الحكمة الثانية والعشرون: ما من نفَس تبديه إلاّ وله قدر فيك يمضيه

النَفَس هو هذا الهواء الصاعد والنازل من وراء صدرك. وهو يتألف من شهيق وزفير.. وحياة الإنسان إن هي إلا مجموعة أنفاسه. وإنما تتحقق أعمال أحدنا وأقواله وتصرفاته وأنشطته، في ساحة هذه الأنفاس التي يتمتع بها.



إذن، فابن عطاء الله يخاطب كلاً منا من خلال حكمته هذه قائلاً: يا ابن آدم، إن كل تقلباتك وكل أحوالك الصغيرة والكبيرة الخفية والمعلنة، داخل في قضاء الله وقدره، بحيث ماتكاد تطلق شهقة ثم زفرة إلا وهو داخل في سجلّ علم الله عنك.

وأساس هذا قول رسول الله : ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس))  ومن ثم فإن معرفة هذه الحقيقة واليقين بها من أوليات العقيدة الإسلامية.

أما ثمرة تشبع المسلم بهذه الحقيقة، فهي أنه يستريح بذلك ويريح. على أن لا ينسى ما قلناه من ضرورة التعامل مع الأسباب لا اعتماداً عليها ولكن تأدباً مع الله عز وجل في الخضوع للنظام الذي سيَّر هذه المكونات على أساسه.

ينهض المسلم بما كلفه الله به، ويبحث عن المسبَّبات عن طريق التعامل مع أسبابها، فإن هو وصل إلى مبتغاه حمد الله عز وجل موقناًأن الله هو المتفضل عليه، وإن لم يصل إليه استسلم لحكم الله موقناً أن الله لم يقدّر له في سابق غيبه وعلمه هذا الأمر، واستراح من القلق والاضطراب متذكراً قول الله تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } { البقرة: 2/216 }

ومن ثمرات تشبع المسلم بهذه الحقيقة أنه لا يبالي أن يغامر في سبيل ما شرعه الله له أو أمره به، بجسده وراحته، بل بماله وحياته إن تطلب الأمر ذلك، إذ هو يعلم أن ما قد سجل في علم الله وغيبه القديم لا بدّ أن يجري ويتم، سواء أعرض عما ينبغي أن يفعله وتكاسل، أو أقبل وغامر.. إذن فالكسل غير وارد، لأن الله قد أمره بالسعي والعمل وبذل كل ما يملك من جهد، مادامت الغاية مشروعة أو مطلوبة، والإقدام لا حاجة إلى الخوف من نتائجه وأخطاره، مادام المقدّر لا بدّ أن يجري وأن يتحقق في ميقاته.

والنتيجة أن يلتزم المسلم الذي أيقن بهذا، بميزان الشرع في إقدامه وإحجامه، ثم لا يبالي بشيء من المخاوف التي قد تصيبه أو تطوف به.. وتتجلّى هذه النتيجة أكثر ما تتجلى، في أنشطة المسلمين، في العصور الغابرة على طريق الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل والعمل على نشر المبادئ والقيم الإسلامية، الاعتقادية منها والحضارية. فقد ضربوا الأمثلة المدهشة في المغامرة بالمال والحياة ومفارقة الأوطان والتعرض لشتى الأخطار، وها هم أولاء قد تناثرت قبورهم في أنحاء العالم الإسلامي الذي لم يكن إسلامياً آنذاك.

ولو ساءلت نفسك عن السرّ الذي حملهم على كل ذلك، لعلمت بدون كثير تأمل أو جهد أنه الالتزام بأوامر الله أولاً، والاستهانة بالأخطار على تفاوتها وتنوعها ثانياً، ولكن، فمن أين جاءت تلك الاستهانة؟.. لا ريب أنها إنما جاءت من اليقين بأن كل ما سيواجه الإنسان في حياته ليس إلا مصداقاً لقضاء الله وقدره.

بوسعك أن تعلم إذ أن كل مايجري في حياة الإنسان، من أعماله وتصرفاته الاختيارية، وشؤونه وأحداثه الاضطرارية، مرآة دقيقة للقدر المغيّب عنا في علم الله عز وجل.

وليس في شؤون الإنسان وتصرفاته ما هو داخل في هذه المرآة وما هو خارج منها، بل الكل مرآة دقيقة لقدر الله عز وجل.ولكن كثيراً من المسلمين يظلون ويا للأسف في جهالة عمياء تجاه هذه الحقيقة التي هي من أوليات الدين.

تسألني فتيات هذا السؤال الدائم: هل الزواج قسمة ونصيب؟

أقول: ما معنى قسمة ونصيب، تقول السائلة: يعني أهو قضاء وقدر؟

ويسألني السؤال نفسه كثير من الشباب!!..

تقع حادثة ما، وينتهي التحقيق في التعرف على حقيقة الحادثة وأسبابها، إلى أنها قضاء وقدر!.. أي ليس لها خلفيات مسببِّة. ومعنى ذلك أن الحادثة لو كانت مستندة إلى خلفيات مسببة، إذن لما كان لها علاقة بالقضاء والقدر!..

وقد انتشر هذا التصور الأخرق، حتى غدا ذلك مصطلحاً يعتمده كثير من القانونيين والمحامين، في تقسيم الحوادث إلى ما له سبب جرمي وإلى ما ليس له سبب جرمي.

كل هذا... ورسول الله يقول في الحديث الصحيح والمعروف: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)) .

ولكن ما القضاء والقدر؟

ولكن ما القضاء والقدر؟ هذا أيضاً مايتيه أكثر المسلمين عن معرفته اليوم. وأظن أن تيههم هذا هو سبب جهلهم بأن كل شيء في الدنيا بقضاء وقدر.

القضاء هو علم الله بكل ماسيجري في الكون، أي مستقبلاً، من الحوادث الطبيعية، والتصرفات البشرية القسرية منها والاختيارية.

والقدر وقوع هذا الذي تعلق به علم الله تعالى، مطابقاً لعلمه، إذن فالقضاء هو علم الله بكل ماسيجري مستقبلاً.

والقدر هو المرحلة التنفيذية لذلك المعلوم الذي كان مخبوءاً في غيبه عز وجل.

وهل يساورك شك في أن الله يعلم ماسيجري في ملكوته، وهل يجري شيء ما في ملكوته إلا بخلقه وقدرته، فكيف لا يحيط علمه بما قرر أو (خطط) خلقه أو إعدامه أو تكييفه؟ وليس قضاء الله عز وجل أكثر من علمه بما قد قرر فعله.

فإذا علمت أن قضاء الله هو علمه بما سيكون، علمت أن القضاء لا علاقة له بالجبر أو الاختيار كما يتوهم كثير من الناس. إذ القضاء هو العلم، والعلم صفة كاشفة لا تستلزم بحدّ ذاتها جبراً ولا اختياراً.

ولكن بوسعك أن تتبين ما قد تعلق به علم الله عز وجل، وأن تتأمل فيه لتدرك أنه ينقسم:

إلى ما علم الله أنه سيخلقه بأمر تكويني لاعلاقة للاختيار الإنساني به، كالحوادث التي تعرض لما يسمونه الطبيعة من فياضانات وزلازل وتقلبات مناخية وتطورات نباتية وكالحوادث التي تنزل قسراً بالإنسان، من ولادة وموت وأمراض وعاهات ورقاد، ويقظة، وسقوط...إلخ.

وإلى ما علم الله أنه سيخلقه تبعاً لما قد تتجه إليه رغبة الإنسان واختياره، مثل كافة التصرفات والأعمال التي يمارسها أحدنا برغبته واختياره. دور الإنسان فيها التوجه واتخاذ القرار، بمقتضى ما أودع الله فيه من ملكة تجعله صاحب اختيار، ودور الباري عز وجل (إن صح التعبير) أن يخلق هذا الذي وقع اختيار الإنسان عليه وعزم على فعله.

فهذان النوعان من الأشياء التي تخضع للخلق التكويني، والأشياء التي يخضع فيها الخلق لإرادة الإنسان واختياره، كلاهما داخل في معلومات الله عز وجل قبل أن يوجدها.. إذن فكل ذلك داخل في قضاء الله عز وجل، وذلك لما علمنا من أن قضاء الله علمه بكل ما سيجري في الكون.

أعود فأقول: إن مشكلة عالمنا الإسلامي أن أكثر المسلمين فيه يمارسون إسلاماً تقليدياً، فارغاً عن مضمون المعرفة له، وبعيداً عن مضمون الالتزام الدقيق به!..

 

يقول أحدهم: فإذا كان الله يعلم سلفاً أنني سأعصيه، إذن فهو الذي أجبرني على المعصية!.. وكم من مثقفين، بل متفلسفين، واجهوني بهذا الإشكال!... دون أن يعلم أحدهم أن صفة العلم صفة كاشفة للمعلوم كما هو، وليست صفة مؤثرة، أي فهو (العلم) كالضوء المنبثق من مقدمة سيارتك، يريك ويكشف لك الطريق كما هو، دون أي تأثير فيه.

أرأيت لو كان لك ولد يحضّر للحصول على الثانوية العامة، وكنت تنصحه وتلحّ عليه دوماً أن يُقْبِل على الدراسة، ولا يتوانى عنها... فلما أدى الامتحان لم يكتب له النجاح، أرأيت لو قلت له: لقد كنت أعلم أن النجاح لن يكون حليفك، أفيسوغ له، فيما يقضي به العلم، أن يقول لك: فأنت الذي رمتني النجاح إذن؟

لا عِلْمُ الوالد باستحقاق ابنه للنجاح سبب لنجاحه، ولا عِلْمُهُ باستحقاق ابنه للرسوب سبب لرسوبه، السبب في كل الأحوال يعود إلى العامل المؤثر، وهو القابلية أوعدم القابلية.

كذلكم العبد بالنسبة لربه الذي أعطاه العقل ومتعه بالاختيار لا علمه باستقامته على طريق الفوز والعلاج سبب للفوز، ولا عِلْمُهُ بعدم استقامته سبب لعدم الفوز وللشقاء. إنما السبب في كل الأحوال مايختاره العبد لنفسه ثم مايبذل من جهد على طريق ذلك الاختيار.

وصدق الله القائل: { وَكُلَّ إِنْسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً } { الإسراء: 17/13 }

 إن الجهل الذريع بحقائق الإسلام، لاسيما الاعتقادية منها، لاسيما مبحث التسيير والتخيير في حياة الإنسان، هو الذي حملني منذ سنوات على إخراج كتابي المعروف (الإنسان مسيّر أم مخير).

وأعتقد أن الإحالة إلى هذا الكتاب تغنيني عن المزيد في شرح هذه الحكمة.

غير أن المهم أن تعلم أن كل مايصدر عن الإنسان من شؤونه القسرية وأعماله الاختيارية على اختلافها، داخل في علم الله سلفاً، أي إنه جل جلاله يعلم كل ماسيصدر عنه من ذلك، كلٌّ في ميقاته الزماني وحيزه المكاني، وعِلْمُ الله بما سيجري في الكون هو الذي يسمى قضاء، فإذا وقع المعلوم، ولن يقع إلا طبق علم الله به، سمّي ذلك الوقوع المطابق لعلم الله قدراً.

وهذا معنى قول رسول الله: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)).

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.