الحكمة الثامنة والثلاثون: لا تتعدّ نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال

هذه الحكمة تأتي بعد الحكمة السابقة، كالنتيجة بعد المقدمة.



إذ قد عرفنا لدى تأملنا في الحكمة السابقة ودراستنا لها، أن صاحب الوجود الحق، أي واجب الوجود، واحد لا ثاني له هو الله عز وجل. فهو الذي وجوده من ذاته وليس فيضاً من غيره، ومن ثم فهو صاحب الوجود الأزلي الذي لا أول له. ثم عرفنا أنه كان ولا يزال المتفرد بالوجود الحق أي الوجود الذاتي الواجب، فمهما رأيت اليوم مكوَّنات من حولك ومن فوقك، فليس لها أي وجود ذاتي مع الله، وإنما هي موجودة لحظة فلحظة بالله أي بمدد سارٍ إليها من الله.

وإذ قد عرفنا ذلك، فلابد إذن أن نعرف بأن سائر المخلوقات التي حولنا، لا تملك بحدّ ذاتها حولاً ولا قوة، ولا نفعاً ولا ضراً. وكيف تملك ذلك أو شيئاً منه، وهي لا تملك وجودها الذي هو مصدر كل المزايا والقدرات. فالناس أياً كانوا بقدرة الله يتحركون، وبسلطانه ينشؤون ويعمرون ويحكمون..

فإذا اصطبغ عقلك بهذا اليقين، واستقر علماً وحقيقة في فؤادك، فذلك هو التوحيد الذي ألزمنا الله به، وهو المعنى المنطوي في الكلمة التي وصفها بيان الله تعالى بالكلمة الطيبة: (( لا إله إلا الله )).

فكيف يكون سلوك من ترسخت في عقله حقيقة هذا التوحيد؟

عند الإجابة عن هذا السؤال، يأتي دور النتيجة أو الثمرة التي لابدّ أن تزدهر بها الحكمة السابقة، وهي قول ابن عطاء الله: ((لا تتعدَّ نية همتك إلى غيره فالكريم لا تتخطاه الآمال)).

إذا علمنا أن ليس مع وجود الله، وليس مع قدرته أي قدرة، وليس مع كرمه أي كرم أو كريم، وليس مع مالكيته أي مالك، وليس مع غناه أي غني.. إن بدا لك وجود شيء من ذلك، فهو من الله وبالله وإليه، أقول: إذا علمنا ذلك، فبمن يجب أن تتعلق آمالنا؟

يجب أن تتعلق بمن يملك وحده كل المعاني والصفات التي ذكرتها.

وقد عرفت أن الذي يملك الوجود وثمرات الوجود واحد لا ثاني له هو الله عز وجل… إذن يجب أن لا تتخطّى الآمال، أياً كان نوعها، وأياً كانت تطلعاتها، يجب أن لا تتخطى الآمال الواحد الأحد، وهو الله عز وجل.

وإذا تعلقت منك الآمال بالرزق، فاتجه بها إلى من بيده وحده خزائن السموات والأرض وهو الله.. وإذا تعلقت منك الآمال بالصحة والعافية فتوجه بها إلى الله الذي قال عنه خليله إبراهيم ((فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ )) الشعراء:26\80].. وإذا تعلقت منك الآمال بالطمأنينة والسعادة والأمن، فاتجه بها إلى الله القائل: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُ حْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [النحل:16\97].. وإذا تعلقت منك الآمال بمنعة تتحصن بها ضدّ ظالم أو عدو، فاتجه بها إلى الله الذي خاطب موسى وأخاه هارون قائلاً: ((قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )) [طه: 20\46].

ولعمري إن الذي تتجه منه الآمال، ابتغاء أي من هذه الحاجات، إلى غير الله وحده، مشرك وليس موحداً. ومهما ردّد الكلمة الطيبة (( لا إله إلا الله)) فإن ترداد لسانه لها، مع تعلق آماله بغير الله عز وجل، لايجعله من الموحدين.

فإن قلت: فما بال موسى وهارون أعلنا الخوف من فرعون قائِلَيْن: ((فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى )) [ طه: 20\45],أقول لك: إنهما اتجها بآمالهما في التخلص من طغيان فرعون إلى الله، لا إلى فرعون. إذ كان سؤالهما له ورجاؤهما منه، وكان الأمل الذي توجّها به إلى الله عز وجل، أن لا يسلط الله فرعون عليهما بأي إساءة أو طغيان. فكان هذا التوجه منهما بهذا الرجاء منتهى التوحيد لذاته العلية وصفاته السنية، ولذلك طمأنهما الله عز وجل في الجواب الذي خاطبهما به إذ قال: (( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) ))

 

وإذن، فتوحيد الاعتقاد والقول اللساني، لابدّ أن ينبني عليهما توحيد التطلعات السلوكية والعلاقات الاجتماعية. وهو، أي هذا التوحيد الثاني، هو ما أمر وأوصى به رسول الله (ص) سيدنا عبد الله ابن عباس، إذ قال له - وكان قد أردفه رسول الله خلفه -: ((ياغلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).

وهما (أي توحيد الاعتقاد والقول اللساني) ليسا توحيدين كافيين في الحقيقة، وإنما هي العقيدة التي يجب أن لا تنفصل عن ثمراتها التطبيقية.

والآن.. هل في هذا التوحيد الذي يذكرنا به ابن عطاء الله بل الذي يأمرنا به الله عز وجل، ويوصينا به رسول الله في مثل هذا الحديث، ما يتعارض مع الانبعاث في مناكب الأرض للتعامل مع الأسباب الكثيرة المتنوعة؟

بوسعك أن تعرف الجواب من استعمال ابن عطاء الله في حكمته هذه لكلمة ((الآمال)).. إن المطلوب منك أن لا تتجاوز آمالك المشفوعة بالهمة والنية، الكريم الذي هو الله عز وجل.

فإذا تحقق التوجه بالقصد والأمل إلى الواحد الذي لا ثاني له، فالتعامل بعد ذلك مع الأسباب.. أسباب الرزق والعافية والقوة والأمن والطمأنينة والعلم والمعرفة، تنفيذ لأمر الله وجزء لا يتجزأ من توحيد الله.

وإذا كان هذا واضحاً، فينبغي أن تعلم أنه لا فرق بين الأسباب المادية المتمثلة في الكدح للرزق والطعام للشبع والدراسة للعلم.. إلخ وبين أسباب الرحمة الإلهية ووسائلها، كمكانة الرسل والأنبياء، لاسيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومكانة الصالحين المقربين إلى الله من بعدهم.

فإن الله كما أقام من المطر سبباً للنبات، وأقام من الطعام سبباً للشبع وأقام من الدواء سبباً للشفاء، أقام من مكانة رسول الله عند ربه ومن حبه له سبباً لرحمة العباد وشفاعتهم، ألم يقل الله عز وجل: ((إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:21\107] ألم يقل:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوّاباً رَحِيماً } { النساء: 4/64 }.

إذن، فكما يجوز للمسلم أن يتوسل بالدواء إلى الشفاء، وبالطعام للشبع، وبالماء للري، وبالكدح للرزق، يجوز أيضاً أن يتوسل برسول الله لاستنزال رحمة الله، والحصول على آماله من الله عز وجل.. على أن لا يغيب عن باله أن الوجود الحق الذي لا ثاني له هو وجود الله عز وجل، وأن الخلق له والأمرَ إليه، وأن لا حول ولا قوة لشيء إلا بالله عز وجل. وأن يعلم أنه إنما يتعامل مع هذه الأسباب ويقف عندها، لأن الله أمره بذلك فهو في مشيه في مناكب الأرض باحثاً عن الرزق، وفي إقباله على الطعام عند الجوع، وإلى الشراب عند الظمأ، وإلى الدواء عند المرض، إنما ينفذ أمر الله وشرعته، كذلكم الحال عندما يتوسل برسول الله أن يرحمه الله ويلطف به ويصلح حاله، إنما يتوسل به لأن الله أقام منه وسيلة لذلك كله تكريماً له، أي فالرحمة واللطف وصلاح الحال إنما يأتي ذلك كله من عند الله تعالى. وهل في الخلائق كلها من يملك أن يرحمك أو يصلح حالك أو يرفع عنك الضر، إلا الواحد الأحد جل جلاله!.. ولكنا تلقينا من الله الأمر بأن نتعامل مع النظام الذي أقام كونه هذا على أساسه، وأن ننقاد له طاعة له وتنفيذاً لأمره عز وجل. ولاشك أن هذا الانقياد بهذا القصد جزء لا يتجزأ من توحيد الله تعالى.

والعجيب أن تجد في الناس من إذا سمع أحدهم مريضاً يقول لطبيبه، وقد أمضّه الألم، أرجوك أيها الطبيب أن تخلصني من هذه الأوجاع، لا يبالي بهذا الكلام ولا يستنكره، ولا يرى في هذا الطلب من الطبيب ما يخدش التوحيد. فإذا اتجه هذا الإنسان ذاته إلى الله قائلاً: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد، (ص)، أن تشفيني من هذه الآلام، قام في وجه مكفراً ومشرّكاً، وربما أمره أن يجدد إسلامه!...

فما الفرق بين السببية الجعلية التي قضى الله بها في الدواء للشفاء، والسببية الجعلية التي قضى الله بها في مكانة رسول الله والتوسل به للشفاء ذاته؟..

مع العلم، الذي لا يجوز أن يغيب عن بال أحد أنها سببية جعلية هنا وهناك، فالله هو الشافي والمعافي، ولكنه شاء لحكمة باهرة، أن يشفي المريض عند تناوله الدواء، أو عند توسله إلى الله للأمر ذاته بحبيبه محمد عليه الصلاة والسلام، أو عند توسله إلى ذلك بشربه من ماء زمزم.

 

وأعجب من هذا وأغرب، أولئك الذين يفرقون بين حياته صلى الله عليه وسلم ومماته، فيرون التوسل برسول الله مشروعاً في حياته، وغير مشروع بعد وفاته!!..

ولا ريب أن هؤلاء الناس يفهمون أن التوسل إنما هو بقوة رسول الله الجسدية وسطوته المادية، ونظراً إلى أن ذلك يزول بوفاته، فإن التوسل به بعد وفاته يغدو شيئاً لا معنى له ولا فائدة منه.

ولاشك أن الذي يتصور أن محمداً عليه الصلاة والسلام يملك قوة ذاتية بها يحقق للناس رغائبهم فهو متورط من ذلك بشرك خطير. إن القوة الذاتية إنما هي قوة الله وحده وصدق الله القائل: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } { آل عمران: 3/128 }.

من المعروف والثابت بداهة أن التوسل المشروع الذي نتحدث عنه إنما هو بالمكانة التي أولاها الله تعالى لرسوله والمزية التي متعه بها، إذ جعل منه باباً للدخول على الله في طلب مغفرة أو شفاعة، أو شفاء من مرض، أو التخلص من غم وهم، أو نحو ذلك من الحاجات الإنسانية التي ينبغي أن يطرق بها أحدنا باب الله عز وجل.

والمكانة التي يتمتع بها رسول الله، لا تنطوي ولا تنسخ بعد وفاته، معاذ الله، من قال هذا؟ إن مقام رسول الله عند ربه باق مستمر، وهو في علوّ دائم، وما الدعاء الذي ندبنا إليه رسول الله بعد الأذان إلا دليل ناطق بذلك.

ثم إياك أن تتوهم أن ما نسميه أسباباً فيه قوة مودعة بها تؤثر. فإن هذا الوهم يستلزم أن تكون القوة المودعة المزعومة ذات وجود ذاتي مستقل في الكون، وتقتضي أن الله عمد إليها فأودعها في بعض المكونات لتعطيها القدرة والفاعلية!.. فهل هذا إلا الشرك الصريح الواضح بذاته؟.. ما الفرق بين أن تتخذ الأوثان أو الأشخاص آلهة مع الله، وبين أن تتخذ ما تسميه بالقوة المودعة إلهاً معه؟ ألست تزعم بهذا أن الله عز وجل عثر من هذه القوة النادرة الرائعة، على ما يستعين به لإيجاد الأسباب الكونية وتمكينها من الفاعلة وتحقيق النتائج المطلوبة فأخذها وبثّها في كل هذه الأشياء التي شاء أن يجعل منها أسباباً بفضل هذه القوة الفريدة؟

إما أن هذه القوة هي قوة الله عز وجل، إذن فهي تظل منسوبة إليه ولا تنفصل عنه لتتحول إلى وديعة فيما يسمى بفضلها أسباباً. فنقول إننا شبعنا بقدرة الله وحكمه لدى تناول الطعام، وشفينا بقدرة الله ولطفه لدى أخذ الدواء.. إلخ.

وإما إن هذه القوة ليست قوة الله عز وجل، فعندئذ يتسنى لك أن تتوهم بأنها شيء مستقل عن ذات الله عز وجل، مودَع وموضوع فيما نسميه أسباباً. ولاشك أنك نتخذ عندئذ من هذه القوة الذاتية المأخوذة من هنا والموضوعة هناك، شريكاً مع الله عز وجل. بل إنك لتجعل منها عندئذ الشريك الأقوى الذي لا تتأتى ألوهية الله إلاّ بالاستعانة به، تعالى الله عن هذا الوهم المتهافت الباطل علواً كبيراً، وصدق الله القائل: ((وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)) والقائل: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)) والقائل: ((وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)) والقائل: ((وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ)).

قل لي.. أين بقي مكان القوة المودعة في هذه القرارات التي تقرؤها في هذه الآيات؟!..

ألا إن الكون كله بسائر ما فيه من تحركات وتموجات وأطوار، كبرت أو صغرت، ظهرت أو خفيت، ينشد بين يدي إلَهـه الحي القيوم تسبيحاً لا يفتر عنه، وتوحيداً لا يسكت عنه، إنه نشيد: لا حول ولا قوة إلا بالله.

فاللهم أحينا وأمتنا واحشرنا على هذا النشيد يهيمن يقيناً على عقولنا، ووجداناً في قلوبنا، وذكراً على ألسنتنا، واجعل من ذلك شفيعاً لنا بين يدي كل إساءة وتقصير.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي