الحكمة الخامسة والأربعون: ما قلّ عملٌ برز من قلب زاهد، ولا كثر عملٌ برز من قلب راغب

لعل أجمع كلمة في بيان معنى الزهد أن يقال: إنه الإعراض عن كل ما عدا الله عز وجل.. والمراد بالإعراض عزوف النفس، فمن عزفت نفسه عن كل شيء سوى الله، من مال وجاه وأهل وولد، وشهرة، ومتع بأنواعها، فهو الزاهد حقيقة. وتلك هي الحال التي وصفها الحارث رضي الله عنه في نفسه لرسول الله ، عندما قال له: ((عزفت نفسي عن الدنيا)) والدنيا كل ما سوى الله مما شغل عن الله.



وعزوف النفس عن الشيء، لا يستلزم الابتعاد عنه ونفض اليد منه، فالمنديل الذي تتخلص به من الأقذار، تعافه نفسك وتعزف عنه، بدون ريب، ولكنك تلجأ إليه في الوقت ذاته، كلما رأيت حاجتك إليه.

كذلكم الدنيا، إذ تعزف نفس المؤمن عنها.. تبتعد عن مكان الحب والاهتمام من نفسه، ولكنه يظل يستخدمها فيما قضى الله أن تستخدم فيه. يبني الدار، ويضع فيها الأثاث، ويمشي في مناكب الأرض بحثاً عن الرزق، له ولأهله وأولاده. يتعب فيأوي إلى أسباب الراحة، وينعس فيوفر لنفسه ما ييسر له طيب الرقاد..

ولكنه لايكون مشدوداً برغائبه وعواطفه واهتماماته وثقته، خلال ذلك كله، إلا إلى الله، فلاتكون دنياه التي يتعامل معها عندئذ إلا كالحذاء إذ ينتعله الإنسان، يتقي به وحل الطريق وأشواكه وأقذاره.

فهذا هو الزاهد، وكذلك يكون الإنسان الزاهد. وعلى هذا المعنى ربى رسول الله  أصحابه: أن تكون أفئدتهم مطهرة من حب الدنيا بكل مظاهرها المتنوعة، ولا عليهم بعد ذلك أن يمارسوها ويستخدموها لكل من مصالح الدنيا والآخرة.

انظر إلى قوله ومسلكه التربوي هذا، وقد دخل السوق مرة، والناس مكتنفون به يميناً وشمالاً، فمرّ بجدي ميت، فتناوله بأذنه ثم قال: أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ فقال: والله للدنيا أهون على الله عز وجل من هذا عليكم.

وانظر إلى قوله، وهو يركز على توجه القلب إلى الدنيا بالحرص والحب: ((ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها، يفترسان ويأكلان بأسرع فيها فساداً من حب المال والشرف، في دين المرء المسلم)).

ولقد فعلت هذه التربية فعلها الكبير في نفوس الصحابة والرعيل الأول من المسلمين فطهرت أفئدتهم من التعلق بما سوى الله عز وجل. ولما اندلقت عليهم الدنيا بعد ذلك من شتى الجهات وعلى أعقاب الفتوحات، سخروها لإقامة المجتمع الإسلامي كما يسخَّر الخادم المهين، متحررين من سلطانها، مترفعين فوق ألقها وإغراءاتها.

فإذا أقبل هذا الزاهد إلى الله بعبادة أو طاعة ما، فإنها مهما كانت قليلة وصغيرة، لا ترتفع إلى الله إلا وهي كثيرة وكبيرة.. إن ركعتين يركعهما هذا الذي صفا قلبه من الانشغال بما سوى الله، تنقلانه من دنيا الناس إلى شهود الله عز وجل. فهو إذ يقرأ فاتحة الكتاب، يكون منصرفاً بكل مشاعره وفكره ووجدانه، إلى ما يخاطب به رب العزة من آيات هذه السورة، وهو إذ يتلو بعدها ما قد تيسّر له، يستغرق من ذلك في جوّ من النشوة المنبعثة من شعور قربه إلى الله إذ يناجيه ببليغ بيانه وقديم كلامه.. فإذا ركع ثم سجد، تاه عن الشعور بحركة أعضائه وانحناء جذعه، وتمثل نفسه كتلة عبودية متذللة تترامى على أعتاب مولاها العليّ الأعلى الجليل. وكم يلذّ لهذا العبد، وهو يتمرغ في جنبات هذا الحال، أن يرسل حديث ذله وانكساره وضراعته، من تراب الأرض التي نكّس رأسه ساجداً عليها، إلى علياء ربوبيته وسدّة وحدانيته، مثنياً، شاكراً، معظماً، سائلاً ومستجدياً.

ذلك كله، لأن القلب الذي هو مكمن المشاعر والأهواء والرغبات والمخاوف، سائر معه، بل هو القائد له في الحضور الذي يعمر كيانه، والخشية التي تنتابه، والتفاعل الذي يسري في مشاعره مع مناجاته لله تعالى إذ يخاطبه في قراءته ودعائه وثنائه.

 

ولماذا لايكون معه، بل القائدَ له في كل ذلك، وهو فارغ عن كل الشواغل الدنيوية المختلفة، زاهد في كل ما سوى الله عز وجل (وقد عرفت معنى الزهد) وإنما القلب مرآة لابدّ أن تنعكس عليها صُوَرٌ مّا.

وإنما يتجلى على القلب الإنساني، بادئ ذي بدء، حنينه الفطري إلى الله، واستئناسه بمشاعر عبوديته الصافية عن الشوائب لله.. فإذا نشأ محصّناً ضد التوجه إلى مطامع الدنيا بكل ما فيها من زخارف ورغائب، ازدادت مرآته صفاء، وازدادت التجليات الفطرية عليها وضوحاً وتألقا ولم يعد فيه متّسع إلا لمشاعر حبه لله وتعظيمه له ومخافته منه، وحنينه إليه.

 

وتغدو العبادات والقربات التي يوفق إليها - عندئذ - صاحب هذا القلب، لا مجرد غذاء له يقوى ويترعرع عليه، بل مصدر سكره ومبعث نشوته، إذ يزداد بذلك إقبالاً على الله عز وجل.

وقيمة هذه الطاعة، لا تكمن - والحالة هذه - في كميّتها العددية، بل في كيفيتها هذه التي وصفت. فقد تبدو هذه الطاعة؛ إذ يوفق إليها صاحبها، صغيرة من حيث الكم الذي ترصده العين، ولكن الله لاينظر إليها بهذا الاعتبار الذي هو مقياس الموازين البشرية، وإنما ينظر إليها من خلال مدى يقظة القلب لها وتفاعله معها، وتأثره بها. ومن ثم فإن هذه الطاعة التي تبرز صغيرة في أعين الناس واعتباراتهم لاتصل إلى الله عز وجل إلاّ وهي كبيرة كبر القلب الذي قاد إليها، واندمج بمشاعره العلوية معها. فركعتاه التي وفق هذا العبد إليهما على النحو الذي وصفت، تعدل كنوز الدنيا كلها، وتعدل قيام ليال كثيرة متوالية، عندما تكون الصلاة فيها حظاً من حظوظ الجسد والأعضاء ويكون القلب بمعزل عنها، مثقلاً برغائبه وأحلامه وأمانيه الدنيوية المسيطرة. فكيف إذا أصبح هذا القليل، بتوفيق الله كثيراً، قبل أن يصعد إلى سدّة القبول الرباني؟!.

أما القلب الراغب، على حدّ تعبير ابن عطاء الله، فهو ذاك الذي استهوته الدنيا، فاثّاقل من ذلك إلى الأرض، وتحول حبه الفطري السابق لله إلى حب الشهوات والأهواء، وتعلق بالمال وجمعه، أو بالرناسة والمجد، أو بالزخارف والمبتغيات الأرضية التي يتنافس عليها المولعون بكل ماعدا الله، من المتع العاجلة التي تهفو إليها النفس..

وصاحب هذا القلب، لابدّ أن يخضع لسلطانه، ويتحرك تحت قيادته فيكدّ ويتعب، ويذهب ويجيئ، وينشط ليلاً ونهاراً، في سبيل تحصيل ما يهفو إليه الفؤاد، وفي سبيل تحقيق الأحلام التي يظل ينسجها لنفسه... فإن تحققت، انصرف إليها القلب مبتهجاً ومنتشياً بها، بل متقلباً في سكره بها، وإن لم تتحقق، أو تحقق منها البعض دون الآخر، اضطرب القلب ووقع من جراء ذلك في همّ واصب.. فهو في كلا الحالين منصرف إلى دنياه متطوح منها في مشاعر من سكر التنعم بها، أو ألم اللحاق ورائها والأسف عليها. إنه حقاً كما قال الله عنه: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } { الأعراف: 7/176 }.

فما قيمة الطاعات التي يقبل بها صاحب هذا القلب، إلى الله عز وجل؟

 إنها ليست، والحالة هذه، إلا شأناً من شؤون الجسم والأعضاء، تتم بمعزل عن القلب الذي يفترض أن يكون هو الدافع والقائد.

وسواء تمثلت هذه الطاعة في صلاة أو نسك حج، أو ذكر، أو قراءة قرآن، أو ابتهال ودعاء، أو غير ذلك، فإن الذي يستقبل هذه الأعمال على اختلافها إنما هو الكيان البدني، من جسم يتحرك، أو لسان ينطق، أو أعضاء تؤدي وظيفة حركية اعتادت عليها، وكثيراً ما يصرفها بعض رجال هذا الفريق، أصحاب هذه القلوب المثقلة بهذه الأعباء، إلى فوائد ونتائج رياضية تقوم الجذع وتفيد الجسم!!.

أما القلب  فمعزول عن ذلك كله، ومشغول عنه بما قد حشي فيه وتعلق به من الآمال والأحلام والآلام الدنيوية المتنوعة التي علمت نماذج منها. والشأن في صاحب هذا القلب، أن يعيش، في أحسن أحواله، مزدوج الشخصية والكيان، يؤدي حركات الصلاة بجسده وأعضاءه، وقلبُه متطوّح في هم مشكلاته الدنيوية، أو منصرف إلى تخطيط السبل الموصلة لآماله التوسعية. كذلكم العبادات والقربات الأخرى. لايمكن أن ينعكس شيء من ذلك على مرآة قلبه حضوراً أو خشية أو تفاعلاً ما بين البدن والشعور، وكيف ينعكس ذلك على مرآته، وقد سبقته إليها كل الرغائب الدنيوية بسائر فروعها الكثيرة المتنوعة، فاحتلت مساحة المرآة القلبية أجمع، ولم تبق منها بقيةٌ لوافد جديد؟!..

 

فهذه الطاعة، مهما كبرت في حجمها، أو زادت وكثرت في كمّها، لاتصل إلى الله إلا متضائلة صغيرة، ولعلها لاتصل إليه، بل تذوب وتنتهي في مرقاة الصعود إليه، إذ يذيبها أو يمزقها قانون: ((إن الله طيب لايقبل إلا طيباً)).

 أخي القارئ: فلنتواثق أن نطهر قلوبنا من شوائب التعلق بما سوى الله أخي القارئ: فلنتواثق أن نطهر قلوبنا جهد الاستطاعة من شوائب التعلق بما سوى الله، مستعينين على ذلك باستلهام المزيد من معاني وحدانية الله عز وجل، وغرس المزيد من حقائقها ومستلزماتها في عقولنا.. إذن سنعلم أن الله وحده هو مصدر كل سعادة وخير، دنيا الناس خاضعة لأمره، لاتتحرك مقبلة أو مدبرة إلا بتدبيره وسلطانه، والنعيم كلّه، العاجل منه والآجل، إليه مردّه وبيده صنعه وبحكم منه وحده ظهوره واختفاؤه.

وفي هذا اليقين - إذا استقر في العقل وسرى إلى القلب - ما يجعل آمال الفؤاد وآلامه ورغباته متجهة إلى الله وحده، إذ إن مفاتيح الخير كلها بيده، ومغاليق الشر كلها إليه.

هذا، فضلاً عن أن قلب الإنسان، كان ولايزال وعاء مهيأ لحب الله وحده، بهذا نطقت الفطرة، وبذلك شهدت قصة بدء الخلق، فلنكن رقباء على أوعية قلوبنا هذه أن لاتدنسها محبة الأغيار، أياً كانت، ولنضع كل شيء من المكونات التي حولنا في مكانها المناسب. إن فيها مبتغيات لاتصلح حياتنا الدنيوية بدونها، فلنضعها من حياتنا في المكان أو المركز الذي هيئ لها، دون أن تتجاوزه وتتعداه، ولقد يسّر الله إلى ذلك سبيلاً سهلة، عندما سخرها لنا، وأخضعها لاحتياجاتنا.. ففيم نرقى بها إلى مستوى القيادة والحكم، ثم نبلغ بها من حياتنا إلى سدة التعلق والحب؟..

 إننا إن فعلنا ذلك (ولن يتأتى إلا بجهاد ولون من الصبر والمصابرة عليه) عظمت طاعاتنا عند مولانا عز وجل، وإن بدت في أعيننا أو في ميزان قدراتنا حقيرة صغيرة، أياً كانت هذه الطاعات، وإلى أي الأعمال الصالحة كان انتماؤها.

 ولكنا إن أعرضنا عن هذا الواجب الجهادي الكبير، واستسلمنا للأهواء التي تتسرب إلى مكمن الحب من قلوبنا، واكتفينا من حقائق التوحيد، بشهادتها التي يكررها اللسان، ويغيب عن معناها الجنان، فلنعلم أن حب العاجلة الدنيوية، بكل أنواعها وأشكالها، لابد أن يحتلّ قلوبنا، التي كان ينبغي أن تكون وقفاً على محبة الله وتعظيم الله والخوف من الله وحده.

وعندئذ مهما برزت الطاعات والقربات لله تعالى عظيمة جليلة في أبصارنا، فلن تصل إلى الله عز وجل إلاّ حطاماً زائفاً.

وصدق رسول الله  إذ قال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي