الحكمة الثانية والثلاثون: تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب

للشيطان إلى قلوب الناس وسلوكاتهم وسائل متنوعة شتى. فله إلى التائهين الضالين البعيدين عن محجة الهداية، السبيل الذي يناسب حالهم، ويغلب أن يكون سبيله إليهم دفعهم إلى مزيد من المحرمات والموبقات، وإبعادهم عن جواذب الهداية وعن فرص اليقظة والانتباه.



وله إلى الملتزمين جهد استطاعتهم بأوامر الله، من عامة الناس، سبيل آخر يناسب وضعهم الذي هم فيه، فهو لا يطمع منهم بالذي يطمعه من أولئك الضالين والتائهين. وإنما يضع أمامهم منزلقات أخرى لا تستبين لهم خطورتها، قد توصلهم في النهاية إلى حال الضالين من الفئة الأولى.

وله إلى من كان مثلي (ممن يرون أنفسهم، يتبوؤن سدّة التوجيه والإرشاد، وقد أقامهم الله على ثغور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أسلحته ووسائله الأخرى التي تختلف عن وسائله في الحالين السابقين.

ويغلب أن تكون وسيلته إلى هذه الفئة الثالثة، لفتَ النظر إلى ماله من مكانة وأهمية بين الناس، وينسج الشيطان لذلك أسباباً كثيرة متنوعة يضعها أمامه ويوحي بها إلى نفسه. من أهمها وأخطرها إبراز كل ما يمكن أن يكون دليلاً على مكانته وقربه من الله عز وجل، أمام المريدين وعامة الناظرين. كدعوى الكرامات والخوارق والأمور العجيبة التي يمكن أن تجري على يديه.

وربما استقر في ذهن واحد من هؤلاء أن ذلك هو السبيل الأمثل إلى جذب التائهين وهداية الضالين، إذ يخيل إليه الشيطان مستعيناً بنوازع النفس والهوى أن ظهور العجائب والخوارق على يد المرشد هو الذي يغرس الثقة به في نفس المريد والتلميذ، ومن ثم يزداد تعلقاً به وانقياداً له.

وسرعان ما يحمله هذا التصور على أن يجعل معظم مجالسه التي يجلسها للتعليم والإرشاد، مدبجة بالحديث عن كراماته والعجائب التي يجريها الله على يديه. وربما ساقه ذلك إلى الحديث عن مناماته التي يرى فيها رسول الله، وربما بالغ فأكد أنه يراه بين الفينة والأخرى يقظة.

من آثار ذلك ما استقر في أذهان كثير من المريدين أن علامة الولاية والقرب من الله ظهور الخوارق والكرامات ومن آثار هذا المنهج الذي يسلكه بعض الذين يمارسون وظيفة التوجيه والإرشاد، على تلامذتهم ومريديهم، أنهم إذ يتشبعون بهذا التصور الذي يتلقونه، يحسبون أن مقياس قرب أحدهم من الله، وارتفاعه إلى درجة العارفين والربانيين، إنما يتمثل في خوارق تجري على أيديهم وكرامات يمتعهم الله بها بين الحين والآخر. ومهما وفق للانضباط بأوامر الله والابتعاد عن نواهيه، فلايرى لشيء من ذلك قيمة ما لم يشعر أنه قد أوتي كشفاً لايتمتع به الآخرون، أو قدرات خارقة ميزه الله بها عن غيره.

والشأن في حال كثير من هؤلاء أنهم يلازمون أورادهم ووظائفهم اليومية من العبادات والأذكار، ولكن لا ابتغاء أداء ما افترضه الله عليهم وأداء حقوق العبودية في أعناقهم، وإنما ابتغاء أن يصلوا من وراء ذلك إلى مرحلة ((الكشف)) وظهور الخوراق، فإن داوموا على وظائفهم تلك دون أن يصلوا إلى هذا الذي ابتغوه، أيقنوا في أنفسهم أنهم لم يصلوا إلى مرحلة العرفان بعد.

ألا فلنعلم جميعاً أن هذا التصور المخالف لموازين الإسلام وهديه، من أخطر رقى الشيطان ووساوسه. إن أوامر الله لنا بالطاعات والأذكار والترفع على المحرمات لم تكن الغاية منها في يوم ما رؤية الأنوار، أو كشف الغيوب أو تحول الحصى في قبضة اليد إلى قطع من السكر، وإنما الغاية منها أن تتطهر القلوب من غوائلها وأمراضها التي تقصي العبد عن الرب، كالكبر والعصبية للذات والمذهب والحسد والتكالب على الدنيا وحب الرئاسة والشهرة.. إلخ.

إن أئمة التصوف المنضبطين بكتاب الله وسنة رسوله من أمثال الجنيد البغدادي والإمام المحاسبي، ثم الإمام القشيري صاحب الرسالة المشهورة، عندما يذكروننا بضرورة الإكثار من تلاوة القرآن وأوراد الصباح والمساء، والإكثار من نوافل الطاعات بعد فرائضها، يحذروننا في الوقت نفسه من الافتتان بعوارض الخوارق والوقوف عندها بأي غبطة أو اهتمام، مؤكدين أن الاستقامة على أوامر الله وطاعته هي الكرامة الحقيقية.

وهكذا، فإن علينا عندما نلزم أنفسنا بما يوفقنا الله له من الطاعات والأوراد والمبرات أن نتذكر الداء ونعلم الدواء.. إن الداء هو هذا الذي يتراكم مع الزمان على نفوسنا من الأمراض التي ذكرت طائفة منها، والدواء هذه الطاعات والأذكار والالتجاءات إلى الله عز وجل.

وهذا ما ينصحنا به ابن عطاء الله إذ يقول: ((تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب)).

إن الله عز وجل يهيب بنا في كثير من آي كتابه أن نزكيّ أنفسنا، يقول: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )) [الأعلى:87\14-15]، ويقول: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) ويقول: [ الشمس:91\9-10]، ويقول: ((فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى)) [النازعات:79\18- 19].

فهل التزكية أن أتمتع بالكرامات وأن تجرى على يدي الخوارق، فأبتلع الزجاج وأمسح الحجر فيتحول إلى سكّر؟

ليست هذه هي التزكية، ولم تشرع الطاعات والقربات من أجل شيء من هذا، وإنما شرعت ليداوي بها العبد أمراضه القلبية الخفية التي سماها الله ((باطن الإثم)) فإن رأى أنه قد عوفي منها، أو استطاع أن يتغلب عليها، فليستبشر بأنه قد وصل إلى مرتبة الصديقين، حتى ولو لم تجر على يديه أي خارقة، ولو لم تسطع أمامه الأنوار، ولو لم ير رسول الله في يقظة ولا منام.

أما إن رأيت أنك ما تزال معجباً بنفسك متسامياً على الآخرين تحسد ذوي النعمة، وتنقم على من سبقك في الرئاسة أو الشهرة، تتكالب على المال وتتصيّده من أي سبيل تأتىّ لك، فاعلم أنك بعيد عن الله محجوب عن ألطافه ورحمته، حتى ولو كانت الخوارق كلها طوع يدك، إنها استدراج وليست كرامة، إذا نظرت إلى المريدين وهم يتكاثرون من حولي (أنا ليس لي مريدون، ولكني أضرب المثل) وأجدهم يبالغون في تقديري ويتسابقون إلى يدي ليقبلوها، فشعرت بالنشوة تطوف بنفسي والاعتزاز يسري في كياني، فلأعلم أنني قد غدوت بذلك شراً من الفسقة والتائهين عن صراط الله عز وجل، ذلك لأنهم ينقلبون فيما سماه الله ((ظاهر الإثم)) أما أنا فأتمرغ من هذه المشاعر المهيمنة على كياني فيما سماه الله ((باطن الإثم)) وفرق كبير بين ذلك الظاهر الذي يمحوه لسان التوبة وهذا الباطن الذي لايقوى اللسان ولا العزم على امتلاخه، وإنما يمتلخه ويزيله منهاج مستمر وطويل من الأخذ بعلاج التزكية، وإنه لعلاج يحتاج إلى ممارسة طويلة وجهاد دائب.

لابدّ أن ألفت النظر هنا إلى خطأ كبير يتورط فيه بعض المرشدات إذ يقعن في نقيض ما يوصي به ابن عطاء الله، خلال وظائفهن الإرشادية أو التوجيهية التي يؤدينها، سعياً إلى تربية مريداتهن.

كثيراً ما يحلو للواحدة منهن أن تفاجئ طالباتها أو مريداتها، خلال الدقائق الأولى من جلوسها إليهن، بأنها تشم رائحة معصية تسود المجلس، ونظراً إلى أنها لا تستطيع الركون إلى ظلمات هذا الجو الذي قد يسري بالظلام إلى قلبها، فإنّ عليها أن تغادر المجلس، ريثما تتوب صاحبة المعصية من معصيتها.

دعك من الأثر النفسي الذي يهيمن، من جراء هذا التصرف، على التلميذات أو المريدات، إذ تقع كل واحدة منهن تحت ضغط شديد من القلق النفسي والتخيلات الجامحة، بحثاً عن المعصية التي ارتكبتها وأطلع الله هذه الوليّة الصدّيقة عليها.. لعلها النظرة التي بدرت منها إلى شاب صادفته في طريقها، أم لعلها المسلسل الماجن الذي تابعت جزءاً منه في سهرتها مع الأسرة بالأمس، أم يبدو أن الأمر يتمثل في نومها الذي امتدّ على خلاف العادة، فحرمها من قيام الليل!.. وكم من فتيات هيمن عليهن هذا الاضطراب المرهق ثم تحول إلى وسواس نفسي، ثم تحول الوسواس إلى مرض نفسي عضال!..

أقول: دعك من هذا الأثر النفسي ونتائجه، ولكن انظر إلى المعنى الذي يوحي به هذا التصرف، إنه يوحي إلى المريدات بأن المرشدة بصيرة بسرائرهن، خبيرة بالخفي من أوضاعهن، إذ إنها تتمتع بصفاء روحي ونوراني، يمتعها بالكشف ويرفع عنها الحجب، ويعرّي أمامها الحقائق.

فمتى كان المرشدون الربانيون، بدءاً من الرسل والأنبياء، يوحون إلى أتباعهم هذه الدعوى، ويزجونهم في هذا القلق المهلك.

إن المرشد كلما ازداد معرفة لله وتقرباً منه، ازداد اتهاماً لنفسه وشعوراً بتقصيره وخوفاً من عواقب هذا التقصير ومن ثم فإنه يوقن بأن الفتح الذي يكرمه الله به إذ يجلس إلى مريديه إنما هو ببركتهم، وأن الضيق أو الانغلاق الذي ينتابه، إنما مردّه إلى سوء حاله، وهو لايرى في عمله الإرشادي إلا وظيفة أقامه الله عليها.

إنني أقول لكم بحق: كثيراً ما آتي إلى هذا المجلس فأشعر أنني أجرّ الكلام جراً، وأن المعاني الحاضرة تغيب عن ذهني فلا أشك في أن السبب في ذلك سوء حالي، والإنسان كما قال الله عز وجل بصير بحاله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها } { الشمس: 91/9-10 } . وقد آتي فأجلس إليكم للحديث، دون تحضير للمعاني التي ينبغي أن أقولها،ما هي إلا لحظات وإذا بمعان تلقى على جناني ويخف في التعبير بها لساني، فما أشك في أن هذا الفتح المفاجئ إنما ورد إليّ ببركة بعض الصالحين الذين يفيض بهم هذا المسجد.

ومصدر الخطأ الذي يقع فيه بعضنا أننا نظن بأن مهمة الإرشاد والتوجيه إذ ينهض بها أحدنا، دليل على أنه يتبوأ مكانة متميزة عن الآخرين عند الله عز وجل.

 وإنه لظن باطل، بل إنه لخطأ قتال.

النهوض بمهام الدعوة والإرشاد، ليس أكثر من وظيفة يسخر الله للقيام بها من يشاء، وللحكمة التي يشاؤها.. ربما كانت ابتلاء، وربما كانت تربية وتهذيباً للمرشد الداعي أكثر من أن تكون نصيحة للناس الذين يرشدهم، وكم من مرشد ضلّ من خلال فتنة الإرشاد، واهتدى مريدوه بمعرفة الحق الذي تفتحت قلوبهم لإدراكه.. ولا أشك أن في المرشدين من سيدخلهم الله يوم القيامة في شفاعة بعض مريديهم.

وقد حدثني والدي رحمه الله عن واحد ممن كان يعرفه من العلماء المرشدين الصالحين، أنه كان يخدم مريديه، ويغسل، دون أن يعلموا، ثيابهم، وكان إذا اتخذ مجلسه معهم للتوجه، حسب أصول الطريقة النقشبندية، حذرهم من المبالغة في احترامه، ومن الانخداع بظاهر حاله، وأقسم بالله أنه لا يرى نفسه خيراً من أي واحد منهم، ثم يقول متأثراً: ولكنها وظيفة أقامني الله عليها، ولا يسعني إلا أن أنهض بها.

هذا هو المرشد، يؤدي وظيفته التي أقامه الله فيها، ثم يعود إلى نفسه فيندب حاله ويبكى على خطيئته.

واعلم أن من أعاجيب حكمة الله تعالى أنه لم يجعل لغير الرسل والأنبياء حظّاً في العصمة من المعاصي والآثام، ليكون ذلك بمثابة عصا التأديب، تلوح أمام كل من أعجبته نفسه، ثم تهوي على ظهره إن هو استمرأ مشاعر هذا الإعجاب، ورأى نفسه، وهو في موقع التوجيه والإرشاد خيراً من بقية عباد الله.

اللهم لا تجعل من احترام الناس لي وحسن ظنهم بي سَكَراً ينسيني سوء حالي وعظيم تقصيري في القيام بحقوقك.. اللهم لا تجعل نعمة سترك لي سبباً لغرور ينتابني، أو سبباً لنسيان سوئي الذي أثبتّه في علمك وأخفيته عن عبادك..

أما إنه لطريق وعر مخيف، أن يُزج بأحدنا في مهمة التوجيه والدعوة والإرشاد، فيحدق به الناس حباً وتقديراً وإعجاباً، ويتسابقون إلى يده يقبلونها، وإلى ثيابه يتمسحون بها، ثم يكون مع ذلك بصيراً بشأنه عالماً بتقصيره وسوء حاله، دائم الالتجاء إلى الله أن يغفر له ذنبه ويصلح له حاله، وأن لا يجعل من حسن ظن الناس به فتنة له في دينه.. ولكنه يغدو يسيراً وقصيراً في حق من عالج نفسه بدوام الالتجاء إلى الله والتذلل على أعتابه، يسأله أن يقيه شر نفسه وأن لا يبعده عن جنى رحمته وأن يذيقه برد إحسانه ولطفه. فلسوف يجد نفسه بين يدي رب كريم يجيب السائلين ويكشف السوء عنهم ويقيهم عن غوائل نفوسهم مع سترهم في الدنيا والمغفرة لهم يوم القيامة.

بقي أن فينا من قد يقول: أليس الربانيون من عباد الله عز وجل، أولئك الذين عالجوا أمراض نفوسهم حتى شفاهم الله منها، واجتازوا مراحل السعي إلى الله حتى تقبلهم الله في عداد الواصلين، فلماذا تستبعدون أن نكون منهم؟ ولماذا تضيقون سبيلاً أو تغلقون باباً فتحه الله؟

والجواب أن الربانيين هم أكثر الناس خوفاً على أنفسهم من الغوائل، وهم أشد الناس اتهاماً لها. ألم تسمع حديث الله عنهم إذ يقول: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } { النازعات: 79/18-19 } .

 

وسبب ما يلازمهم من التخوف واتهام النفس، أمران اثنان:

أولهما: أن الصالحين من الناس، مهما ساروا ثم تجاوزوا مدارج السالكين، فإن نفوسهم تظل نفوساً بشرية، وتظل الشهوات محببة إليها مزينة عندها، كما أخبر الله عز وجل، ولكن ذخر الطاعات والعبادات وملازمة المراقبة والأذكار يلجمها بضوابط الحب والحياء والخوف، فهم في كل أحوالهم وجلون، إذ يعلمون أنهم من أنفسهم على خطر، إذ لا يبعد أن تجمح بهم إلى أي من الأهواء المحرمة إذا ما غابت عنهم حماية الله ورعايته. وذلك أمر ممكن لا يستطيعون أن يكونوا في مأمن منه، وكيف يأمنونه على أنفسهم وهم يرددون قول الله عز وجل: { بَلِ الإِنْسانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } { القيامة: 75/14 } .

ثانيهما: أن الإنسان كلما ازداد قرباً من الله ومعرفة له ازداد تبصراً بعظيم حق الله عليه، ومن ثم ازداد شعوراً بتقصيره في جنب الله عز وجل، وتنبهاً إلى ما يراه من سوء حاله. ومن ثم فقد كان الربانيون من عباده سبحانه وتعالى هم أشد الناس خوفاً منه وتعظيماً له واتهاماً لأنفسهم. فمتى وأنى يستبشرون ويطمئنون بأنهم قد تطهروا من غوائل النفس واستقروا في شاطئ الأمان؟ ألا ترى إلى عمر، وهو من المبشرين بالجنة، كيف كان شديد الخوف على نفسه عظيم الاضطراب من مآله، يخيل إليه إذ يمشي بين الناس أنه يحمل على ظهره أوقاراً من الذنوب؟ ألا ترى إلى عليّ وهو ابن عم رسول الله وواحد من أخصّ أصفيائه، كيف كان يتأوه في جنح الله تأوه الملدوغ، ويخاطب الدنيا قائلاً: ((إليك عني غرّي غيري، طلقتك ثلاثاً بنتك ثلاثاً.. )) ثم يتحسر قائلاً: ((آه من قلّة الزاد وبعد الشقّة ووحشة الطريق)). وقد كان هذا شأن جلّ أصحاب رسول الله (ص)، وأنت تعلم أنهم الصفوة من عباد الله بعد الرسل والأنبياء.

إلا فلنعلم جميعاً أن المحجوب عن الله، هو الذي يأمن مكر الله، ويطمئن إلى أنه من الواصلين الذين زكيت نفوسهم وسلمت قلوبهم، فغدا همه الواصب وشغله الشاغل، أن ينال حظوته من الخوارق والكرامات، وأن يحدث الناس بها، يرفع لنفسه بها شأنا ويتخذ منها أداة نصحه ومادة توجيهاته وموعظته.

إذن فلنجعل همنا في كل التقلبات والأحوال، التشوف إلى ما بطن فينا من العيوب، لنسعى سعينا للتخلص منها، بدلاً من أن نتشوف إلى ما حجب عنا من الغيوب، لنتباهى بمعرفتها ومزية الإطلاع عليها. والله هو الموفق.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي