الحكمة الحادية والخمسون: لا عمل أرجى للقبول من عمل يغيب عنك شهوده، ويحتقر عندك وجوده

لابدّ لإدراك المعنى الجليل الذي ترمي إليه هذه الحكمة، من مدخل يعيدنا إلى عقيدة التوحيد التي هي الأساس الذي لابدّ منه لصلاح سائر الأعمال، وإلى واقع الضعف الذي يصطبغ به الإنسان في أحواله كلها.



إن من معاني التوحيد التي ينبغي أن نعلمها وأن نصطبغ بها، أن الله هو الخالق لأفعال الإنسان، وأن الإنسان إنما يتحرك ويذهب ويجئ بمعونة الله وتوفيقه، فإذا انفكت عنه معونة الله وعونه، ووكله إلى نفسه، تحول إلى كتلة عجز ولم يتأت منه شيء.. ولذلك علمنا الله عز وجل إذا خاطبناه في صلاتنا، أن نقول له، بعد الثناء عليه: إياك نعبد، وإياك نستعين، ففي الجملة الأولى نعلن عن عبوديتنا وانقيادنا لأمره وحكمه، وفي الجملة الثانية نعلن عن كامل توحيدنا له، من خلال الإقرار بعجزنا الكلي، وحاجتنا الدائمة إلى عونه وتوفيقه. وهذا العجز الكلي هو الذي تعبر عنه الكلمة القدسية التي علّمنا إياها رسول الله: لا حول ولا قوة إلا بالله.. وهو الذي تنبئ عنه النصيحة النبوية الغالية التي يقول فيها ((استعن بالله، ولا تعجز)) أي اجعل من استعانتك بالله السبيل الأوحد إلى التخلص من عجزك.

أما ضعف الإنسان الذي هو نتيجة قرار الله القائل: { وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً } { النساء: 4/28 } فمصدره ما قد سلطه الله عليه من نيران الشهوات وسلطان الغرائز، ووساوس الشيطان، إلى جانب إمكاناته المحدودة كما سبق بيانه.

ومن آثار هذا الضعف فيه، أنه لا تكاد تصفو له عبادة من زغل، وأنه يظل مشدوداً إلى سلطان غرائزه وشهواته، فتكون طاعاته وقرباته مشوبة بشائبة الأهواء، مغموسة بالغفلات ممزوجة بالكثير من رعونات النفس وحظوظها.

فإذا صحا الإنسان لهاتين الحقيقتين في كيانه: علم أنه مدين في حركاته وسكناته وأنشطته وقدراته وسائر جهوده لتوفيق الله وعونه، وعلم أنه مهما توجه إلى الله بالطاعات والعبادات، فإنها تظل مثقلة بأسباب التقصير ممزوجة بالغفلات والأخطاء وحظوظ النفس.

وإذا علم الإنسان ذلك، فإنه مهما أقبل إلى الله بالطاعات والقربات، فلن يشعر في أعقابها إلا بعظيم منة الله عليه إذ شرح صدره لها، وأطلق قدراته في أدائها، ثم بشديد حيائه منه عز وجل إذ كان ضعفه البشري حائلاً بينه وبين النهوض بها على النحو الذي يليق بربوبيته وعظيم حقه عليه. ولسوف يدعوه شعوره الخَجِلُ هذا إلى أن يقبل على الله في أعقاب طاعاته قائلاً: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) كما كان يفعل رسول الله ويعلمه أصحابه.

ومن هنا، فقد كان الربانيون من عباد الله عز وجل لا يعودون من طاعاتهم وعباداتهم إلا بأثقال من مشاعر الفضل والمنن لله عليهم، إذ أعانهم وأمدهم بأسبابها من انشراح الصدور وتيسير الأمور، وصرف العوائق، وبأثقال من مشاعر الحياء والخجل من الله تعالى، إذ لم تكن طاعاتهم وقرباتهم من الصفاء والطهارة من الزغل وكدورات النفس، بحيث تليق بحضرة الله عز وجل وربوبيته لهم وحقه عليهم.

من ثم فإن أحدهم لم يكن يطمع بأكثر من أن يقبلها الله منه على علاّتها وعلى ما فيها من نقص وتقصير، موقناً بأنه لا يملك أن يطلب عليها أي مثوبة أو أجر، بل موقناً بأنه هو المدين فيها لله عز وجل بالشكر على توفيق الله له ومدّ يد العون إليه، وعلى قبولها منه على ما فيها من زلاّت وإساءات وتقصير.

فهؤلاء هم الذين يتقبل الله منهم قرباتهم وطاعاتهم، يتقبلها منهم لأنها غابت - كما يقول ابن عطاء الله - عن شهودهم، إذ الله هو الموفق والمعين والميسر. ولأنها أحقر من يتراءى لها وجود يناسب ألوهية الله وعظيم حق الله عليهم. إذ هي مليئة فيما يرون ويجزمون بمظاهر العيب والتقصير وحظوظ النفس.

ولكن من أين لابن عطاء الله هذا القرار، بأنهم هم الذين يتقبل الله منهم أعمالهم، وأن الآخرين لايرجى أن يكون لهم حظ في القبول؟

 

إن مستند ذلك في كتاب الله عز وجل، قوله، وهو يصف هذه النخبة من عباده الصالحين: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ راجِعُونَ } { المؤمنون: 23/60 } أي يتقربون إلى الله بما يتقربون إليه به من الطاعات والعبادات، وهم خائفون، من مغبة ما اقترنت به من مظاهر السوء والتقصير، أن لا يقبلها الله منهم، وأن يعاقبهم على العيوب والآفات التي تسربت إليها، روى الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم، من حديث عائشة أنها قالت يارسول الله – تسأله -: الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أهو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟‍!.. قال لا يا ابنة أبي بكر، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل أن لا يتقبل منه.

 

فأصحاب هذه الصفة والصفات التي قبلها، امتدحهم الله عز وجل بقوله: { أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ } { المؤمنون: 23/61 } .

ومن الأدلة على هذا الذي يقوله ابن عطاء الله، الدعاء الذي علّمه رسول الله لمعاذ وأوصاه أن يدعو به بعد كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) إذ إن هذا الدعاء شأن من لا يرى لعبادته أثراً في جنب عظيم سلطان الله، وكبير حقه عليه. فهو يلجأ إليه ويدعوه أن يعينه على أن يعبده العبادة اللائقة به، السليمة من النقص والشوائب، والبعيدة عن آفات تقصيره وحظوظ نفسه.

ومن الأدلة على ذلك أيضاً شدة خوف أصحاب رسول الله، لاسيما المبشرين منهم بالجنة، من عاقبة أمرهم ومن أن يفاجؤوا بسخط الله عليهم. وإنك لتعلم من حال الخلفاء الراشدين الكثير والكثير من مظاهر هذا الوجل.

أين كانت عبادات عمر وطاعاته من خاطره وشهوده، يوم أسرع يحمل عدل الدقيق على ظهره ليمضي به إلى المرأة التي كان يتضور أولادها جوعاً، فقال له غلامه: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أُمَّ لك؟.

 أين كانت طاعاته، وهي كثيرة وكبيرة، من خاطره وشهوده، يوم تلى في الصلاة قول الله تعالى: { إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ } { الطور: 52/7-8 } فخرّ مغشياً عليه؟ وأين كانت طاعاته هذه من خاطره، إذ كان يسأل حذيفة خائفاً قلقاً: أنشدك الله أأنا من المنافقين؟ وأين كانت طاعاته الكثيرة هذه من خاطره إذ كان يلقى الصبيّ فيأخذ بيده قائلاً: ادع لي فإنك لم تذنب بعد؟

ثم إن الشأن فيمن كان قريب العهد بالهداية والالتزام، أن لا يفهم هذا الكلام، وأن يرى في أداء الفرائض الأساسية من الصلاة والصوم ونحوهما، وفاء كاملاً لحق الله عز وجل، ومهما كانت عباداته شكلية خالية من مضمون الخشية والحضور، ومهما كانت حظوظ النفس متسربة إليها، فإنه يرى أنه قد أنجز بفعلها كل ما هو مطلوب منه.. ذلك لأن قلبه لا يزال فارغاً من العواطف الإيمانية المتمثلة في تعظيم الله والشعور بحقوقه الكبيرة التي لا تحصى عليه، والمتمثلة في حبه له بسبب ما يتوارد إليه من نعمه التي لاحصر لها... وإنما هو الإيمان العقلي الأعزل، ولعله لا يزيد في أول الأمر على كونه إيماناً تقليدياً مندفعاً إليه بسائق التيار الاجتماعي المؤثر من حوله.

فإذا سار في الطريق إلى ترسيخ إيمانه هذا بضع خطوات، عن طريق مزيد من دراسة دلائل التوحيد والتنبه إلى حقائقه، والركون إلى شيء من مجالس الذكر وأهل الصلاح والتقوى، أدرك أن الله أجلّ من يتقرب إليه بطاعات وعبادات شكلية، لا يشترك القلب فيها بشيء من الحضور والخشية.

ويبدأ بالارتياب في صحة صلواته التي ينصرف خاطره فيها إلى مشاغله الدنيوية ورغائبه النفسية، بينما يردد لسانه ما حفظه واعتاد عليه من آيات الفاتحة وغيرها من سور القرآن الكريم..

وإنك لتجد كثيراً من الناس على اختلافهم، يسألون - في هذه المرحلة - عن السبيل الأيسر والأمثل إلى الحضور والخشوع في الصلاة، والتخلص من عوامل الشرود والغفلة فيها.

فإذا تابع هذا السالك طريقه، وازداد إقبالاً على معاني التوحيد يتدبرها ويتأمل فيها، وازداد عكوفاً على مجالس ذكر الله بالقلب والشعور لا بمجرد اللسان والسبحة، كما قد مرّ بيانه، أخذ قلبه يستقبل مشاعر جديدة وافدة من تعظيم الله ومهابته، وأخذ يدرك أنه هو المحرك لهذا الكون كله، وأن العبد لا يتحرك ولا ينشط ولا ينطق ولا يفعل، إلا بالقدرة الإلهية التي يكرمه الله بها، فهو الخالق لفعله، وهو المدبّر لأمره، وأن مناط الثواب والعقاب في تصرفاته إنما هو ((الكسب)) الذي هو التعبير القرآني عن الاختيار والقدرة على اتخاذ القرار، وهما منحة ربانية للعبد، بها يستحق الثواب على الطاعات التي اختارها وعزم عليها، وبها يستحق العقاب على المعاصي التي آثرها بالعزم والاختيار.. ثم إنه في هذه المرحلة يتحرر شيئاً فشيئاً من غفلاته ومشاغله الفكرية بالدنيا وأهوائها، إذ يصحو إلى المنن والنعم الإلهية التي تتوارد إليه من كل صوب وفي كل حين، فتهتاج من ذلك مشاعر الحب لله في قلبه، ولايكاد ينفك عن الإحساس بعظيم منن الله عليه.. وعندئذ، وتحت سلطان هذه الحال، يخجل من طاعاته وقرباته التي كان يزعم أن يؤدي بها حقوق نعم الله عليه، وهي لا تبلغ أن تكون كهباءة أمام قيمة كنز عظيم لا ينفد!.. إذ يرى آثار ودلائل ضعفه المتحكمة في طاعاته، من غفلة وعجز وتسرّب لسلطان الحظوظ النفسية إليها، هذا إلى جانب ما يعلم من أن الله هو المعين له في أدائها، وهو الذي يبث في كيانه وأوصاله القدرة على فعلها والتحرك بها، فالفضل إذن في العبادة التي أقدره الله عليها، للمعبود الذي يتقرب بها إليه، وليس للعابد الذي لا حول له ولا قوة ولا يملك من أمر نفسه شيئاً إلا بمعونته وتوفيقه.

 في ظل هذا الشعور يتقبل الله منه طاعاته، والحقيقة أن مناط القبول إنما هو شعوره بعجزه عن الوفاء بأي من حقوق الله الكثيرة عليه، فهو يبذل كل ما يتأتى له من جهد في أداء العبادات والقربات، ولكنه يعود موقناً بأنه أساء ولم يحسن، وبأنه قصّر ولم يوفِ الله شيئاً من حقه، ويذوب عندئذ أمامه عمله وتغيب عنه جدواه، ولا يبقى أمامه إلاّ الأمل بمغفرة الله وعفوه.

ولا يقولنّ قائل: ولكنّ في المقربين من عباد الله من أحسنوا ولم يسيئوا، وأتموا ولم يقصروا، وأدوا كامل ما قد طلبه الله منهم، صافياً عن الشوائب وحظوظ النفس.. فإن رسول الله  هو أول المتقنين والمتقين والمتعبدين وسيدهم، ومع ذلك فهو القائل: ((لن يدخل أحداً عملُه الجنةَ)) قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).

وأساس ذلك أن المسلم كلما ازداد معرفة لربه، ازداد تبصراً بضعفه وتقصيره، فكان ذلك سبباً في تضاؤل قيمة عباداته وطاعاته أمامه، بل أمام معرفته لربه وإدراكه لعظيم حقه عليه.

أمامي الآن صور كثيرة لنقيض هذا الذي يذكرّنا به ابن عطاء الله، ويدعونا إليه في حكمته هذه، مع الأسف. ولكني أكتفي منها بصورة واحدة، قد تكون أسوأها وأخطرها.

 من هذه الصور حال من يمتنون على الله بإسلامهم وقرباتهم، ويعتبون عليه أنه سلط عليهم مع ذلك الكفرة والأعداء، بيان مفصل في تفنيد هذا الموقف والتحذير من الانزلاق إليه

كثيرون هم الذين يُدلّون على الله بإسلامهم وأعمالهم وقرباتهم الإسلامية، ويعتبون عليه عز وجل أنه قد سلّط عليهم مع ذلك أعداءهم الكفرة، ينتقصون من ديارهم ويستلبون حقوقهم.

والسوء الذي يتراءى في هذا الأمر، ينبثق من عدة جوانب هامة:

الجانب الأول: أن المسلمين اليوم في مجموعهم الغالب، منصرفون عن إسلامهم، متبرمون بمبادئه وأحكامه، قد اكتفوا منه بالانتماء ثم بقشور من الرسوم والتصرفات التقليدية، فتمن نهم على الله بأنهم مسلمون، واقفون عند حدوده، ملتزمون بأحكامه، كذب على الله عز وجل.

الجانب الثاني: أن المسلمين اليوم، حتى، ولو كانوا كما يزعمون، صادقين في إسلامهم، متمسكين بمبادئه وأحكامه مبتعدين عن الآثام والمحرمات، ومخلصين لله في ذلك كله، ما ينبغي أن يتباهوا بشيء من ذلك، ولا أن يطالبوا الله في المقابل، بما يستحقون على ذلك من نصر على أعدائهم، وتمكن في جنبات الأرض، وتقدم على أقرانهم في شتى ميادين الحياة ومقوماتها. فإن الفضل في صدق إسلامهم وصدق تمسكهم بمبادئه وأحكامه، إنما هو لِلَّه عز وجل. وصدق الله القائل: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } { الحجرات: 49/17 }.

وما أخلص مسلم  لله في إسلامه وفي طاعاته وعباداته، إلاّ وغاب عن مشاعره معنى الفضل له فيما قد هُدي إليه والتزم به، وتقلب بدلاً عن ذلك تحت ثقل من مشاعر منة الله وفضله عليه، إذ شرح صدره للإسلام وهداه إليه وأقدره على النهوض بأحكامه وواجباته.. ومضى يحمد الله ويشكره وهو يردد قوله عز وجل: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ } { الأنعام: 6/125 }.

 

وما تمنن أحد على الله بإسلامه وسلوكاته الإسلامية، إلا وهو كاذب في دينونته لله عز وجل، وفي دعوى عبوديته له عز وجل. ومعاذ الله أن يجتمع النقيضان فيلتقى هذا وذاك في كيان امرئ واحد.

على أن المسلمين اليوم، لو أرادوا أن يتناسوا عبوديتهم لمولاهم الخالق عز وجل ثم أرادوا أن يتخذوا لأنفسهم منه مكان الندّ من الندّ، إذ يتم بينهما تعاقد على نهوض أحدهما للآخر بمهمة ما، مقابل أجر يناله، ما كان لهم أن يطالبوه بشيء من هذا الأجر. إذ إنهم لم ينهضوا بمعشار المهمة التي تعاقدوا معه على النهوض بها.

أمرهم الله بصدق الاصطباغ بحقائق العبودية له دون غيره، فاصطبغوا بذلّ العبودية لكل ما يرهبون أو يرغبون، إلاّ له عز وجل!..

أمرهم الله أن يدخلوا تحت مظلة شرعه طائعين، فشردوا عنهم إلى سائر الشرائع والأحكام الأخرى، طبق ما يروق لهم، راضين مغتبطين!..

نهاهم الله عن الموبقات والظلم والفساد، فانحطوا في ذلك كله غير عابئين ولا متأثمين!..

أهاب بحماة الأوطان، والواقفين على الثغور، والمتوثبين للدفاع عن الديار والحقوق في المعسكرات، أن يعودوا إلى الله ويذكروه كثيراً، فقال لهم: { يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { الأنفال: 8/45 } فابتعدوا عن الله بدلاً من أن يعودوا إليه، وتناسوه بدلاً من أن يذكروه، وبالغوا في الإعراض عن وظائف الطاعات والعبادات، بدلاً من أن يزدادوا في مواقعهم إقبالاً عليها والتزاماً بها.

 

ثم أقبلوا بعد ذلك كله يمنون عليه إسلامهم، و(تحملهم) لأوامره وأحكامه!!.. ويعتبون عليه أن حجب عنهم النصر ومكّن لأعدائهم في الأرض!..

ولو أن المسلمين، إذ قصروا في جنب الله هذا التقصير، واستخفوا بحقوقه وشرعته على هذا النحو، عادوا فاعترفوا بسوء حالهم واستغفروا الله من تقصيرهم، وأدركوا أنهم لم يعودوا أهلاً للنصر الذي وعد به الله النخبة الصالحة من عباده، فأقلعوا عن السؤال والعتاب، إذن لكانت أبواب الأمل بمغفرة الله ورحمته مفتحة أمامهم، على الرغم من كل هذا الذي يتقلبون فيه من شرود وإساءة وتقصير.

ولكنّ المصيبة الكبرى، هي الجمع بين الإساءة في النهج والسلوك، والامتنان في الوقت ذاته على الله بالإسلام والانتماء إليه والتحلي برسومه وقشوره. مع الإصرار في العتاب على الله بأنه قد حجب عنهم النصر الذي يستحقونه بإسلامهم وبشاراته التي يرفعونها بأضواء النيون فوق مآذنهم.

ويأتي الجواب عن هذا كله بجملة واحدة يقررها بيان الله عز وجل في كتابه المبين، هي { إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } { المائدة: 5/27 } والتقوى حالة من المهابة والتعظيم تهيمن على القلب، مصدرها اليقين بعبودية الإنسان لله ومملوكيته الكاملة له. وهيهات لمن أيقن عقله بهذه الهوية للإنسان وفاض قلبه بمشاعر المهابة والتعظيم لقيوم السماوات والأرض مالك الكون كله، أن يرى - مهما بذل من جهد - أنه قد أدّى معشار حقوق الربوبية عليه. ومن ثم فهيهات أن يمتن على الله بإسلام هو الهادي له إليه، أو بقربات وطاعات هو الموفق له إليها والمعين له عليها.

إن العبادة مهما ضؤلت وصغرت، تعظم عند الله عز وجل، في ضرام الشعور بذل العبودية لله والخضوع لسلطانه، ثم إنها، مهما كبرت وعظمت، تضؤل وتصغر، وربما تذوب وتفنى، في مجال التباهي بها، وتسجيلها حساباً على الله عز وجل.

 بقي أن أوضح أن رؤية العبادة بهذا المعنى شيء، وشكر الله على التوفيق إليها والعون عليها شيء آخر.. وبمقدار ما يكون الأمر الأول مذموماً، يكون الأمر الثاني حسناً ومطلوباً.

والمؤمن الذي فاض قلبه بمشاعر العبودية لله، لا يلتبس عليه هذا بذاك، فهو إن رجع إلى نفسه وضعفه، لم يجد أنه قدّم من ذاته شيئاً لله عز وجل. ولكنه إن نظر إلى فضل الله عليه ورعايته له، وجد أن الله عز وجل قدّم له من فضله وتوفيقه الكثير. فهو يقول لله تعالى دائماً، إن بلسان حال أو بلسان قوله: اللهم إن طاعاتي وقرباتي كلها، هدية هابطة منك إليَّ، ثم إنها عائدة بتفضل منك إليك، فتقبل اللهم مني ما تفضلت به عليّ، ولك الشكر على ما مننت به عليّ قدرة وعوناً وتوفيقاً.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي