عز وجل: { إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ  اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ } { يوسف: 12/87 }.

 وسبب كونه معصية أن صاحب هذا الاعتقاد لايعرف لله منة ولافضلاً، متوهماً أنه إنما يعامل الناس بمقتضى ما قد ترتب له عليهم من حقوق.

أما السبيل الموصلة إلى مواجهة عدل الله عز وجل بعيداً عن التفضل والصفح والغفران، فهي تلك السبيل التي يسلكها بعض الناس إذ يتباهى أحدهم بالطاعة التي أداها ناسياً أن الله هو الذي وفقه إليها وأعانه على أدائها. فإذا انحرف إلى معصية، استهان بها وعدّها من اللمم الذي لاضير فيه ولا خطر منه.

إن هذا السبيل من شأنه أن يزهق قيمة الطاعة التي تباهى صاحبها بها، وأن يُعظم من خطر المعصية التي استهان العاصي بها.

إن جلّ الثواب الذي يناله المطيع على طاعاته، إنما هو على ما قد انبثق من أدائها من مشاعر العبودية والتذلل لله عز وجل.. فإذا خلت الطاعة من هذه المشاعر فقد تجردت عن معناها وانفصلت عنها روحها، فعادت مجرد شكل للعبادة وصورة لحركاتها.

 

وإن جل العقاب الذي يتعرض له العاصي على معصيته  إنما هو على ما قد انبثق فيها من دلائل استهانة العاصي بها، ولا مبالاته بالعقاب الذي قد يناله بسببها. فإذا خلت حال العاصي من مشاعر الاستهانة بها واستصغاره أو احتقاره لها، فقد انفصل عنها أهم ما كان سبباً لسخط الله على العاصي في معصيته.

ودعني أضعك أمام بعض الأمثلة لمعاص أو حتى لمكروهات يستهين بها مرتكبوها، ويعاودون ارتكابها في استخفاف بها، مطمئنين إلى أنها من اللمم الذي سيعفو الله عنه.

من الأمثلة على ذلك إصرار بعض الناس على الأكل بالشمال طبقاً لما يقتضيه عرف السكين والشوكة. إن من المتفق عليه أن الأكل باليد اليمنى من السنن المأثورة عن رسول الله، وليس من الواجبات ولا الفرائض.. ولو أن مسلماً تغلبت عليه عادة درج عليها، أو استسلم لتهاون تحكم به، فأخذ يأكل باليسرى بدل اليمنى، لما كان في ذلك حرج ولما ارتكب من جراء ذلك وزراً. ولكن الناس الذين أعنيهم بهذا المثال، هم أولئك الذين يستخفون بهذا الأدب النبوي، ويترفعون عن الالتزام به استكباراً أو إيثاراً لتقليد درج عليه عشاق الحضارة الآسنة. إن الانصراف عن الالتزام بهذه السنة بدافع من هذه الاستهانة، تحيل السنة إلى فريضة، وتجعل الانصراف عنها تلبساً بمعصية كبيرة، وربما تسربت إلى مكمن الإيمان فزلزلته أو قضت عليه.

يتضح هذا جلياً من الحديث الذي رواه سلمة بن الأكوع أن رجلاً أكل عند رسول الله  بشماله، فقال: كل بيمينك. قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت!.. ما منعه إلا الكبر. فما رفعها إلى فمه.

مما لاريب فيه أن رسول الله  لم يكن ليدعو على هذا الذي كان يأكل عنده بشماله، لمجرد أنه قد ترك السنة. إذ السنة ما لا حرج في تركه مع ثبوت المثوبة على فعله. ولكنه لما قال لرسول الله لا أستطيع، وعلم أنه إنما قال ذلك تكبراً، انبثق من موقفه ذاك وضع ورّطه بأخطر أنواع الموبقات التي اقتضت أن يواجهه من الله عدله. فمن أجل ذلك دعا عليه بقوله: لا استطعت.

ولاريب أن من مقتضى عدالة الله أن يستلب الله منه نعمة القدرة اليدوية التي أخضعها الله لإرادته ومصالحه، عندما تجاهلها بل أنكرها، في الوقت الذي كان يتباهى بها.

ومن الأمثلة على ذلك استهانة بعض الناس بارتكاب محرمات بلغهم أنها من الصغائر، أو وجدوا أن القرآن ينعتها باللمم، يقتحمونها دون أي مبالاة بها أو خوف من عواقب التورط فيها.. كأنواع من الاختلاط اللامنضبط بالنساء.. وكمقدمات محرمة من العلاقة بهن.. وكتساهل النساء في إبراز بعض مظاهر الإغراء والزينة، اعتماداً على كلام من يطمئنهن بأن ذلك كله من اللمم الذي قرر الله في محكم تبيانه أنه يتجاوز عنه.. وكالركون إلى بعض المحرمات في نظام التعامل التجاري، اعتماداً على أنها من الصغائر التي وعد الله بالصفح عنها.

إن هذه المحرمات، هي فعلاً من الصغائر، في التصنيف الشرعي الذي سبق بيانه، ولكنها في ميزان الحقوق الإلهية المنوطة بأعناق العباد لاتختلف في الخطورة وجسامة النتائج عن غيرها.. فإذا تورط فيها الإنسان بسائق ضعف، وتغلب شهوة، موقناً بأنه قد أهدر بذلك حقاً من أجلّ حقوق الله عليه (وقد سبق أن قلت إن من أهم حقوق الله على العبد أن يطاع ولا يعصى بقطع النظر عن نوع الطاعة ونوع المعصية) وقاده ذلك إلى الندم والحياء من الله تعالى واللجوء إليه بالتوبة والاستغفار، فإن الله عز وجل يعدّها عليه صغيرة، ويعامله عليها بفضله ورحمته، فيغفرها له كما وعد.

أما إن ارتكبها آمناً مطمئناً، مستبشراً بأنه لن يلقى على أعقابها من الله أي مكروهئ ناسياً بأنه قد  أهدر بارتكابه لها حق الله عليه وهو أن يطيعه ولا يعصيه في أي أمر من الأمور، فإنها تتحول باستهتاره هذا من صغيرة إلى كبيرة، إذ لا كبيرة أكبر، بعد الكفر والشرك بالله، من الاستخفاف بحقوق الله تعالى.. وإذا شرد الإنسان عن مظلة الرحمة الإلهية وابتعد عن سوانح فضل الله ومغفرته بمثل هذا الاستهتار واللامبالاة، فالذي سيواجهه عندئذ من الله عز وجل إنما هو عدله.. ومن  البداهة بمكان أن الله عز وجل لو قضى بأن يحاسب الناس بعيداً عما قد ألزم به ذاته العلية من الرحمة بهم والمغفرة لهم، محاكماً لهم إلى ميزان عدله المجرد، إذن لهلكوا جميعاً، وقد ذكرّتك في بيان هذه الحقيقة بقوله عز وجل: { وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلَى ظَهْرِها مِنْ دابَّةٍ } { فاطر: 35/45 }.

 

وانظر إلى هذه الحقيقة كم تبدو واضحة في هذا الذي يقوله رسول الله: ((إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه جالس في أصل جبل يخشى أن ينقلب عليه، وإن الفاجر ليرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال به هكذا)).

وإنك لتلاحظ أن رسول الله لم يفرق في هذا بين كبيرة وصغيرة.  لا صغيرة إذا قابلك عدله. ولا كبيرة إذا واجهك فضله

 وتدخل في ميزان هذه القاعدة الطاعات أيضاً، وبيان ذلك مع ذكر بعض الأمثلة وتدخل في ميزان هذه القاعدة الطاعات أيضاً. فعلى الرغم من أنها   متفاوتة في مقياس القواعد الشرعية التي ترعى في ذلك ما تحققه من أنواع المصالح والمقاصد المتفاوتة، إلا أنها جميعاً ترقى إلى درجة واحدة من القدسية والأهمية، عندما ينظر العبد إليها على أنها أحد شطري القانون القائل: إن من حق الله على عباده أن يطاع ولا يعصى. فطاعة الله حق من الحقوق المنوطة بأعناق العباد، بقطع النظر عن أنواع الأعمال التي تعلقت بها أوامره عز وجل.. إن التفاوت الذي تراه في حديث رسول الله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) إنما هو ناظر إلى أثر شرائع الله وأحكامه في تحقيق مصالح العباد، فأما إن نظرت إلى علاقة ما بين العبد وربه، فإن أوامر الله الصادرة إليه تقف من الأهمية والقدسية والخطورة في درجة واحدة. ومن ثم فإن إقبال العبد إلى تنفيذها ينبغي أن يكون بدرجة من الاهتمام واحدة، لاسيما إن تذكرت أن مناط قبول الله لها والمثوبة بها، ناظران إلى حال العبد من حيث الدوافع التي حملته على تنفيذها، من تعظيم حرمات الله والغيرة على شعائره وأحكامه، ومدى الإخلاص لذاته العلية في إقباله عليها واهتمامه بها.

وهذا المناط هو الذي يجعل الطاعة الصغيرة، في رأي العين، كبيرة عند الله عز وجل. وذلك عندما يندفع العبد إليها بقدر كبير من حب الله وتعظيمه والغيرة على حرماته.

روى ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة بشر بن الحارث المشهور بالحافي، أن سبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة كتب عليها اسم الله تعالى، قد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية (نوع من أنواع الطيب) فطيب بها الورقة، وجعلها في شق حائط. فرأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول له: يا بشر، طَّيبتَ اسمي، لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة

 إن المكانة التي تبوأها بشر بن الحارث بهذا العمل، ليست منبعثة من سرّ في ذلك العمل ذاته، وإنما انبعثت من شعوره بعظيم حق الله عليه، ومن عظيم غيرته على حرماته عز وجل. وهذا هو المصدر الأول والأخير لتقوى الله عز وجل، وصدق الله القائل: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } { الحج: 22/32 }.

وإذا أدركت هذه الحقيقة، أدركت أن نقيض العمل الذي قام به بشر، قد يحمل نقيض نتائجه وثمراته، وذلك لنقيض السبب ذاته. فالذي يرى في طريقه مثل هذه الورقة التي كتب اسم الله عليها وقد استهان بها المارّة وداستها الأقدام، فأشاح بوجهه عنها مستخفاً بالأمر، مترفعاً عن الانحناء أمام الناس لالتقاطها وتعظيمها ووضْعِها في مكان لائق، يتعرض لنقيض المكانة التي تبوأها بشر بن الحارث رحمه الله، لا لذات الترك أو الإعراض، وإنما للاستخفاف أو الازدراء الذي دفعه إلى الإعراض.

إذن فقد عرفت الجواب عن السؤال الذي قد يطرحه أحدنا قائلاً: ما السبيل الذي إن سلكته أمام أحكام الله وأوامره، كنت على موعد مع مقابلة فضل الله وعفوه وتجاوزه، بدلاً من مواجهة عدله المجرد عن صفحه ومغفرته؟

السبيل، أن تنقاد إلى تنفيذ أوامر الله والابتعاد عن نواهيه، بدافع التعظيم لذاته، والغيرة على حرماته، والشعور بعظيم حق الله عليك. وعندئذ تتساوى الطاعات كلها أمامك في الأهمية والضرورة، وتتساوى المعاصي كلها أمامك في السوء والخطورة.. فإنك إن سرت على هذا النهج لم يواجهك من صفات الله عز وجل إلا فضله وصفحه وغفرانه. فإن وفقت للطاعة ضوعف لك عليها الأجر، وإن زلّت بك القدم وشرد بك الضعف إلى فسوق أو عصيان، واجهك من فضل الله وإحسانه ما يحطّ عنك أثقال ذلك الوزر.

فالزم هذا السبيل خلال حياتك كلها، يكن فضل الله وعظيم عفوه رفيقك الدائم على الدرب، وشفيعك بين يدي الله يوم المعاد.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي