الحكمة التاسعة عشرة: لاتطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك من دون إخراج

نظرتَ، فوجدتَ أن كلاً من ظروفك ووضعك ومستواك الدراسي وجّهك إلى كلية الطب، وتأملت فوجدت أن طريقك في هذه الكلية إلى دراسة الطب، صاف عن شوائب الحرمة، بعيد عن مطارح السوء، ولكنك عدت إلى نفسك فشعرت أنك ميال إلى أن تتحول إلى دراسة الهندسة متأملاً أن يكون لك حظ من خلال هذا الاختصاص في بناء المساجد والمعاهد ونحوها، أو إلى دراسة الشريعة في كلية الشريعة، لتكون بذلك أقرب إلى معرفة الإسلام وأحكامه وإلى خدمة دين الله والدعوة إليه...



يقول لك ابن عطاء الله، لاتتكلف التحول مما اختاره الله لك من العمل المباح بدون تكلف، متأملاً أن يستعملك الله فيما هو أرضى له، من خلال التحول إلى العمل الثاني الذي تتوق نفسك إليه، ذلك لأن الله قادر على أن يستعملك فيما يزيدك قرباً إليه، ويزيده رضاً عنك، دون أن تتحول عن العمل الذي أقامك فيه. إذا أحبك الله عز وجل فما أيسر أن يستعملك في أجلّ القربات التي يحبها من خلال اختصاصك الذي ساقتك ظروفك إليه..

يعلمك دينه وشريعته وأنت جالس على مقاعد كلية الطب، يستخدمك في عمارة مساجده ورعاية معاهده، وأنت تستقبل المرضى في عيادتك. هذا فضلاً عن القربات الجليلة التي ستحظى بها من خلال اهتمامك بعافية الناس وسهرك على تطبيبهم.

 أقامك الله عز وجل، ضمن ظروف وأسباب أحاطت بك، على صناعة أسستها ومضيت في بناء مقوماتها، وتأملت فوجدت أنها لا تزجك في معصية ولا تحملك على أي سوء، ولكنك تتبعت حال جنود يقومون على الثغور ويحرسون الأمة وحقوقها من العدو المتربص بها والطامع فيها، وعدت إلى ما قد وعد الله به المجاهدين والقائمين على الثغور من المثوبة العظمى والأجر الكبير الذي أكده الله لهم في كثير من نصوص كتابه، فاستهواك هذا الجهاد المبرور، واتجهت إلى الله تطلب منه أن ينقلك عما أقامك فيه، ليستعملك في ذلك العمل الثاني، الذي وعد من الأجر الكبير عليه ما وعد.... يقول لك ابن عطاء الله: لا، إياك أن تطلب منه ذلك، فليس عسيراً عليه أن يستعملك فيما يكسبك الأجر ذاته، دون أن يخرجك من عملك الذي أقامك فيه.

ومصدر الخطأ في هذه الرغبة وأمثالها، عدة أمور:

الأمر الأول: أن صاحب هذه الرغبة يخيل إليه أن المثوبة منوطة آليّاً بسبب مادي، فما لم يتحقق هذا المناط لا تأتي المثوبة أو الأجر.. يخيل إليه أن التعامل بالشريعة الإسلامية دراسة وتدريساً ودعوة إليها مصدر لأجر كبير، وأن الارتباط بينهما مادي وطبيعي، ومن ثم فإن هذا الأجر لا يتأتى إلا بالتوجه إلى هذا العمل حصراً.

غير أن الحقيقة ليست كذلك. فالمؤجر والمثيب في كل الأحوال وعلى كل الأمور هو الله عز وجل، فهو الذي أناط إكرامه ومثوبته بما قد أناطهما به من أنشطة وأعمال، هذا إلى جانب ما يجب أن تعلمه من أن الله لا يحتاج إلى من يسخره لأداء عمل ذي فائدة دينية أو اجتماعية أو اقتصادية مثلاً. فالموفق والمعين في كل ذلك هو الله عز وجل، ولكنه عز وجل قضى لطفاً منه ورحمة أن يثيب عباده بعضهم ببعض، يسخر هذا لمصلحة ذاك أو لمصلحة المجموعة فيؤجره على هذا الذي سخره له، فهو المعين وهو المؤجر على ما قد أعان عليه، فالله عز وجل مثلاً هو الشافي كما قد حكى الله عز وجل عن خليله إبراهيم: { وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { الشعراء: 26/80 }

 ولكنه مع ذلك يؤجر الطبيب الذي يسعى متلهفاً للعمل على شفاء مريضه، وكم قلنا في المناسبات: الله هو الشافي، والأطباء هم الذين يأخذون الأجر من الناس والثواب من الله.

الأمر الثاني: أن المصالح التي تدور أحكام الشريعة الإسلامية عليها كثيرة ومتنوعة جداً، وأكاد أقول: ليس فيها ما هو أجلَّ وأبعث على المثوبة والأجر من الآخر، إن صفا القصد وخلصت النية لله عز وجل.

وأساس ذلك أن المصالح التي بها تقوم حياة الأفراد والمجتمعات كثيرة ومتنوعة كما قلنا، والدين الحق إنما يتمثل (بعد توفر الاعتقاد الصحيح) في العكوف على خدمة الأمة من خلال رعاية هذه المصالح.

ونظراً إلى أن الشخص الواحد لا يتأتّى له أن ينهض برعاية سائر تلك المصالح، فقد كان من حكمة الله ولطفه أن يسّر كلاً من عباده الصالحين لخدمة مصلحة من مصالح الأمة، وإنك لتنظر فتجد أنه عز وجل قد وزع مسؤوليات الأمة فيما بين عباده طبقاً للقدرات والرغبات المتنوعة التي قسمها بينهم.

وإنما الشرط الوحيد عندئذ ليتساوى الجميع في نيل المثوبة الربانية والحصول على رضا الله عز وجـل، أن تكون نياتهم خالصة لوجهه عز وجل، وأن لا تكون لأهوائهم ومصالحهم الدنيوية ورعوناتهم النفسية أي مدخل إلى أعمالهم وخدماتهم تلك.

فإذا تبينت هذه الحقيقة، لم يبق معنى ديني موجب لتطلع إنسان أقامه الله على خدمة المجتمع من خلال واحدة من مصالحه الكثيرة، إلى التحول من عمله الذي أقامه الله فيه إلى عمل آخر، وإذا كان حافزه إلى ذلك، التطلع إلى مزيد من المثوبة يتخيله في الانتقال إلى العمل الآخر، فإن الله قادر على أن يكرمه بذلك المزيد دون أن يتحول عن عمله ذاك، بل ذلك هو المأمول من كرم الله وإحسانه.

الأمر الثالث: إن الانتقال المادي من مجال اختصاص إلى مجال اختصاص آخر، ليس شرطاً لابــدّ منه للجمع بين وظيفتين أو مصلحتين في خدمة الأمة والمجتمع.

إن المخلص في عمله لله لا يحتاج لتحقيق هذا الهدف إلى أن يعرض عن المجال الذي هو فيه إلى المجال الآخر، بل بوسعه أن يجمع بين خدمات شتى وهو في موقعه ذاك لم يتحول عنه.

أرأيت إلى من شاء الله أن ييسر له دراسة الطب والالتحاق بكليته، إن بوسعه، إن هو رغب في خدمة دين الله عن طريق دراسة شريعته والتبصر الواسع بأحكامها، أن يفعل ذلك دون أن يتحول من موقعه الذي هو فيه إلى كلية الشريعة ويلازم مقاعدها بشكل رسمي.

إن سبيله إلى هذه الخدمة الأخرى ميسر ومفتوح، أينما كان وفي أي موقع وجد، وذو الحرقة على دراسة دين الله والتوسع في معارفه، يتنقل كما تتنقل النحلة التواقة إلى الرحيق، من حلقة إلى أخرى ومن درس إلى غيره، في المعاهد الرسمية وفي الحلقات المسجدية والدروس الخاصة، دون أن يتحول من اختصاصه الذي يسّره الله له وأقامه فيه. بل إن هذا هو شأن المخلص لوجه الله، لا يهمه المعهد الذي ينتمي الناس إليه، ولا الشهادة التي يعودون بها، وإنما يهمه أن ينهل من العلوم  والمعارف الدينية التي فيه. وهذا معنى قول ابن عطاء الله: فلو شاء لاستعملك من دون إخراج.

وقد ضربت لك في بيان هذا الأمر، مثال الطالب في كلية الطب عندما يتوق إلى خدمة الدين من خلال دراسة الشريعة، فقس أنت عليه سائر الاختصاصات والخدمات الإسلامية الأخرى.

 الأمر الرابع والأخير: النية!!.. لا تنس أن نيّة المرء هي مصدر المثوبة إن صلحت وَصَفَتْ عن الشوائب وتوجهت بصاحبها إلى مقصد واحدهو مرضاة الله. وهي السبب في ضياع الجهد وغياب المثوبة والأجر، عندما تتجه بصاحبها إلى غاية من الغايات الدنيوية الأخرى، وما أكثرها، وما أخطرها على عمل المسلم وجهوده التي يضني نفسه في بذلها.

فإذا عرفت ذلك، فإنك لن تتعلق بمظاهر الأعمال وصورها، ولن تربط المثوبة بأنواع الأعمال، وما قد يبدو لك من تفاوتها في الأهمية وفي ما قد تحققه من خير. بل ستتجه بالاهتمام والتمحيص إلى النية التي تدفعك إلى هذه الأعمال أياً كانت

والآن، أفيساورك شك في أن يكون واحد كالعالم الرباني عبد الله ابن المبارك، جاهلاً بهذه الحكمة التي تبينت لك وتجلى لك  موقعها في حقيقة هذا الدين ومنهجه التربوي والاجتماعي القويم،  فيحمله جهله بها على أن يرسل إلى الفضيل بن عياض -فيما زعموا- أبياتاً يقرّعه فيها على موقعه الذي أقامه الله فيه، متعبداً متبتلاً في مكة، ويسخر من ركعاته وعباداته هناك، ويدعوه إلى الخروج مما هو فيه والالتحاق به في موقعه الجهادي، ليراه كيف يبارز علوج الشرك والطغيان، وليبصره وقد تخضّب نحره بدمه، فتهونَ في عينيه مدامع خشوعه التي يتخضب بها وجهه!!..

أجل.. فقد نسبوا إلى عبد الله بن المبارك زوراً وبهتاناً هذا التقريع الساخر من الفضيل وهذا الطلب الملحّ بأن يقتلع نفسه من الحال التي أقامه الله فيها ويتحول إلى موقعه هو الذي يتباهى عليه به، وذلك في أبيات ركيكة ألصقت به دون أي سند، يبرأ شعر ابن المبارك إلى الله منها، أولها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا                     لعلمت أنك بالعبادة تلعب

 وهل تعلم من هو فضيل بن عياض؟

 هو ذاك الذي كان قلب ابن المبارك فياضاً بحبه وتعظيمه وتبجيله، كان يقول عنه: ((إذا نظرتُ إلى فضيل بن عياض جدّد فيَّ الحزن، ومقتُّ نفسي)) ويقول عنه: ((مابقي على ظهر الأرض أفضل من فضيل ابن عياض)) ولقد كان من أشد الناس خوفاً من الله.

 وهل تعلم من هو عبد الله بن المبارك؟

هو ذاك الذي سئل عن رجلين، أحدهما قتل في سبيل الله، والآخر أشدّ خوفاً من الله، فقال: أحبّهما إليّ أخوفهما.. وهو الذي سأله بعض إخوانه -وكانوا على ثغر من ثغور القتال يتذاكرون مسائل العلم- أترى يا أبا عبد الرحمن أن في أعمال البرّ ما هو أرضى لله مما نحن فيه؟ قال: نعم... رجل يسعى على عياله، قام من جوف الليل يتفقد حال صبيته ويطمئن إلى راحتهم وأغطيتهم.

أفيمكن أن تستبقي معشار عقلك ثم تصدق أن عبد الله بن المبارك هذا والذي قال عن الفضيل ما قد سمعت، يوجّه إليه أبيات تقريعٍ وسخرية من عباداته، ويتباهى عليه بما هو فيه، ويدعوه إلى أن يأتي فيرى نحره المخضب بدمائه، مع العلم بأن نحره لم يخضب يوماً ما بدمه؟!..

ولعلك تعود إلى كتابي (شخصيات استوقفتني) ص67 فيما بعد، لتقف على الأدلة الناطقة ببراءة عبد الله بن المبارك من هذا الهراء وفي مقدمتها عدم وجود أيّ سند لنسبة هذه الأبيات إليه.

أخيراً، لا تنسَ أن ابن عطاء الله إنما يتحدث عن الأعمال المباحة، بل الأعمال الصالحة، التي أقام الله عباده فيها، فهي التي ينطبق عليها المبدأ الذي يوصي به ابن عطاء الله. أما العمل الذي لا مبرر له في ميزان الشرع، مما قد يجد المسلم أنه متورط فيه، فإن الخروج من هذا العمل واجب، بل الدخول فيه والركون إليه محرّم.

ولسنا الآن بصدد تحديد الأعمال المحرمة وبيان أصنافها، فالبحث في ذلك يحتاج إلى بيان طويل الذيل.

إنما المهم أن تعلم بأن على المسلم أن يتعرف على الوظائف والأعمال التي تساق إليه، أو يدفع إليها، وأن يتبين حكم الله تعالى في الإقدام عليها، فإن علم أنها داخلة في صنف المحرمات فليتجنبها، ولا يقولن إن الله قد أقامني في هذا العمل وليتذكر قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ } { الأعراف: 7/28 }

المصدر:دار الفكر دمشق للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي