الحب الذي يضر

هل من الممكن أن يَضر الحب؟ نعم! إذا لم يكن الحب مُوَظَفَاً في مَحِلِّه، أو زاد عن حده من الممكن أن يَضُرْ بل من المؤكد أن يضر. وأوضح مثالٍ على ذلك هو حُبُّ الأُمِّ لابنها الذي تَزَوَّج. إِنَّ الابن الرجل بزواجه ينتقل نَقْلَةً نوعيةً، مختلفةً عن كل ما سبقها من علاقاته الاجتماعية بأصدقاء أو أقارب أو زملاء عمل، فقد كان في كل هذه العلاقات السابقة يذهب بعض الوقت ثم يرجع، يشارك بعض الوقت ثم يرجع، يشاطر بعض الوقت ثم يرجع. فبداية حركته كان بَيْتُ أُمِّه، ومنتهاها كذلك كان بَيْتُ أُمِّه، وما بين المبتدأ والمنتهى كان تحت سمع وبصر ومتابعة أُمِّه. وبزواجه يَضْمُرُ ويَتَقَلَّص الكثير من ذلك وهذه هي سنة الحياة وطبيعتها التي علينا جميعاً أَنْ نَعِيَهَا وأَنْ نَتَكيف معها وأن نُحْسِن تصرفنا حِيَالها، إذا أردنا لها أن تسير بهدوء تُظِلُّها السكينة وتُرَفْرِفُ عليها المودة والألفة.



 

إنَّ الأم التي تعتبر ابنها ملكية خاصة ليس لأحد من الناس أن يقترب منه أو يشاركها فيه والأم التي ترفع شعار ابني دائماً على حق، فهو مُتَمَيِّزُ زمانه وريحانة مكانه، والأم التي لم تتعلم أو لم تتخيل أن تخرج نفسها من حياته الخاصة موجهة له ومُصَرِّفَةً له أموره، أُمٌ تَسْبَحُ ضد التيار، وتسير عكس الاتجاه، ولا يتوقع لمن يسير عكس الاتجاه إلا الاصطدام، الاصطدام بكل شيء وبكل أحد، بزوجة ابنها، وبابنها، وبكل من يصادفها ويكون في مجال طريقها، وهذا ما لا نريده ولا نتمناه، إِنَّه مما لا جدال فيه، أَنَّ سبب هذا المنحى الذي تَنْحُوه الأم، هو حُبُّها الدافق لابنها، إِنَّ عاطفة الأمومة عاطفة ليس لها مثل حتى تقارن به، فهي العاطفة الصادقة جداً التي لا تسمو عليها عاطفة.


وهى العاطفة التي تَرِدُ عليها أَعْمَقُ العواطف تشبيهاً وتمثيلاً. إِنَّ سَلْبَ الأم ابنها هي كارثة الكوارث ألم تر إلى وصف الله تعالى لحال أُمِّ موسى عندما فقدته – في قوله تعالى: "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (القصص آية 10).
إِنَّ أخشى ما تخشاه الأم التي لا تلبث أن تتحول إلى حماة بعد زواج ابنها هو أن تفقد ما كان ملكاً لها وحدها لا ينازعها فيه أحد، وهى خشية ربما تكون فطرية وربما تكون مُسَبَّبَة بما يبررها، ما الذي نريده بعد هذا الاستعراض لطبيعة هذه العلاقة بين الأم وابنها؟ إننا لا نريد أن تتحول هذه العاطفة إلى مِعْوَل هدم لحياة ابنها ومن ارتبط بها، إننا نريد لهذه العاطفة أن تبنى وتصون لا أن تحطم وتبعثر. وهل من الممكن لهذه العاطفة أن تحطم وتبعثر؟ بكل تأكيد! وأقول لكم كيف بهذه المواقف التي أسوقها لحضاراتكم والتي نشاهدها ليل نهار في كثير من البيوت والزيجات.


الموقف الأول: من الطبيعي أن يختلف رجل مع زوجه، وأن يسبب هذا الاختلاف ضَجَرَه وضِيقَ صَدْرِه - فقد كان صلى الله عليه وسلم يختلف مع أزواجه - أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً - ويظللن يُرَاجِعْنَه حتى تَحْمَرَّ أوداجه ولكن الذي ليس من الطبيعي أن تنتفض الأم في كل مرة يحدث فيها هذا الاختلاف بين ابنها وزوجه - ليسرد لها ما حدث، ثم لتثأر له عن طريق معاتبة وتوبيخ والإساءة إلى زوجه، بل ليس لها - من وجهة نظري الشخصية - أن تنتفي أصلاً ولا أن تتدخل ولو لمرة واحدة، بهذا الأسلوب بينهما، فابنها المفروض أنه هو الرجل والرجل يستطيع أن يحل مشاكله بنفسه، وليس في حاجة في كل مرة يحدث فيها هذا الاختلاف أن يأتي بمحاميه الذي يدافع عنه وينتصر له!


واذهب أبعد من ذلك، وأقول للابن، أنه إذا حدث خلاف بينك وبين زوجك - وهو بلا شك حادث - فحذار أن تشرك فيه أمك حتى ولو طلبت منك ذلك، وليس في ذلك أي علاقة بحسن برها أو بعقوقها - والله تعالى أعلى وأعلم، على أن يكون اعتذارك لها بمنتهى الأدب! ومرة وراء مرة ستتعود على ألا تطرق هذا الباب أصلاً. وغنى عن الذكر أن أقول : إن نفس هذه النصيحة أنصح بها البنت مع أمها حال اختلافها مع زوجها، وكذلك أمها حماة الرجل!


موقف ثاني : من الطبيعي أيضاً أن ترتبط الأم بأبناء ابنها ارتباطاً عميقاً لأنه كما يقال (أعز الولد ولد الولد) ولكن من قال أن يكون هذا الارتباط العاطفي مُسَوِّغاً لقيام الجدة بدور الأم، من حيث وضع النظام الحياتي الخاص بهم، وفيما يتعلق بوقت المأكل والمشرب والملبس، إن تحديد هذه الأمور وغيرها من أساليب الكلام، وفنون الذوقيات، والسلوكيات، من وظيفة الأم في الأساس، وزج الحماة بنفسها في هذه الأمور ينشئ الحزازات بينها وبين زوجة ابنها التي تتدخل من دون وجه حق في أخص خصوصياتها ومع ألصق الناس بها. إن هذا التدخل من الحماة غالباً ما يكون دافعه الحب، ولكنه الحب الذي يضر ويؤثر بالسلب على الأطراف الأخرى كما ذكرت.


موقف ثالث: هل يختلف معي أحد إذا قلت إن الحياة اختيارات، وأنه من الطبيعي أن يسئ أحد الناس في اختياراته وأن يسئ الآخر فيها؟ لا أعتقد‍ فالناس متفاوتون في ذلك أشد ما يكون التفاوت، وربما يكون الابن وزوجه من الصنف الثاني ، ومع ذلك ليس للأم (الحماة) أن تعتبر ذلك مبرراً، لكي تجثم عليهما في كل قرار يتخذانه، إنها حياتهما المستقلة، ونتائج اختيارهما تعود عليهما، إن الذي من الممكن أن تفعله هو أن تنصح، وفى كل مرة يعرض عليها الأمر، على أن يظل الأمر في إطار النصيحة وفقط، ولكن أن يتعدى ذلك إلى الإجبار، أو المخاصمة، أو الإلحاح، أو رفع لافتة: العقوق، والجحود في وجه ابنها أو زوجه.


إن الحب في هذا الموقف هو أيضاً الدافع لهذا التدخل، ولكنني كما ذكرت هو الحب الذي يضر؛ صدقوني إن آخر ما أسعى إليه أو أفكر هو أن يكون مقالي هذا دعوة لتحجيم دور الأم، أو تلجيمها، أو الاستخفاف بمشاعرها وعمق عاطفتها.


إن هذا مما لا أجرؤ على الاقتراب منه، غاية الموضوع أنني أريد أن أعطى لكل ذي حق حقه، وأن نضع الأمور في نصابها وأن نحكم بين الناس بالعدل، قال تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً" (النساء 58)، بالعدل وحده تهدأ النفوس ويكون عندها قابلية للالتقاء والتفاهم والحب، وهذا ما نسعى إليه أن يكون بين كل امرأة وحماتها وبين كل امرأة وكنتها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

كتبه الأستاذ عمرو خالد لمجلة المرأة اليوم بتاريخ: 29 / 6 /2004