الحكمة الثالثة والأربعون: لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلّك على الله مقاله

كثيراً ما يطرح أحدهم السؤال التالي متلهفاً:



لقد أكرمني الله بالهداية بعد الضلال، والتزمت أوامره بعد طول إعراض وشرود، ولقد عزمت على الابتعاد عن نواهيه، ولكن الغريزة البشرية ما تزال تهتاج بي، وتسوّل إلّي المحرمات، وتدفعني للرجوع إليها، وأجد نفسي ضعيفاً أمام هذا الصراع. فما الملاذ وكيف الخلاص؟

أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال، في أكثر الأحيان، واحد، هو هذا الذي يقوله ابن عطاء الله!..

إن المناخ الذي يحيط بالإنسان الذي هداه الله (لاسيما إن كان شاباً) يلعب دوراً كبيراً في تثبيت هدايته أو في بعث عوامل الاضطراب والضعف فيها.

فإن كان الناس الذين من حوله، والذين يشكلون المناخ الذي يتحرك وينشط فيه، من الصالحين المستقيمين على أوامر الله، ومن الذين فاضت قلوبهم بمشاعر العبودية لله، فلسوف يزداد هداية وحباً للاستقامة، وتقرباً إلى الله عز وجل، وكراهية للحال التي كان عليها من قبل.

وإن كانوا من أصحابه التائهين الذين كان يلقاهم ويسامرهم على موائد اللهو والعصيان، وكانوا لايزالون يتيهون في انحرافاتهم وغيهم، فلسوف يلقى من صحبتهم عنتاً كبيراً، ولسوف يثور بين جوانحه الحنين إلى ماضي فسوقه معهم، ولابدّ أن تمتد من ذلك ظلل من الضيق إلى قلبه وأن تهتاج عاصفة من الرغبات داخل غرائزه، فيقوم من ذلك بين جوانحه صراع، الله أعلم بنتائجه.

والمشكل أن في الناس من لا يعلمون، أن من وراء المادة المرئية أسراراً تدق عن الرؤية والرصد، تفعل أفعالها الهامة والخطيرة في الكيان، وأن لكل من الفسوق الذي يتراكم ويهيمن على النفس، وللتقوى ومشاعر العبودية الواجفة لله إذ تهيمن هي الأخرى على النفس، جاذباً خفياً عجيباً، أشبه ما يكون بالجاذب الذي أودعه الله في هذا المعدن الذي نسميه ((المغناطيس)).

إن لله تجليات على عباده.. له تجليات رحمة يقبل بها على المتحققين بمعاني العبودية له عز وجل، التزاماً وذكراً وتعظيماً ومهابة وحباً، واستغفاراً وتوبة عند كل إساءة وتقصير.. وله تجليات مقت يقبل بها على السادرين في غيهم، العاكفين على فسقهم، المستخفين بشرائع ربهم…

أفتظن أن الرحمة التي يتجلى الله بها على الصنف الأول من عباده، تبقى خفية داخل سرائرهم وفي عمق كياناتهم؟.. إن الأمر ليس كذلك، لابدّ أن تطفح آثار هذا التجلي، أو التوجه، على ظواهرهم وأشكالهم، ولابدّ أن تسري منه أشعة تمتد من نفوسهم إلى أبصارهم، فتخترقها لتسري إلى طوايا نفوس الأقربين منهم والجالسين إليهم، دون أن تدركها الأبصار، إذ هي ليست من نوع الأشعة المحسوسة التي تعكس أنوارها على الجدران والأرض والبقاع، وإنما هي أشبه بتلك الألوان التي تسمى فوق البنفسجية.. وسرعان ما يظهر أثر ذلك على أولئك الذين يجالسونهم ويقبلون إليهم، رقةً في القلب، وانشراحاً في الصدر، وحنيناً إلى الحق جل جلاله.

 

كذلكم الحال عندما يكون الأمر على النقيض من ذلك: فإذا تجلى الله تجلّي مقت على الفريق الثاني من عباده، فلابدّ أن تطفح آثار ذلك المقت والغضب الإلهي على ظواهرهم، تمتدّ من ذلك قترة على وجوههم وقسماتهم، وتخترق من ذلك المقت أشعةٌ غير مرئية، نفوسهم فأبْصارهم، لتسري إلى نفوس الأقربين منهم والجالسين إليهم، قسّوةً في القلب، وضيقاً في الصدر، وضعفاً واستخذاء أمام الغرائز والأهواء.

إن لتجليات الله قصة وأي قصة، يضيق عن ذكرها البيان، تبرز الصورة الباهرة الأخاذة منها، في تجلّي الله عز وجل لجبل الطور إذ كان يناجي كليمه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فانعكس من آثار ذلك التجلي على موسى الذي لم يكن يرى إلا الجبل، ما جعله يقع أرضاً ويخر‍ّ صعقاً.

 

وتبرز الصور الملطفة والمصغرة عنها في تجليات الله على قلوب عباده، فما كان منها تجلي تحبب وجذب وألطاف، تنسي صاحب ذلك القلب ذاته والدنيا التي من حوله، وتقذف به في يم من النشوة والنعيم لا ساحل له، وتملأ كيانه رضا، أياً كانت الحال التي هو فيها… وما كان منها تجلي مقت وغضب، يغلّف قلب صاحبه بغلاف من القسوة التي تتجاوز قسوة الحجارة، كما قال الله عز وجل، ويستثير في كيانه أسوأ الغرائز والطباع، ويحجبه عن بوارق الحقيقة اللامعة، وعن آيات الله الباهرة.

والمهم أن تعلم أن لكل من هذين التجليين آثاراً تمتد إلى الآخرين من المجالسين والأقربين، فتجليات الحب والرحمة تسري أنوارها وأشعتها غير المرئية إلى نفوسهم بسائق الرشاش والعدوى، وتجليات المقت والقهر، يمتدّ دخانها وفيح ظلماتها إليهم أيضاً بالسبب ذاته.

وصدق رسول الله القائل: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو أن تجد ريحاً خبيثة)).

إنك لتلاحظ أن رسول الله ، ينقل آثار التجليات الإلهية بنوعيها، وهي معنوية عورية، إلى ساحة التجليات المادية والحسية، ليؤكد لك أن آثار الأولى بالنسبة للجليس، ليست أقل أهمية وفاعلية من الثانية.. ولتعلم أن الحقائق العلمية اليوم لم تعد كما كانت في وهم الناس، أيام ديكارت وغاليله، محصورة في المادة التي تراها العين أو تخضع للحواس.. إنها اليوم تجاوزت دائرة المادة إلى ماوراءها من دنيا الروح وسلطان العلاقات الشعورية والمعنوية.. إن الأشعة الخفية المنبثقة من النفس من شأنها أن تخترق عيني صاحبها متجهة إلى نفسية الجليس المقابل، دون رؤية منه لها. أما سلطان هذه الأشعة فعائد إلى الله عز وجل، إذ هي في أصلها آتية من عنده منبثقة، كما أوضحنا، من تجلياته..

فإذا استيقنت هذا الذي قلته لك، وعلمت أنها حقيقة علمية ثابتة، قبل أن تكون خبراً دينياً مجرداً، تجلت لك عندئذ أهمية النصيحة التي يتوجه إليك بها ابن عطاء الله. إذ يقول لك: ((لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله)).

هما حال ومقال، ينبغي أن يجتمعا ويتحققا فيمن تصاحبه وتجالسه.

أما الحال، فوضع يتلبس كيان الإنسان من جراء ما انتهى إليه باطنه من تزكية النفس، وطهارة القلب، وتحوّله إلى وعاء يفيض بمراقبة الله وتعظيمه والخوف منه والحبّ له. وبالجملة فالحال المعنيّ بها هنا هي تخلُّص الإنسان مما سماه الله باطن الإثم.

