التوازن والتناسق

يا ترى ما المشهد الذي يَسْتَوقِف أحدنا جماله، ولا تستطيع العين أن تعدوه إلا بعد طول تأمل وانبهار؟ أتدرون ما هو؟ إنه المشهد المتناسق! المجرد المتناسق! فالتناسق من وجهة نظري الشخصية – هو عين الإبداع وجوهر الجمال! وأقصد بالتناسق ترابط الأشياء ببعضها البعض واجتماعها معا في انسيابية رقيقة بلا أدنى تصادم أو نشاز.



 

إن مشهد الصحراء – رغم أنها صحراء – مشهد بديع، بديع في تناسق جباله ووديانه وتلاله وسهوله، بديع رغم أنه مشهد اللون الواحد والانسيابية والانطلاقة النفسية التي يشعر بها أحدنا عن تأمله لمشهد الصحراء التي هي في حقيقتها مظنة الهلاك هما اللذان أحالا المشهد إلى مشهد خلاب يأسر الألباب.
إن الكون كله مبني على هذه القاعدة، قاعدة التناسق. فكل شيء فيه موجود بمقدار معين دقيق لا يزيد ولا ينقص، وكل الأمور فيه مرتبطة ببعضها البعض بنسبة مثالية رائعة، لا إفراط فيها ولا تفريط وحق الكون أن يكون كذلك، لأنه صُنْع الله الذي أتقن كل شيء.

 

إن هذه السنة الإلهية كما أنها راسخة في الكون، فهي كذلك ثابتة في الإسلام. فالتوازن في شريعة الإسلام خِصِّيصَة ينفرد بها عن غيره من الملل والمذاهب، وهذا التوازن هو الذي يضفي عليه الانسيابية واليسر الذي يجعل أفئدة الناس تهوى إليه في وصلها واضحاً خالصاً على طبيعته، غير معكر بشوائب هو بريء منها!! وهذا التوازن ليس فقط في الأمور المتماثلة التي تصبغها طبيعة واحدة، بل هو كذلك في الأمور المتقابلة أو المتضادة.


فالإسلام دين يوازن بين الروح والمادة، والفردية والجماعية، والواقعية والمثالية، والثبات والتغير وما شابه، إنه دين يفسح لك طرفاً من هذه الأطراف المتقابلة مجاله، يعطيه حقه "بالقسط" أو "بالقسطاط المستقيم".

قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7 – 9) والمسلم الذي يجعل هذه الحقيقة في دينه ولا يوطن نفسه عليها في كل أمر من أموره يساهم بقصد أو بدون قصد في رسم صورة مُرْبِكة للإسلام تصد عنه في كثير من الأحيان، وتكون مدعاة لرميه بتهم هو بريء منها!!.

 

فالمسلم الذي يعتزل الحياة ويصير عالة على غيرة بدعوى التفرغ للعبادة، لا يفهم الإسلام، وفي المقابل فالمسلم الذي لا يعظم شعائر الله – ومنها بل من أولها الصلاة في وقتها – بدعوى العمل والسعي على الرزق، أيضاً مسلم لا يفهم الإسلام.

 

إن المطلوب من كليهما إدراك التوازن، بحيث لا يطغى طرف على طرف آخر، مطلوب سعي في الأرض لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15).. ومطلوب كذلك تعظيم لشعائر الله، لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج الآية 32).


أنتقل إلى مشهد آخر، وهو مشهد المسلم الذي يوازن بين أصول الإسلام الأربعة ذاتها، وهم: العقيدة..والعبادات..والأخلاق..والمعاملات..فتراه مائلا كل الميل تجاه أصل معين، عازفا كل العزوف عن أصل آخر. إنه المشهد الأكثر ذيوعا والأشد أسفا الذي تحياه قطاعات عريضة من المتدينين! هناك من المتدينين من يبذل جهداً كريماً في عبادة من العبادات كصيام النفل مثلا، وهو بإذن الله مثاب عليها، مباعد بينه وبين النار بكل يوم من أيام السبعين خريفا مشفوعا له، بهذه العبادة عند ربه، التي كابدها ومنعته الطعام والشراب. فهذا بعض ما جاء في شريعتنا التي فيها نصدق! هذا هو الشق المشرق في الشخصية.

 

أما الشق الذي عليه علامات استفهام فهو عدم رفعه لسماعة الهاتف ولو لمرة واحدة في العام يسأل فيها عن أهله ويصل فيها رحمه! إننا أمام مشهد انعدم فيه التوازن مشهد فيه إفراط في نقل مقابلة، تفريط في فرض! فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". إن قطيعة الرحم مأساة في الدنيا كما في الآخرة!

إننا مطالبون بإدراك التوازن، وتحقيق النسبية المرتبطة بكل عمل من أعمال الشريعة، فما اهتمت به الشريعة وصدرته كأولوية نهتم به ونقدره كأولوية، وما أخرته الشريعة وجعلته من الفروع نؤخره ونبقيه من الفروع، هكذا.


إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد بعض أصحابه من الانعطافة التي انعطفها باجتهاده في العبادة على حساب أمور أخرى مهمة، حيث قال له: إن لبدنك عليك حقا (إذ كان يقوم فلا ينام) وإن لزوجك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه!


إن الإسلام في أشد الحاجة لهذا النموذج الذي يعطي لكل ذي حق حقه والقدر الذي يتطلبه، إن هذا النموذج هو أحب النماذج إلى الإسلام لأنه ببساطة يوافق طبيعته ولا يصادمها كغيرة من النماذج الذين يحترفون إحداث النشاز وإثارة الشبهات بسلوكهم عن الإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله.

 

الأستاذ/ عمرو خالد لمجلة اليقظة بتاريخ 30 يونيو 2004