التلوث المائي في حوض اليرموك

لقد أقدمت في دراستي الجامعيه في جامعة حيفا على إعداد رسالة الماجستير عن حوض اليرموك الذي قلَّما توفَّرت عنه المعلومات الدقيقه من حيث تركيبته المائيه والبيئيه.



ولكن ما أن تقدمت بورقة العمل لتلك الرساله حتى واجهتني معارضة قويه من قبل اساتذه كلية الجغرافيا والبيئه في جامعة حيفا بحجة أنًّ هذا البحث معقّد ويحتاج الكثير من الدراسه والتمحيص الأمر الذي يحتِّم عليًّ التجوال في الحوض باعتباره بقعة أمنيه وقد يؤدي ذلك إلى فشل تلك الدراسه واستخلاص نتائج غير دقيقه. ولكن مع الإصرار والعزيمه تمكنت من أِقناع الأساتذه على السيْر في هذا البحث, وبعد أن حصلت على التصاريح اللازمه من السلطات الاردنيه لدخول منطقة اليرموك انطلقت في بحثي عن مكنونات هذا الحوض من جانبه الاردني والاسرائيلي, اما الجانب السوري لم أتمكن من دخوله لاعتبارات أمنيه.

لقد بدأت بحثي هذا في سنة 2002 وأنهيته في سنة 2006 في جامعة حيفا بإرشاد أساتذه من الجامعه ومن جمعيه المياه العامه, وقد تمحور سُؤال البحث عن الملوثات المائيه في حوض اليرموك وتاثيرها على جودة المياه في النهر الذي من شانه أن يلوث مياه البحيره في طبريا علما انًّ اسرائيل تقوم بضخ- 45 مليون متر مكعب من مياه النهر سنويا إلى بحيره طبريا - مع العلم أنًّ بحيرة طبريا لا تتصل جغرافيا مع حوض النهر- وذلك عبر أُنبوب أرضي من محطة يرموكيم المحاذيه للنهر على الحدود الاردنيه الاسرائيليه التي يتم عبرها ضخ المياه كهربائيا إلى البحيره. وقد بنيت سؤالي هذا بُغية التوصل إلى نتيجة مقنعه للحد من الضخ الجائر لمياه اليرموك الى بحيره طبريا والحد من زيادة تلويث المياه في البحيره. أما فرضية البحث فتمحورت حول التاثير السلبي للنمو السكاني في حوض اليرموك, استغلال المياه بشكل جائر وارتفاع الانتاج الزراعي الذي يزيد من مُعدَّل تركيز الملوثات المختلفه التي من شأنها قد تشقُ طريقها إلى المصادر المائيه في حوض اليرموك.
نهر اليرموك من الأنهار الدوليه ذو أهميه بالغه في موازين المصادر المائيه بين الدول الثلاثه سوريا, الأُردن وإسرائيل, ويمتد حوضه على مساحات متفرقه في تلك الدول الثلاث بنسب متفاوته, وتبلغ مساحته الكليه 6721 كم2. أمّا أوديته الرئيسيه فهي الزيدي, العرّام, العلان, الركاد, الدهب والشلاله. ويشكل الحوض السوري لهذا النهر قرابة 89% من مساحته الكليه ويعتمد بشكل مباشر على الموارد الزراعيه وتربية المواشي وعلى القليل من الصناعه الخفيفه. امّا الحوض الأردني لنهر اليرموك فيشكِّل قرابه ال – 10% والحوض الاسرائيلي لا يتعدّى ال – 1% من مساحة حوض النهر.
تتراوح معدلات المياه السنويه لنهر اليرموك بين 450-500 مليون متر مكعب, تستغِل دول الحوض معظم مياهه على مدار السنه. تقوم سوريا والتي تُعَدْ الدوله الرئيسيه في حوض النهر في الأعلى بإستعمال وتخزين 220-250 مليون متر مكعب من نهر اليرموك ومن شعابه وينابيعه لأغراض زراعيه ولتحسين ظروف القطاع الزراعي في جنوب الدوله. امّا الاردن في أسفل الحوض والذي يعاني من تناقص متزايد في الموارد المائيه, قد أبرم اتفاقيه سلام بينه وبين اسرائيل سنة 1994 وفي البند الذي يخص المياه المشتركه فقد تم تقسيم مياه اليرموك في أسفل النهر بحيث يحصل على حصه مقدارها 110 مليون متر مكعب وضخها من سد العدسيه الى قناه الملك عبد الله في الأغوار الأُردنيه لأغراض بيتيه وزراعيه, ولكن تنعدم اتفاقيه بين سوريا وإسرائيل حول استعمالات المياه المختلفه. أمّا اسرائيل بدورها وإدعائها بأنًّها شريك بالنهر تقوم بجر قرابة 45 مليون كوب سنويا عبر أُنبوب أرضي من محطة يرموكيم إلى بحيرة طبريا, وأمّا ما تبقى من مياه النهر فهو اليسير والقليل يجري في نهر الاردن ثم الى البحر الميت في مناطق الغورالتي تعاني في السنوات الاخيره من جفاف قاس.
لقد تمركز البحث على عدة محاور أمّا المحور الاول وبتعاون مع سلطة المياه العامه تمكًّنتُ من الحصول على النتائج المخبريه للملوثات المائيه في مياه اليرموك السفلي في الجانب الاسرائيلي خاصه الفوسفور الكلي والنيتروجين الكلي على مدار ثلاث سنوات متتاليه, وكانت حصيله هذه التحليلات أنًّ معدل تركيز النيتروجين الكُلي 635 طن سنويا ومعدل تركيز الفوسفور الكلي 94 طن سنويا.
وفي المقابل لهذه النتائج المخبريه لمياه اليرموك السفلي أًقدمت على المحور الثاني للبحث, فقد قمت بتقييم المُلوثات المائيه للحوض بشكل إفتراضي ومحتمل وهذا التقييم بُنِي من عدة مُرَكبات منها إستعمال الأراضي الزراعيه, التعداد السكاني, الصرف الصحي, النفايات الصلبه, إستعمال الأسمده الكيماويه وإلى ذلك. تقييم المُلَوثات في الحوض ( اي المحور الثاني ) أُجري على ثلاث مراحل:
المرحله الاولى تركّزت على رصد مسببات التلويث المختلفه في حوض اليرموك في الدول الثلاث. النمو السكاني لمنطقه حوض اليرموك السوري مرتفع نِسبَةًَََََ إلى مناطق متفرقه في سوريا مما أدّى إلى ارتفاع عدد السكان بشكل ملحوظ, ويتراوح التعداد السكاني للحوض السوري سنة 2006 قرابة 1.3 مليون مقارنة مع سنة 2000 الذي لم يتجاوز المليون, تم رصد المساحات الزراعيه المختلفه: المحاصيل الزراعيه, الحقول الشجريه, عدد الأبقار, المواشي, الطيور الداجنه, النفايات الصلبه, الصناعه وأنواعها وكمية الصرف الصحي لكل حوض.
من هذا الرصد تبين أنّ الحوض السوري ينتج قرابه 53 مليون متر مكعب من الصرف الصحي سنويا, أمّا المواشي فتعدادها يتراوح 650 الف رأس من الأبقار, الأغنام والمواشي, أمّا مساحة الأراضي الزراعيه فكانت قرابه الثلاث مليون دونم ري وبعل.
أمّا الحوض الأُردني فتعداده السكاني 320 ألف نسمه وينتج قرابة 11 مليون متر مكعب من الصرف الصحي سنويا, ويتواجد فيه 60 ألف رأس من المواشي, أمّا الأراضي الزراعيه فيبلغ تعدادها 120 ألف دونم للزراعات المختلفه. أما الحوض الإسرائيلى فصرفه الصحي قرابة المليون متر مكعب والذي يصل مباشرة إلى مياه اليرموك دون المعالجه, أما تعداد المواشي فيبلغ 2,600 رأس, أمّا الأراضي الزراعيه قليله جدا.
في المقابل للمرحله الاولى كانت المرحله الثانيه هي الحاسمه في إثبات فرضية البحث, لقد قمت وبدعم ومساعدة الأُخوه الأردنيين في تجوال متواصل في حوض اليرموك بين الأردن وسوريا, حيث جمعت العيِّنات المائيه في نقاط معينه في جداول النهر السفلي قبل الإتصال بوادي "شلاله" الأُردني ( اي من الوديان السوريه ) وبعد الإتصال بوادي "شلاله", وكان الهدف من تلك العينات الاطلاع على الملوثات من الوديان السوريه والاردنيه على انفراد, وذلك لتقييم التلوث لكل حوض على حده. وتمَّ تحليل تلك العيِّنات في المختبر لمركبات المياه من فوسفور كلي ونيتروجين كلي, فترة العينات كانت ما بين الشتاء والربيع. وقد أثبتت العينات وبشكل قاطع أنّ التركيز الأعلى للملوثات كان من الحوض السوري وبالمقابل القليل من الجانب الاردني.
اما المرحله الثالثه تمحورت حول عوامل الإنبعاثات المختلفه للملوثات المختلفه وماهِيَّة النِسَبْْ التي تصل من هذه الملوثات إلى مصادر المياه المختلفه. وفي هذا المجال أِعتمدتُ على النسبْ الدوليه المبنيه حسب نماذج بنيت لهذا الغرض, وبعد إجراء العمليات الحسابيه تبين أنَّ النتائج الأِفتراضيه بحسب الملوثات المختلفه في الحوض كالتالي: هنالك 75 طن ناتج من الفوسفور الكلي سنويا في حوض اليرموك و 392 طن من النيتروجين الكُلي, أي أنَّ هذه الكميات تتوفر في حوض اليرموك بشكل افتراضي, وبعد أنْ حصلت على النتائج الافتراضيه المتوقعه لكميات الملوثات المائيه لحوض اليرموك أجريت المقارنه بين النتائج الفرضيه والنتائج الحقيقيه لأسفل النهر فتبيَّن أنًّ هنالك تقارب بالنتائج التي حصلت عليها خلال الفحوصات الحقيقيه المخبريه لمياه اليرموك في أسفل النهر وبين التوقعات للملوثات في الحوض خاصة الفسفور الكُلي, اما النتروجين الكُلي فكميته مضاعفه وقد ينبع هذا من المساحات المفتوحه التي تغذي المياه في طريقها إلى محطة يرموكيم. كذلك تبين أنَّ تغذية الجانب السوري للفسفور الكُلي تتراوح 90% والنيتروجين الكُلي تتراوح 84% أمّا الحوض الاردني فتتراوح تغذيته للملوثات بنسبة 10% للفسفور الكلي و- 16% للنيتروجين الكلي.
وبناء على هذه المعطيات, بات واضحا أنَّ هنالك ترابط بين التلوث الافتراضي للحوض وبين التلوث الفعلي في أسفل النهر, وهذا ينبع بشكل مباشر من الازدياد السكاني, ارتفاع إستهلاك المياه لأغراض مختلفه, التطور الزراعي في الجنوب السوري وشمال الاردن مما أدَّى إلى ارتفاع نسبة الملوثات المائيه المختلفه, ووفقا لهذه النتائج التي تَُبيِن أنًَّ حوض اليرموك ومياهه باتت مُلوَّثه وهذا التلوث يزدادُ مع ارتفاع السكان والاستعمالات الزراعيه باتت النتيجه القاطعه أنَ هناك إداره خاطئه في إستغلال مياه اليرموك الى بحيرة طبريا وبشكل جائر, حيث تسعى السلطات الاسرائيليه دوما زيادة حصتها من مياه اليرموك وجرِّها الى بحيرة طبريا, هنالك حاجه مُلِحَّه لخفض ضخ مياه اليرموك واستغلالها من أجل الحد من زيادة ملوحة البحيره الذي بدوره يقلِّل نسبه الاكسجين المذاب في البحيره ويزيد من ظاهرة إِرتفاع الطحالب المائيه المختلفه وتلويث البحيره بشكل عام.
وبناءا على تلك النتائج, لا بد من العمل الجاد من الجهات السوريه للسعي من أجل تقليل الملوثات المائيه في الحوض وذلك بغية الحصول على مياه صالحه قدر الامكان لدول الجوار وخاصة الاردن الذي يعاني دوما من نقص متزايد في موارده المائيه, كذلك على اسرائيل أِحترام الإتفاقيه التي أُبرمتْ سنة 1994 مع الاردن والتي تنص على عدم تلويث المصادر المائيه بينها وبين الاردن, ولكن حتى الان لم تُنفَّذ هذه البنود مماطلهً من الهيئات الاسرائيليه التي طالما لم تحترم سيادة دول الجيران. واذا كان لا بد من المشاركه فالمطلوب من دول حوض اليرموك بناء هيئه مشتركه لإدارة سليمة لحوض اليرموك ذات اهداف واضحه للحَدْ من إرتفاع التلويث المائي ضمن برنامج عمل مشترك.

المصدر: مجلة المياه