صاحب هذه الحال، ينبعث تأثير من كيانه، من نظراته، من قسمات وجهه، من سرّ ينبعث من عموم وضعه، إلى جليسه القريب منه والمقابل له، دون حاجة إلى أن يتكلم وينصح ويناقش.. إذ إن هذا السرّ الذي سبق أن حدثتك عنه، والذي تنبعث آثاره من باطن الكيان إلى ظاهره، يترك في نفس الجليس من النتائج ما لا تستطيع المواعظ الكلامية أن تحققه. وما أكثر الأعراب الذين انتقلوا خلال دقائق معدودة، من أقصى أودية التيه إلى أعلى درجات الهداية، عندما ضمهم مجلس فيه رسول الله، وصافحت أعينهم قسمات وجهه، فسرى من حاله القلبية مع الله عز وجل، إلى نفوسهم، ما أيقظ فيها كوامن الفطرة، وألهب فيها مشاعر الحنين إلى الحق واسقط منها ركام الأهواء والعصبيات.

وكم في أصحاب رسول الله، ثم في التابعين الذين جاؤوا من بعدهم، فالذين جاؤوا من بعدهم، من هدى الله في مجالسهم ضالين وزائغين عن محجة الإسلام، دون أن يتجهوا إليهم بأي موعظة أو يحدثوهم بكلمة. إنما هو الحال التي شعت من داخل نفوسهم إلى أعينهم ووجوههم، فسرى منها تأثير رباني إلى أفئدة أولئك التائهين والزائغين، فكان ذلك منطلق اصطلاحهم مع الله، وانقيادهم لسلطانه وأمره.

تلك هي الحال، ذكرتها لك باختصار، وأما المقال فيتمثل في أن يكون هذا الذي تصحبه وتجالسه، ممن لا يألو جهداً في نصيحتك، يأمرك بالمعروف إن نسيته أو أعرضت عنه، وينهاك عن المنكر أن تلبست به، يشدّ همتك إلى مزيد من الإقبال على الله بكل ما يملك من أساليب الإرشاد والتوجيه، يتجه إليك بذلك كله بدافع من الإخلاص لوجه الله عز وجل، متقيداً بالحكمة الحسنة، وبالآداب المعروفة التي يجب أن يتقيد بها المرشد والناصح.

 

والشأن في هذا الناصح، إن كان متقيداً بهذه الضوابط والآداب، أن يذكّرك بالله ولا يجاملك إن رآك على حالة لا ترضي الله عز وجل، ولكن تحت مظلة من الستر، كما قد أمر الله عز وجل، وبطريقة محببة حكيمة، كما هو شأن الرسل والأنبياء والربانيين.

ولا يكفي في الصاحب الذي تركن إليه أن يكون ذا حال صامتة، لا يذكرك بأخطائك ولا ينهاك عن عثراتك. إن مثل هذا الإنسان إن كان صاحب حال حقاً، فلابدّ أن يكون من أهل الجذب الذين شغلهم حالهم عن النظر في أمر الآخرين والاهتمام بشؤونهم.. وعندئذ فإن اقتصارك على صحبة من كانوا على هذه الشاكلة خطأ لا مبرر له.

كما لا يكفي أن يكون هذا الصاحب، ذا منطق متوهج بالنصح والموعظة والإرشاد، إن لم يكن قبل ذلك أو مع ذلك ذا حال مما قد وصفت لك. إن مثل هذا الناصح سيتخذ من نصحه إذن سلّم علوّ في الأرض.. فإن كان دونك في الرتبة بنى لنفسه من نصحه لك أمجاداً أمام الناس، وإن كان فوقك في الرتبة أغلظ لك في النصح وتسامى عليك بما ينصحك به ويدلّك عليه، ودرّبك على كيفية توقيره وتعظيمه ومعرفة كبير حقه عليك. وبالجملة: الناصح الذي لا يتمتع بالحال القلبية التي وصفتها لك، سيجعل من أنشطة نصحه ومواعظه وإرشاداته حرفة دنيوية يبتغي من ورائها حظوظ النفس وأهواءها.. وهيهات لمثل هذا الناصح أن تسري نصائحه من الآذان إلى القلوب.

 

فمن هنا يطلب منك ابن عطاء الله، أن تستعين للاستقامة على الرشد بمجالسة الصالحين دون غيرهم، ثم يصف الصالحين بأنهم أولئك الذين اجتمعت فيهم صفتان اثنتان:

الحال القلبية مع الله، والنصيحة اللسانية مع عباد الله. فبحاله الصامتة يستنهضك إلى تقويم الاعوجاج والمبادرة إلى التوبة، وبنصحه اللساني، يعرّفك على الطريق ويبصّرك بالأحكام ويبعدك عن الشبهات ومطارح اللبس. ولاتغني واحدة من هاتين الصفتين عن الأخرى.

ولاأشك في أن الذين يتاح لهم الالتزام بهذا النصح، سيجدون منه الحصن الذي يقيهم من وساوس نفوسهم، ومن كيد شياطين الإنس والجن. والصعوبة لاتكمن في صعوبة العثور على الإخوة الصالحين والناصحين، فلايزال في مجتمعاتنا من هذه النخبة كثير بحمد الله عز وجل. وإنما تكمن الصعوبة في أن يظلّ أحدنا - مهما تقلب وقام بأنشطته الدنيوية التي لامناص منها - داخل المناخ الإسلامي الصالح والناصح!.. لابدّ أن تدفعه مصالحه الدنيوية وتحركاته المعيشية إلى الاحتكاك بالآخرين، وأعني بالآخرين، الذين لاينهضك حالهم ولايدلّك على الله مقالهم.

فكيف السبيل للتغلب على هذه الصعوبة؟

السبيل أن تفرق بين الصحبة التي يتحدث عنها ابن عطاء الله، التي ما ينبغي أن يفوز بها منك إلا أولئك الصالحون في أحوالهم الصامتة ونصائحهم الناطقة، واللقاءات العابرة التي تأتي وتمضي بها المصالح العارضة. اجعل صحبتك المقصودة لذاتها مع الذين وصفهم لك ابن عطاء الله، واجعل علاقتك بالآخرين بالقدر الذي تضطرك إليها ضرورات معايشك وواجبات وظائفك.

بقي أن في الناس من يسأل: فكيف السبيل إلى تنفيذ هذه النصيحة، بالنسبة لمن زجت بهم ظروفهم للعيش في المجتمعات الغربية

بقي أن في الناس من يسأل: فكيف السبيل إلى هذه النصيحة الهامة، لمن زجت بهم ظروفهم إلى العيش دواماً أو مؤقتاً، في المجتمعات الغربية، الأوربية أو الأمريكية؟

بيان الجواب مفصلاً: مع التنويه بمشكلة الفتاوى الشرعية الجاهزة، استجابة لما يسمى اليوم بفقه الأقليات وأقول: إن مناط الحلّ والحرمة في عمل هؤلاء الناس، يتمثل في المناخ الذي يعيشون ويتقلبون فيه. فإن أتيح لهم أن ينسجوا لأنفسهم مجتمعاً صغيراً يحيط بهم، يتألف من أفراد صالحين ناصحين، لهم حال إسلامية تهيمن على بواطنهم، والتزام إسلامي يضبط أعمالهم وسلوكاتهم، بحيث تتوفر لهم ولأولادهم في ذلك المناخ أو المجتمع الصغير، النشأة الإسلامية والتربية الإيمانية، بعيداً عن المؤثرات التي تعكر عليهم صفو حياتهم الإسلامية، فلا حرج عليهم في أن يقيموا حيثما نحقق لهم فيه هذا المناخ أو المجتمع الصغير.

 

أما إن لم يتمكنوا من أن ينسجوا لأنفسهم هذا المناخ الذي وصفت، وكان شأنهم هذا الذي نراه غالباً، من أنهم كلما أرادوا إيجاد هذا المناخ لأنفسهم تغلبت عليهم واهتاجت من حولهم التيارات الضالة الفاسدة، فبددت لهم المناخ وفتتّت نسيجه، واقتحمت عليهم دُورَهم ومؤسساتهم، وملتقياتهم الأسرية والعائلية، لتلون حياتهم وأفكارهم شيئاً فشيئاً بلون المجتمع الذي يقيمون فيه، ريباً في العقائد الإيمانية، أو إعراضاً عن الالتزامات السلوكية، أو استئناساً وتقبلاً لما يرونه حولهم من مظاهر الفسوق والعصيان، فليعلموا أنهم إذن يخسرون، شيئاً فشيئاً، أثمن وأجلّ ما قد خلقهم الله من أجله.. وليعلموا أن كل ما تسوله لهم نفوسهم من مبررات بقائهم على هذه الحال، كالضرورات واقتضاء المصالح، ومستلزمات الدعوة، أوهام باطلة لا تقرها موازين الشرع وأحكامه.

 

أما الفتاوى التي تتوالى بتبرير ذلك كله وإعطائه السمة الشرعية المقبولة عند الله عز وجل، فلا أشك في أنها فتاوى حِرَفية يبتغى من ورائها مغنم دنيوي أو تجاوب مع سياسة مرسومة رعاية لمصلحة فئة أو جماعة.. إن سائر تلك الفتاوى تحبك ثم تدار على محور أو أساس ما يسمونه ((الضرورة)) وأشهد أن الضرورة الشرعية بمعزل عن ضرورتهم التي يفترضونها أو يتخيلونها. الضرورة الشرعية المعروفة هي تلك التي إن لم يراعها صاحبها، تعرّض هو أو أي من زوجه وأولاده (يقيناً أو ظناً) لهلاك، من جراء جوع أو عري  أو شرود في العراء..

ولقد زرناهم في بلدانهم ومناطقهم التي قيمون فيها، وتعرفنا على أحوالهم وأوضاعهم، فلم نجد أي ضرورة تطبق على أحد منهم أو تتابعه وتتهدده، إنما هي الرغبة في مزيد من المتعة والتوسع. ويأتي ذلك كله - مع الأسف - على حساب الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية، نظراً لمقتضيات انسجامهم مع الأنظمة السائدة والتيارات المهيمنة. وهي كلها مناقضة لدين الله وهديه في المنطلق الأساسي وفي السلوكيات الجزئية العملية.

 

وصفوة القول: أن المناخ أو المجتمع الصغير الذي يحيط بالمسلم، والذي لا ينهضه حاله إلى الانقياد لأوامر الله، بل الشأن فيه أن يتخبطه كما يتخبطه الشيطان من المسّ وأن يهوّن عليه سبيل الشرود عن أوامر الله ويبعث في نفسه مشاعر الاستخفاف بمبادئه وأحكامه، ثم لا يجد فيه مقالاً يدله على شرائع الله وأوامره ويحذره من نواهيه، فهو مجتمع سيء آس يجب الإسراع، جهد الاستطاعة، في الابتعاد عنه والتخلص منه سواء كان مجتمعه ذاك جزءاً من دار كفر أو دار إسلام، كي لا يقع يوم القيامة تحت طائلة قول الله له { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها } { النساء: 4/97 } .

أما إن كان المناخ أو المجتمع الذي ينشط ويتحرك فيه، له حال ينهضه إلى الانقياد لسلطان الله وأداء حق العبودية له، وفيه من التذكرة القولية ما يبصره بأحكام الله وحدوده، وأمامه ومن حوله متسع يمكنه من تنفيذ شرائعه وأحكامه وآدابه، فهو مجتمع إنساني مفيد، ولا حرج في الركون إليه والإقامة فيه، سواء كان هو الآخر جزءاً من دار كفر أو دار إسلام. وصدق الله القائل: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } { الملك: 67/15 }.

فالأصل إذن، كما يقول الله عز وجل، الإباحة.. إباحة التنقل والإقامة في بلاد الله الواسعة. ولكن حكم الإباحة يبقى أو يتبدل، حسب الأسباب الطارئة والعوارض المتبدّلة، والمقياس، أو الميزان ليس إلا هذا الذي ذكرته لك.

وإنما يقدر هذا المقياس حق قدره ويعلم مدى أهميته، من عرف نفسه عبداً مملوكاً لله، ودان لما بعد الموت، واتخذ دنياه التي يسعى إليها مطية لدينه الذي خلق من أجله، وبوسعي أن أقول لمثل هذا الإنسان، مطمئناً: استفت نفسك، وإن أفتاك المفتون.

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي