الحكمة التاسعة والأربعون: لا يعظم الذّنب عندك عظمة تصدّك عن حسن الظن بالله تعالى، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه

هذه الحكمة ساقها ابن عطاء الله استدراكاً أو تقييداً للحكمة التي قبلها. فإنه لما لفت النظر إلى ضرورة الحزن على ما قد يفوت المسلم من فرص الطاعات، وإلى ضرورة الندم على ما قد ارتكبه من المحرمات، لم يبعد أن يوجد في الناس من يسترسل في الحزن، وفي الندامة، إلى أن يزجّه كل منهما في حالة من اليأس، فيقع في نفسه أنه لم يعد أهلاً لمغفرة الله وصفحه، وربما وسوس له الشيطان عندئذ أن انقياده إلى الطاعات وابتعاده عن المحرمات، لايفيدانه بعد اليوم شيئاً، فخير له أن يمتع نفسه بما يشتهيه، من أن يحرمها من حظوظها دون فائدة.



فعقب عليها بهذا الاستدراك محذراً من أن يعظم الذنب عند العاصي عظمة تصده عن حسن الظن بالله، وتنسيه واسع فضله وعظيم رحمته وصفحه، ومنبهاً إلى الرجوع بالذكر إلى صفات الله والتأمل فيها، فإن من عرف ربه من خلالها، أي من خلال معرفة صفاته، لابدّ أن يستصغر أمامها ذنوبه، مهما كثرت في العدد وعظمت في النوع. لا يعظم الذّنب عندك عظمة تصدّك عن حسن الظن بالله تعالى، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه

وقد تستشكل سبيل التوفيق بين هذا الكلام والذي قبله، فتقول:

إن العبد إذا فتح باب الحزن على نفسه من جراء تقصيره في طاعات فاته شرف النهوض بها. أو فتح على نفسه باب الندم من جراء معصية ارتكبها، فإن الشأن أن يتطاول سلطان كل منهما عليه، إلى أن ينتهي به ربما إلى مضيق اليأس. ومن علم حق الربوبية على العبد، ووقف على دلائل قهر الله وسطوته، وما أعدّه للعصاة والمارقين، يصعب عليه أن يتحكم بحزنه وندمه، وأن يضع لكل منهما حداً. إذ إن كلا منهما انفعال قسري وليس فعلاً اختيارياً. فكيف يتأتى له أن يستجيب لنداء الحزن والندم، ثم يتحكم بهما ويتحرر منهما، ليجنح إلى الطمأنينة والاستبشار بأن الله قد غفر له ذنبه وأصلح له حاله، وأنه جل جلاله سيكون يوم القيامة عند ظنه به.

والجواب أن مصدر هذا الاستشكال ما قد تتوهمه من أن سبب الحزن أو الندم يجب أن يكون الخوف من سخط الله وعقابه، وعندما يكون سبب ذلك هذا الخوف فالإشكال وارد، لأن الخوف مرتبط بموجبه وهو العقاب الذي يتوعد الله الضالين والعاصين به، وإذا استحكم الخوف بالنفس، فلابد أن يشوش على حسن الظن الذي هو مبعث الأمن والطمأنينة في النفس.

غير أن الشأن في المؤمن الذي عرف ربه من خلال صفاته الأسنى وأسمائه الحسنى، ومن خلال ما لاحصر له من النعم التي يكرمه بها، ومن خلال ما سخر لخدمته من المكونات، أن يسارع دائماً في الاستجابة لأوامره ووصاياه، وفي الابتعاد عما ينهاه ويحذره منه من المحرمات، حباً له ويقيناً منه بأنه لا يوجهه إلا إلى الخير، ولا يحذره إلا من الشر.. فإذا ساقه الضعف إلى مخالفة أمره، أو الوقوع في نهيه، فاض قلبه خجلاً وتأثراً من هذا الذي بدر منه تجاه مولاه، الذي هو غريق ألطافه ومننه وإحسانه. فذلك هو مصدر حزنه وندامته.. بل الشأن فيه أن يزداد حزناً وندماً كلما ازداد يقيناً بمغفرة الله له وصفحه عنه.

وتلك هي الحال التي انتابت فضيلاً، يوم كان يقف مع الحجيج في عرفة، روى ابن الجوزي في صفة الصفوة عن مهران بن عمرو الأسدي قال: سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفة بالموقف، وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء، يقول: واسوأتاه، وافضيحتاه، وإن عفوت عني.

فهذا الحزن والندم لا يتعارضان مع حسن الظن بالله عز وجل، بل هما من آثاره ونتائجه، كما قد رأيت من حال فضيل.

والأليق بحال العبد أن يكون مبعث حزنه على مافاته من الطاعات وندمه على ما ارتكب من الموبقات، الحياء من الله عز وجل، والتأثر من سوء معاملته لله مع حسن معاملة الله له.. فذلك هو الدليل على حبه وتعظيمه له. أما الحزن أو الندم الذي يكون مصدره الخوف من عقاب الله وعذابه، فقصارى ما فيه أنه دليل على اهتمامه بذاته وحبه لنفسه، وحرصه على أن لا يمسّه سوء وأن لا يناله أذى.

 

كم وكم من فرق في مقام القرب والحب، بين من يجزع من المعصية التي ارتكبها، لما قد أناط الله بذلك من آيات الوعيد بالعقاب والنكال، وبين من يجزع من المعصية ذاتها ويندم على ارتكابه لها، إذ يقف وقفة تدبر أمام قول الله تعالى: { هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلاّ الإِحْسانِ } { الرحمن: 55/60 }.

مبعث الجزع والحزن هناك الخوف من عصى التعذيب أو التأديب.. ومبعث الجزع هنا العتب الأخّاذ الرقيق إذ يتوجه من المحسن المتفضل الكبير..

والذي ينتابه الجزع الأول، قد لاتعنيه الذات الإلهية التي تتوعده العقاب، وإنما يعنيه العقاب الذي يبحث عن ملاذ منه.. أما الذي ينتابه الجزع الثاني فإنما يعنيه الذات الإلهية دون سواه، حباً ومهابة وتعظيماً له.

والذي يهيمن عليه خوف العقاب، قد لا يدرك أهمية المشاعر المذيبة التي تنبعث من قوله تعالى: { هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلاّ الإِحْسانِ } { الرحمن: 55/60 } ..

ولكن القلب الذي أحب الله، ووقع في أسر الإحسان الرباني الذي لا ينفك عن صاحب هذا القلب في ليل ولا نهار، يأخذه من هذا العتب الإلهي الرقيق ما قد يذيبه.

وانظر.. وتأمل، بمشاعر حبك وتعظيمك لله عز وجل، إن كان قلبك يتمتع بشيء من مشاعر حبه وتعظيمه، في هذه الصياغة القرآنية العجيبة التي يقابل فيها البيان الإلهي إحساناً بإحسان على وجه المسائلة التي تنم عن وعد الله بالإحسان لعبده المحسن، وتنم في الوقت ذاته عن عتب الله على عبده الذي لايلتزم بمثل ما التزم الله له به، فيتلقى أنواع الإحسان من مولاه دون أن يقابل إحسانه هذا بمثله!..

وانظر كيف يساوي البيان الإلهي بين العبد والرب، على سبيل التنزل، في التذكير بالقانون المنطقي العادل القاضي بأن يقابلَ الإحسان بمثله.

وينطبق هذا القانون بصياغته القرآنية الدقيقة على الذات الإلهية، كما ينطبق على العبد سواء بسواء. فالآية تقول لك: هل من جزاء للإحسان الذي يتجه به العبد إلى الرب، إلا الإحسان المقابل الذي ينبغي أن يتجه به الرب إلى العبد.. وهي تقول لك في الوقت ذاته: هل من جزاء للإحسان الذي يتجه به الرب جل جلاله إلى العبد، إلا إحسان مقابل ينبغي أن يتجه به العبد إلى ربه عز وجل؟

وإذا كان عطاء الرب لعبده إحساناً وتفضلاً، فهيهات أن يكون الواجب الذي ينهض به العبد لربه إحساناً مماثلاً أو مقابلاً، ولكنها مشاكلة اقتضاها اللطف الإلهي بعباده، والتنزل في قرار التعامل معهم إلى مستوى تعاملهم معه وتلقيهم منه، فإذا كانت نعم الله الوافدة إليهم  تفضلاً منه وإحساناً، فليكن شكرهم الواجب عليها فضلاً منهم وإحساناً، على غرار قوله عز وجل: { مَنْ ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً } { البقرة: 2/245 } وقد علمت أن الله أجلّ من أن يحتاج فيستقرض أو أن يتعرض لجهد أو عجز فيتفضل بالإحسان إليه من يعينه فيدرأ عنه الجهد والعجز.. وهل القربات التي يتقرب بها العبد لربه، مما يسميه الله، تلطفاً منه وفضلاً، ((إحساناً)) إلا بتوفيق وعون من الله عز وجل؟..

إن طاعات المسلم إذ يتقرب بها إلى ربه، ليست في الحقيقة إلا من مظاهر إحسان الله له، وفضله عليه.. وستقف على تفصيل واف لهذا الكلام عند شرح الحكمة الآتية التي يقول فيها ابن عطاء الله ((من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك)).

المصدر: دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي