الثقافة الإسلاميّة والاقتصاد والتنمية

منذ ظهور التنظير الاقتصادي الحديث، ومع بروز البحث حول أسباب تقدّم بعض المجتمعات وتخلّف أخرى، هيمنت الأطروحات الاقتصادية في معالجة قضية التخلّف والتنمية، وغابت الخاصيات المحلية و الثقافية في أغلب النظريات الاقتصادية.

وقد برز التأكيد على التفسير الاقتصادي لدى المدرسة الليبرالية من خلال أطروحة التخلّف التي تبنتها؛ إذ تعدّه مرحلة تاريخية يمكن تجاوزها برفع بعض المؤشرات، فأضحى التخلّف حالة نقص وحاجة من الرأسمال والكفاءات في ظل مجتمعات تقليدية راكدة .



أما النظرية الماركسية في عموميتها فقد هيمن الاقتصاد كعامل رئيس لفهم التخلّف وتجاوزه وظهرت مجتمعات ما قبل الحقبة الرأسمالية في حالة توازن واستقرار، مع ظهور عوامل مقاومة سلبية. غير أن البعد الثقافي ظل مهمّشاً أمام التأثير الرئيس للاقتصاد تخلّفاً وتطوّراً.

إن الطريق المسدود والحلقة المفرغة التي وصلت إليها التجارب التنموية في بلدان العالم الثالث يرجعان إلى عدد من الأسباب، منها:

 أحادية البعد الاقتصادي، وعملية الإسقاط التنموي الذي يتجاهل الواقع الاجتماعي والثقافي للشعوب، وما يتضمنه من قيم واعتقادات ومشاعر.

لقد عُرّفت الثقافة عادة على أنها مجموعة ما يبنيه الإنسان من معارف وقيم، وما يحدثه من نشاطات وأنماط سلوكية، سواء كانت مادية أو روحية، دنيوية أو دينية، وهي بالتالي تمثل حالة توتر مستمر بين الفرد والبيئة، وتعبّر عن رؤية خاصة لمجتمع ما تجاه إشكاليات وجوده الاجتماعي.

ويمكن تعريفها إسلامياً بأنها "جملة القيم الدينية والأخلاقية، والنظم الاجتماعية، والمعارف العلمية، والأشكال الفنية، والعادات والأعراف التي قامت بها الحياة الفردية للإنسان المسلم والحياة المشتركة للشعوب الإسلامية في أي من أقطار الإسلام" ..

وقد مثلت الثقافة دوراً هاماً وحافزاً للبناء الحضاري في عدد من المجتمعات؛ فهي وراء القفزة الرأسمالية للمجتمع الياباني ولحاقه بركب الحضارة الصناعية، وقد عدّ (مورشيما) العوامل الدينية الكونفسية؛ من ولاء ومرونة ومساعدة للسلطة كأسباب رئيسة وراء هذا التطور .

ومن قبل اعتبر (ماكس فيبار) الثقافة الدينية البروتستنتية عاملاً محدداً في تكوين العقلية الرأسمالية للفرد الأوروبي وتوسعها العالمي، بما حملته من أفكار تحارب التواكل والخنوع، وتدعو الإنسان إلى النهوض والقيام بواجبه نحو العالم المحيط .

وقريباً منا اعتبرت ما سُمّي بالقيم الآسيوية؛ من ترابط أسري، واحترام للعمل، والتعليم كأعمدة للتحوّل المدهش لبلدان شرق آسيا في النصف الثاني لهذا القرن .

وقد تمكن العالم الإسلامي من الريادة التاريخية لمدة قرون شكّلت شهوده الحضاري الأول.

وقد مثل الإسلام وما صاحبه من ثقافة على مختلف الأصعدة الفلسفية والأدبية والعلمية العمود الفقري لهذه النهضة التي عرفت قمة عطائها وأوج ازدهارها في مشارف القرن الرابع الهجري.

وقد مثلت القيم الإسلامية المحور الأساس لهذه الثقافة الدافعة والطموح والتي يمكن تلخيصها في خمسة محاور:

         إعطاء معنى للحياة؛ إذ انسجمت إرادة الإنسان الفاعل مع إرادة الله الكامل.

         روح المبادرة والعمل وترك الرهبنة والانعزال.

         رفض الإفساد والدعوة إلى الإصلاح في كل مستويات الظاهرة الإنسانية.

         التوافق البيئي والانسجام مع الطبيعة.

         الدور الأساسي للعقل ومباركة فعله داخل بوتقة الهدى الرباني.

لقد صاحب التدهور الحضاري الإسلامي منذ قرون، وتقلص إشعاعه وانهزامه المعرفي تساؤلات حول مدى التأثير السلبي للثقافة الإسلامية في هذا الانحسار، خاصّة وأن كل البلدان الإسلامية (باستثناء ماليزيا نسبياً تتبع ما سُمّي لاحقاً العالم الثالث) وقد شدد (ارنست رينان) منذ أواخر القرن الماضي على الحاجز الذي يمثله الإسلام نحو التقدم واكتساب العلوم .

 واعتبره (سانسون) غير ملائم للنمو والتكنولوجيا، بما يمثله الإسلام من تحديد واجبات يومية قاسية، مثل: الصلاة، والصوم، وتأكيد الدور الجبري في الأحداث .

وعلى الرغم من تأكيدنا على الجانب الحافز للثقافة الإسلامية في الشهود الحضاري الإسلامي الأول، وما صاحبه من بروز معرفي وعلمي لمدة قرون عبر أسماء برّاقة طرقت أبواب الجامعات الغربية مثل: ابن سينا، وابن رشد، والخوارزمي وغيرهم، وعلى الرغم من هذا، فإن الثقافة الإسلامية الحالية مدعوة إلى تثوير ماهيتها، وتنمية أبعادها، والعودة إلى ينبوعها الديني، حتى تكون قاعدة مثلى لبناء مشروع حضاري جديد متكامل ومتميز بالأصالة والرشد والوفاق الإنساني؛ حتى ترد للمجتمع الإسلامي قدرته على التجديد والإبداع والتجاوز والفعل. لذا وجب تنمية الهوية الثقافية دون تقوقع وانعزال، وتحقيق المشاركة الفعلية للأمة، وتوجيهها في صنع السياسات الاجتماعية والاقتصادية.

والثقافة الإسلامية في هذا المجال تشكل أداة دفع وحفز لترسيخ هذه العلاقة بين الإنسان والاقتصاد. فهي ترفض التواكل والخنوع والفقر والإفساد والاستعباد، وتدعو إلى غرس قيم الوسطية والإصلاح والحرية والعبودية لله، وتحترم العمل اليدوي و الفلاحي، وتشجع على المعرفة، وتدعو إلى التعليم الدائم والمتواصل (اطلب العلم من المهد إلى اللحد(

فتصبح التنمية مساراً اجتماعياً يشكل الإنسان وسيلته الواعية، وهدفه الأسمى في ظل استغلال فعّال لثرواته وإمكاناته

 

المصدر: مهارات النجاح للتنمية البشرية